الرئيسية » هاني المصري »   27 نيسان 2008

| | |
استمرار المفاوضات: أهون أم أسوأ الشرين؟
هاني المصري

مضى أكثر من ستة أشهر على مؤتمر انابوليس ولم تحقق المفاوضات شيئاً وأصبح واضحاً للجميع، رغم التسريبات المتلاحقة عن التقدم، أنها لن تصل الى معاهدة سلام ولا الى إقامة دولة فلسطينية خلال العام 2008، بل لقد أصبح الحديث يدور عن اتفاق رف، أو اتفاق يتحدث عن ماهية الدولة الفلسطينية، وحدودها وشكلها وبناء مؤسساتها وقدرتها على توفير الأمن لإسرائيل باعتباره الهدف الممكن تحقيقه هذا العام، بدون معالجة جذر الصراع الأساسي وهو الاحتلال. فالمطلوب من الضحية أن توفر الأمن للجلاد لإثبات جدارتها بالحصول على دولة.


وهذا شيء مستحيل طبعا. فالمطلوب أولاً إنهاء الاحتلال. فشل مسار انابوليس أدى الى إحباط فلسطيني وعربي، وأدى الى سقوط الرهان على إدارة بوش، وعلى لعبها دوراً يتسم بأي قدر من الحياد. رغم هذه النتائج المخيبة للآمال، لا يزال الرهان مستمراً على حصان خاسر، وهو الرهان على المفاوضات، وعلى عملية سلام أثبتت الأحداث والوقائع أنها عملية بدون سلام، بل إنها أكبر عقبة أمام تحقيق السلام. فوجود العملية يوحي للعالم كله بأن هناك حركة وأنها يمكن أن تعطي نتائج، خصوصاً أن هذه الحركة شهدت وستشهد مؤتمرات سياسية واقتصادية في انابوليس وباريس وموسكو وبرلين وبيت لحم، ما يقطع الطريق على الجهود والمبادرات الأخرى، ويجعل المفاوضات التي تدور حول المفاوضات هي اللعبة الوحيدة في المدينة. وإذا أردنا التعرف على سبب أو أسباب التعلق بأذيال عملية سلام فاشلة وبدون سلام، سنجد أن السبب الحقيقي أن هذه العملية بتصور الفريق الفلسطيني الذي يؤيدها لا يوجد بديل عنها. فالبديل عنها هو "الدمار والفوضى وانهيار السلطة"، و"البديل عنها جربناه منذ فشل مؤتمر كامب ديفيد، وحتى عقد مؤتمر انابوليس وكانت النتيجة مأساوية بحيث إن الذي دفعك على المر هو الامر منه". ورغم أننا بتنا نسمع عبارات عن استقالة الرئيس أو أن الخيارات المفتوحة أمام الفلسطينيين إذا استمرت المفاوضات تدور في حلقة مفرغة، خصوصاً بعد زيارة الرئيس ابو مازن واشنطن وبعد خطاب بوش التاريخي في الكنيست الإسرائيلي، إلا أن هذه العبارات لا تعكس تبلور قناعة جديدة بضرورة البحث عن الخيارات والبدائل الأخرى والاستعداد لها، فهي عبارات تلقى للاستهلاك المحلي أكثر مما تعكس بداية البحث عن سياسة جديدة. إن الحديث عن مخاطر عدم التوصل الى اتفاق خلال هذا العام يستهدف أكثر ما يستهدف تحسين فرص التوصل له وليس الانقلاب على المفاوضات أو الاستعداد للخيارات والبدائل الأخرى. إن الحقيقة يمكن إيجادها حول الموقف الفلسطيني من المفاوضات من خلال الحجج التي يطلقها أنصار اعتمادها كطريق وحيد لا يوجد غيره. فهم يقولون إن المفاوضات هي الأداة التي أعادت القضية الفلسطينية الى الصدارة، وأدت الى رفع الحصار المالي والعزلة الدولية، وأعادت الرواتب لموظفي السلطة، وإن وقف المفاوضات أو حتى تعليقها يمكن أن يساعد اسرائيل بدعم من الولايات المتحدة الأميركية على تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن إفشال المفاوضات، كما حصل العام 2000 بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد؟ ما يفتح الطريق لعودة الحصار المالي والعزلة الدولية، والى عودة السياسة الإسرائيلية التي قامت على غياب الشريك الفلسطيني والعودة للخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب على غرار خطة فك الارتباط عن غزة التي نفذها شارون قبل مرضه. فالشبح الذي يحلق فوق رأس القيادة الفلسطينية والفريق المفاوض، هو استمرار فشل المفاوضات وقيام الرئيس بوش في اللحظة الأخيرة، بطرح عرض على الفريقين عليهم قبوله أو رفضه، وهذا العرض لن يلبي الحد الأدنى من المطالب والحقوق الفلسطينية، لذا سيتم رفضه مما يحمل الفلسطينيين مسؤولية الفشل الجديد. لذلك طلب ابو مازن من بوش في لقاءاتهما الأخيرة الالتزام بوعده بعدم تقديم عرض غير متفق عليه. لتفنيد وجهة النظر الرسمية المذكورة، يمكن التركيز على ما يلي: أولاً: لا يمكن اعتبار المفاوضات (ولا المقاومة) صنماً نعبده، بحيث تصبح هي الهدف رغم أنها تدور في حلقة مفرغة، حتى بعد اتضاح أن اسرائيل بدعم من الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تفرض الحل الإسرائيلي، وإذا رفض الجانب الفلسطيني هذا الحل فأمامه طريقان لا ثالث لهما: إما تحمل عواقب رفضه أو استمرار المفاوضات رغم استخدامها للتغطية على استمرار سياسة اسرائيل بخلق الحقائق على الأرض من خلال تطبيق المشاريع الاستيطانية التوسعية والعنصرية والعدوانية، والتصرف وكأن المفاوضات غير موجودة. هذا يطرح على الفلسطينيين ضرورة تحديد موقف من المفاوضات الدائرة، فهي مفاوضات في محصلتها عبثية بدون أفق سياسي ولا مرجعية وستقودنا الى كارثة وطنية عاجلاً أم آجلاً. ثانياً: لا يمكن التعويل على عودة القضية الفلسطينية الى الصدارة ومسألة إزالة الحصار المالي والعزلة الدولية لأن الأهم هو في أي سياق، وأي مسار سياسي تتم هذه العودة؟ وهل هي عودة تقود الى إزالة الاحتلال وتحقيق الحرية والعودة والاستقلال؟ أم تصب في سياق تحسين شروط الاحتلال وتجميله واعتبار الحفاظ على السلطة أو عودتها في مناطق (أ) و (ب) هو أقصى أهداف الفلسطينيين رغم أنها لم تعد سلطة تملك حتى الصلاحيات المنصوص عليها في اتفاق اوسلو، بعد أن استباحت قوات الاحتلال مناطقها وأعادت احتلالها، وأصبحت تقتحمها كلما أرادت، ويحدث هذا يوميا في غالب الأحيان. فعودة القضية الفلسطينية الى الصدارة يجب ألا يخفى أنه كان مقابل ثمن سياسي غالٍ، وهو قبول مسار انابوليس الذي يعتبر مرحلة نوعية على طريق تأسيس مرجعية جديدة للمفاوضات بعيدة كلياً عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وعن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. ثالثاً: ليس من المقبول المبالغة بمخاطر فتح الطريق على خيارات وبدائل أخرى، أو التصوير أن البديل عن المسار السياسي الحالي هو الدمار والفوضى وانهيار السلطة والعودة الى المقاومة المسلحة في زمن ليس للمقاومة المسلحة عمق عربي وإقليمي ودولي، أي بديل مختلف جذريا، أو تصوير أن تعليق المفاوضات أو وقفها سيؤدي الى معاقبة الفلسطينيين وتحميلهم المسؤولية عن فشل المفاوضات وذلك للأسباب التالية: أ - لقد أظهر الجانب الفلسطيني اعتدالاً فاق التصور، وأظهرت اسرائيل تعنتاً فاق التصور، وهذا يعني أن القيادة مقبولة دولياً وأميركياً، وإذا اختارت موقفاً يفتح الطريق على الخيارات الأخرى، ليس من الضروري أن ينقلب عليها العالم، بل يمكن أن ينقلب على اسرائيل خصوصاً أن اسرائيل أصبحت مكشوفة تماماً أمام العالم لدرجة أنها لم تطبق الالتزامات الإسرائيلية المطروحة في المرحلة الأولى من خارطة الطريق. فتعليق المفاوضات أو وقفها خطوة إذا أقدمت عليها القيادة الحالية لا تتم كجزء من عودة استراتيجية المقاومة المسلحة، وإنما كجزء من استراتيجية المفاوضات، ولكن تستهدف من وقفها إحداث أزمة تستدعي التدخل الدولي لإنقاذ المفاوضات من دورانها في حلقة مفرغة. وبالتالي لا يمكن معاقبة ابو مازن مثلما تمت معاقبة ياسر عرفات. وهذا الاختلاف هو الذي دفع اسرائيل للأخذ بنصيحة كيسنجر الذي قال لعدد من الزعماء الإسرائيليين "اسرائيل استطاعت أن تصف عرفات بالإرهابي وأن لا تفاوضه ولا تعطيه شيئاً، ولكنها لن تستطيع فعل الشيء نفسه مع ابو مازن فعليها أن تفاوضه بدون أن تعطيه شيئاً". وما دمنا في الحالتين لم نحصل على شيء علينا وقف المهزلة التي تسمى المفاوضات بحجة أن اسرائيل أجبرت عليها. فلا يوجد لإسرائيل شيء أفضل من الوضع الحالي، فهي تقوم بخلق الحقائق على الأرض والمفاوضات مستمرة، وبدون إدانة دولية ولا ضغط دولياً. ب - إن الإدارة الأميركية بعد إخفاقاتها المتواصلة في منطقة الشرق الأوسط، أصبحت بحاجة الى إنجاز ما، ولا تحتمل المزيد من الإخفاقات، لذا يهمها جداً المحافظة على استمرار المفاوضات ومسار انابوليس لذلك لن تفكر هذه المرة بمعاقبة القيادة الفلسطينية الحالية إذا علقت المفاوضات، أو على الأقل لن تقدم على هذا الأمر بالسهولة نفسها التي أقدمت عليها إدارة كلينتون بعد فشل كامب ديفيد، خصوصاً أن الوضع الفلسطيني قد تغير منذ تلك الفترة لأن البديل الفلسطيني عن القيادة الفلسطينية وهو حماس جاهز وفاز في الانتخابات التشريعية الأخيرة. عندما حارب بوش عرفات كان يأمل ويعمل من أجل قيادة فلسطينية جديدة ومختلفة ومطواعة تقلع عن المقاومة ومستمرة لمحاربتها حرباً لا هوادة فيها. الآن إذا حارب بوش أو الرئيس القادم بعده القيادة الحالية سيجد كل الشعب الفلسطيني بكل قواه وبقيادة متشددة صفاً واحداً في مواجهة الاحتلال وضد من يدعم هذا الاحتلال. رابعاً: إن إسرائيل رغم عدم جاهزيتها للسلام، ورغم كل تطرفها وتعنتها أصبحت تخشى من عدم التوصل لحل، وأصبحت مستعدة لقبول مبدأ قيام دولة فلسطينية حتى تحافظ على نفسها كدولة يهودية لذلك تخشى من أن الفشل الجذري للمفاوضات يمكن أن يؤدي الى انهيار السلطة، وتوحيد الفلسطينيين ولجوئهم للمقاومة، والى عودة الدور الدولي للقضية الفلسطينية، وإحياء المبادرات والجهود الدولية الأخرى. أما التهديد بالخطوات الأحادية الإسرائيلية فجب ألا نخشاه كثيراً لأن اسرائيل نفذت خطوة فك الارتباط مع غزة، ولم تنجح في التخلص من غزة وإنما لاحقتها صواريخ غزة وأزمة غزة الإنسانية لدرجة أن اسرائيل تدرس جدياً الآن احتمال العودة لاحتلال غزة مباشرة، بدلاً من الاحتلال عن بعد. خامساً: لا يستطيع العالم أن يتخلى عن الفلسطينيين، لأن القضية الفلسطينية رغم تدهورها في السنوات الأخيرة لا تزال تملك تأثيراً لا يستهان به. فإذا كانت المعونات العربية والدولية لم تتوقف في فترة حكومة حماس وفي ذروة الحصار المالي الدولي، بل لقد زادت بنسبة تزيد عن 30% فالحال سيكون أفضل الآن من السابق، فالفلسطينيون قاموا بمعظم ما يتوجب عليهم وإسرائيل لم تنفذ شيئاً مما عليها. أما الأزمة المالية السابقة فقد كانت أساساً بسبب إقدام الحكومة الإسرائيلية على سرقة واحتجاز أموال الجمارك الفلسطينية والتي تقدر بـ 50-60 مليون دولار شهرياً. وإذا عادت اسرائيل لهذا الإجراء سيستطيع الفلسطينيون الموحدون أن يعوضوا هذا المال المسروق. دعم المفاوضات بالمقاومة أو وقف المفاوضات؟ إن أسوأ شيء هو الاستمرار بمفاوضات عبثية بدون أفق سياسي، مفاوضات تستمر بينما يستمر العدوان والاستيطان والجدار وفصل القدس وعزل الأغوار وإحكام الحصار الخانق على غزة، بحيث إن المطلوب واحد من أمرين: إما وقف المفاوضات وربط استئنافها بتوفر شروط أهمها وقف العدوان والاستيطان أو تغيير الاستراتيجية الفلسطينية الحالية واعتماد استراتيجية تجمع بين المقاومة المثمرة وتسعى من اجل مفاوضات مثمرة بدون التهويل عن طريق الزعم بأن البديل عن المفاوضات الحالية هو الفوضى والدمار وانهيار السلطة والمقاومة المسلحة على طريقة "يا طخه يا اكسر مخه"، هناك طريق ثالث، طريق بلورة استراتيجية وطنية واقعية قادرة على إعادة توحيد الفلسطينيين سياسياً وجغرافياً، وعلى تعزيز مقومات الصمود، واستعادة أوراق القوة والضغط فلسطينياً ودولياً وعربياً. هذه الاستراتيجية الجديدة بحاجة الى إرادة واحدة مستعدة للكفاح من أجل الأهداف الوطنية، ومستعدة للمجابهة السياسية والى مقاومة شعبية ونقل ملف القضية للأمم المتحدة، وإعادة النظر بمهمات وشكل السلطة (لا حلها) ووضعها في خدمة المشروع الوطني، لأن هناك علاقة شرطية وجودية بين استمرار المفاوضات العبثية ووجود السلطة بوضعها الحالي، فهي تصبح عبئاً على المشروع الوطني، ما يفرض إحياء وتفعيل المنظمة حتى تكون فعلاً صاحبة القرار، وتعود السلطة الى حجمها الطبيعي كأداة من أدوات المنظمة.

 

 

مشاركة: