الرئيسية » غانية ملحيس »   04 شباط 2016

| | |
الصِّغار يَكْبُرون ويُواصِلون المَسيرة
غانية ملحيس

من حُسْنِ طالِع الشَّعْب الفلسطيني أنَّه فتِيّ التَّركيب ، إذ تشكِّل الفئة العُمْرِيّة تحت سن الثلاثين عام نحو 70 % ، ما يضمن للمُجتمع الفلسطيني التّجدّد ودوام الحَيَوِيَّة .
يُدَلِّل على صِحّة ذلك ، هذا الحَراك الشّبابيّ الذي يُطلقه الجيل الفلسطينيّ الخامس،
في دَحْضٍ عمليٍّ بليغ للنّظريّة الاسْتِعْمارِيَّة الصّهيونيّة القائمة على تزوير التّاريخ وتغيير الجُغرافيا والدّيموغرافيا . وإفشال تامٍّ لِحُلم مُؤَسِّسي دولة إسرائيل ، الذين راهنوا على نهج الإبادة والتّهجير لنجاح مشروعهم الاستيطاني في فلسطين، وعلى فُقدان الذاكرة الجماعِيَّة الفلسطينيّة لاسْتِقْراره ، وفقا لمَنْطِق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون بِقَوْلِه :" إنَّ الكِبار يَمُوتون والصِّغار يَنْسُون ".

فَها هُمْ فتيات وفتية فلسطين يَتدافعون في العَقْدِ السّابع للنّكبة ، ويتصَدّون عُزَّلاً ، إلاّ مِنْ سِلاحِ الإرادة والإيمان بانْتِصار الحقّ ، ويُواجِهون بِبَسالةٍ نادرة هجمات جيش الاحتلال وَتَغَوّل مُستوطنيه ضِدّ أهلهم ومُقدّساتهم ومُمْتلكاتِهم ، ويُؤَكِّدون أنّ عِشْقَهم للوطن والحرّيّة يفوق تمَسُّكَهم بالحياة ،
وأنّهم لن يتوانوا عن التَّضحية بالنّفس في سبيلِ تَحريره .

وكما الحَراكات والانْتِفاضات الفلسطينيّة السّابقة ، التي انطلقت في منعطفاتٍ تاريخيّةٍ خَطِرة وتَصَدّت لِمُهِمّة تَجديد الثّورة وإِخْراجِ الحَركة الوَطنيّة الفلسطينيّة من مآزقِها .
فإنَّ الحراك الشّبابيّ الرّاهِن ، أيضاً ، يأتي في لَحْظَةٍ تاريخيّةٍ فارِقَة محلِّيّاً وعربيّاً وإقليميّا ودوليّا . إذْ أدْرَك أفرادُهُ خُطورة المَرحلة التي يُعادُ فيها تشْكيل المنطقة العربيّة . ووعوا انْعدام الفُرَصِ لِتَسويةِ الصِّراع الفلسطيني- الإسرائيلي التي كَثُر التَّرويج لها على مَدارِ ثلاثة عُقود ، وذلك للافتقار إلى جدِّيَّةٍ أمريكيّةٍ وغربيّةٍ وجاهِزِيّةٍ إسرائيليّةٍ لإنجاز أيّة تسْوِيَةٍ سياسِيّةٍ مُمْكِنة .
وتلمَّسوا أخطار توظيف أوْهام التَّسويَة لِتَسْريع الأسرلة والتّهويد على امْتِداد وَطَنِهِم المُحتلّ . ولمَسوا عَجْز النُّخب الفلسطينيّة وانغماس غالبِيَّتِهِا في صِراعاتٍ وتَجاذُباتٍ لا عَلاقة لها بالمَشروع الوطني .

فقَرّروا فُرادى أخذ زمام المُبادرة بأنفسهم ، ويبدوا أنَّهُم تَوافَقوا على تَجاوُز اختلافاتِهم الفكرِيّة والسِّياسِيّة والعقائِدِيّة والتَّنظيميّة والجِهَوِيّة ، واتَّفقوا على ضرورة القَفْزٍ عن واقع التَّشرذم الجُغرافي والسِّياسي الفلسطيني القائِم ، وسعوا بِحَراكِهم الذي ، ما يزال ، يَتَّسِم بالعفْوِيّة ، إلى انْتِشال الحَرَكَةِ الوَطنيّة الفلسطينيّة من مأزَقِها الأخطر ، وكَسْرِ الدّائرة المُفْرغة التي طال انغلاقها .
وعِبْرَ تَضحياتهم الجَسورة ، يُحاولون تَصْويب البُوصلة الوطنيّة باسْتِئناف النِّضال التَّحرريّ ضِدّ الغزاة ، مُدْرِكين أنّ ما مِنْ سبيل غيْرَه لاستعادة الوعي والتّاسيس لنهوضٍ وطنيٍّ شامِلٍ يُوقف التّيه الفلسطيني الذي بات يَتهَدِّد الوطن والشّعب والقضِيّة .
ويَمْضي الشّباب الفتِيّ بِثِقَةٍ بِصوابِ نَهْجِهِم ، ولا يَلتَفِتونَ إلى تَحَرُّكات مُوازِيَةٍ لبعض النُّخَب التي بَدأت تنشط على امتداد السّاحة الفلسطينيّة في الدَّاخِل والخارج ، رُبَّما سعيا لاحْتِواء حراكِهِم ، ورُبَّما رَغْبَةً في امْتِطائِه والتِقاط فُرَصٍ يَظُنُّها البَعض باتت مُمْكِنة ، لتأمين عُبُورِه الآمِنِ لقيادة مَرْحَلةٍ جديدة ، قَبْل َالوفاء باسْتِحقاقاتٍ واجِبَةٍ لِمُعالجة ملفّاتِ مَرْحَلةٍ قائِمَةٍ حافلة بالمُنْجَزات والإخْفاقات ، يَتَعذّر إغلاقها دون إجراء نقْدٍ ذاتِيّ تأخَّر كثيراً ، وقَبْل القِيام بِمُراجَعَةٍ مسؤولةٍ شاملةٍ مُسْتَحَقَّة لأداء الحَرَكة الوطنيّة الفِلسطينيّة خِلالها ، على مُستوى الفِكْرِ والسِّياسات والمناهج والأداء ، كي يَتَسنّى التّأسيس الصّحيح للانتقال إلى مرحلةٍ نضاليّة جديدة بِفِكْرٍ وسياساتٍ ومناهج وسلوكيّاتٍ مُغايرة ، تُوَظِّف دُروسَ التّجارِبَ الماضِيَةِ في تصويب المسار وتطوير القُدْرَة الفلسطينيّة على مُواجهة التّحَدِّيات الجِسام ، التي تتربَّص بالمشروع الوطني التّحرري .

ويبْدو أنَّ جيل ما بَعْد أوسلو قَدْ شَبَّ سريعاً ، وأن تجارب ومآلاتِ الانْتِفاضات والحَراكات السّابِقَة قدْ أنْضَجته قَبْل الأوان . فَباتَ عَصِيّا على الاحْتِواء ، حريصاً على التَّبَصُّر ، لا يَأذن لأحَدٍ بِتَوْظيفِ حَراكِه ، سواءٌ مِمَّن باغَتتهم انْطِلاقته مِنْ طرَفَيْ النّظام السّياسي الفلسطيني والقوى والفصائل والتَّنظيمات ، أم مَنْ فاجأتهم شجاعته من النُّخب الفلسطينيّة المُسْتَظِلّة بمُؤَسّسات المُجْتمع المَدني المُنْتَشِرة على امْتِداد الوُجود الفلسطيني في الوطن والشّتات ، المُنْتَظِرَة لِفُرصة ٍللاضطلاع بدور البديل ، رَغْم َ مسؤولِيَّتها التَّشارُكِيّة عن ذاتِ المَناهج والسُّلوكِيّات التي أفْضَت إلى المآزقِ والإخفاقات .

وما يَزال فِتْيَة فِلِسطين يَتَصَدّرون المَشْهَد للشّهر الثّالث على التّوالي ، ويُواصلون حَراكَهُم دون رِعايَةٍ واجِبَةٍ مِنْ جيلِ الرُوّاد ، ومع ذلك يُبْدُون نُضْجاً وحِكْمةٍ ورَوِيَّةٍ مُلْفِتة ، فيُرَكِّزون مُقاوَمَتَهم ضِدّ المُسْتَوْطنين وجُنود جَيْشِ الاحْتِلال في أراضي الدّولة الفلسطينيّة التي تَعْتَرِف بها وتُطالب بإنهاءِ احْتِلالها 138 دولة . ويتَحَصّنون ، بذلك، بميثاق الأمم المتّحدة والقوانين والقرارات الدّوليّة التي تُشرِّع مُقاومة المحتلّ ، ويستَظِلّون ، أيضاً ، باتفاقيّات جنيف - الرابعة التي تمنع المُحتل من نقل سُكّانِها إلى الدَّوْلَةِ الخاضعة للاحتلال .

ولا يُرْهِبهم الاسْتِقْواء الأمريكي والإسرائيلي على القانون الدّولي بِتَسويغ إرهاب جيش الاحتلال وتوحُّش مستوطنيه ضد الشّعب الفلسطيني الأعزل ، بدعوى حَقّ الدِّفاع عن النّفس .
ولا تُغْريهم ، أيضاً ، الدَّعوات المُغامرة للبعض لِعَسْكَرَةِ حراكِهِم وخوض مُواجهاتٍ غير مَحْسوبة النّتائِج .
ولا تُرْبِكْهم ، كذلك ، المُطالبات المُرْتَعِشة للتّراجع عن أدوات الرّدع المُبْتَكَرَة التي - رغم بدائيّتها - أثبتت فعاليّتها وقُدْرَتَها على زعزعة الاستِقرار الهَش، وحِرمان الطّغاة المُحْتَلّين ، المُسْتَظلّين بغطرسة القُوّة والمُحْتمين بالقِباب الحَديديّة والتّرسانة النّوويّة والأسوار المُرْتَفِعة والاقْتِتال العَربي وانقسام النِّظام السِّياسي الفلسطيني ، من التَّفَرُّدِ بالرّاحة والطّمَأنينة والأَمْن .

وما يزالون يَمْضون فُرادى ، ويُواصلون قَهْرَ " القُوّة التي لا تُقْهَر" باقتِدار وثبات المُؤْمِنِ بعدالة قضيّته . الواثق بانْتِصار قُوَّة العَدالة على عَدالة القُوّة مهما طال الزَّمن . العارف بِحَتْمِيَّة حَرَكة التّاريخ . الواعيٍ بقوانين ومتطلّبات وسُبُل إدارة الصِّراع الطّويل الأمد مع المشاريع الاسْتِعمارِيّة الاستيطانيّة العُنْصُرِيّة .
المُدْرِك لِمَكَامِن قُوَّته لارتباطها العضويّ بحقوقه الوطنيّة والتّاريخيّة الثّابتة في أرض وطنه من جهة ، وبإصرار الأجيال الفلسطينيّة المُتَعاقِبَة على بُلوغها مهما عَظُمَت التّضحيات من جهة أخرى .
الواعي ّ لأهمِّيّة الحِفاظ على المُنْجَزات المُهِمَّة التي حقّقتها الأجيال الفلسطينيّة السّابقة ، ولِمواصلة البِناء التَّراكمي عليها .
فعلى الرَّغم من انْقِطاعِ تواصُلِه الضَّروري مع جيلِ الرّوّاد لِتَعَطّلِ آلِيّات تَداوُلِ المَسؤوليّة في المُؤسّساتِ الرَّسمِيّة والأهلِيّة والتَّنْظيماتِ الشّعبيّة الفلسْطينيّة وتَكَلّس هَياكِلِها خلال العَقْدَيْن الأخيرين ، ما حَرَمَ الشِّباب الفلسطينيّ الفتِيّ مِن الرِّعايَة الواجِبَة التي تُحَصِّنَه وتُنير طريقه وتثري حراكه بدروس التّجْرِبة لإعانته على الاضطلاع الكفؤ بمسؤوليّاته في صُنْعِ التَّغيير . 
ورَغْم افتِقارِ حراكِه إلى التَّنْظيم والأهداف والاسْتراتيجِيّات حَتّى الآن ، وهو ما يَسْتَخْدِمه البَعْض من أبناء جيلِنا المُخَضْرَم لِتَبْرير جُموده واكْتِفائه بالمُراقَبَة المُتَشَكِّكَة الخائِفَة من تكرار ذاتِ المصير الذي تعيشه الدّول العربيّة المُجاوِرة ، والتي باعتِقادي أن الأجيالَ المُخَضرَمَة تتحَمَّل المَسؤولِيّة الأساسيّة عنه ، وليس الشّباب المُفَجِّر للحراكات والثّورات . ذلك أنّها أغفلت حَتْمِيَّة تعاقُبِ الأجيال ، وسعت جاهِدَةً إلى مُقاومة الحركة الجَبْرِيّة للزَّمن ، ولم تَقُم بواجباتِها الأساسِيّة
في إعداد الجيلِ الجديد لتَحَمّل مسؤولِيّاتِه عندما يحين أوان الرّحيل ، فخلَّفت ، بذلك، فراغاً ونقصا في جاهِزِيّته للعبور الآمن نحو المُسْتَقبل ، استغلّته التّنظيمات الشّموليّة والقوى الإقليميّة والدَّولِيّة الطامعة في بلادنا العربِيّة ، ووظّفته لمحاصرة التّغيير الذي استهدفه الشّباب الثائر ونجحت في حرف مساره .

ورغم وجاهة المخاوِف التي عَبّر عنها بعض المُعَقِّيبين على مقالاتي السّابقة المتفائلة بالحراك الشّبابيّ ، إلا أنّني أعتقِد أنهم يُغْفِلون الاختلاف الجوهرِيّ في تَشكيل وَعْيَ الشّباب الفلسطينيّ مُقارَنَةً بمثيله العربي ، ويَنسون أنّه يَنْضَجُ مُبَكِّرأ بِفِعلِ الاصطدامِ الدائم بالمُحْتلّ الذي يواصِل استِهدافهم وتغييبَهم بالإبادَة والاقْتِلاع لاستكمال مشروعِهِ الاستيطاني الإجلائي – الإحلالي ، فيَدْفعهم قَسْراً كي لا يَروا عدُوّاً غيْرَه ، حتّى عِنْدَما يَضَلّ قادَتَهم وتَرْتَبِكُ أوْلوِيّات نُخَبِهِم ويَتناحَرون فيما بيْنَهُم على المواقِعِ والنُّفوذ . إذ يُدْرِك شباب فلسطين ويرون بأم العين أن السُّلطة والسّطوة في فلسطين هي حِكرٌ على المُحْتلّ الإسرائيلي وحْدَه ، وأنّ الكُلّ الفلسطيني يقْبَع في دائرة الاستِهداف الصّهيوني .

وعليْه ، لا أرى مُبَرِّراً لتشكُّك بعض النُّخب الفلسطينيّة بدوافعِ وأهداف ومآلات الحَراك الشّبابيّ الرّاهن ، خُصوصاً ، وأنّه رغم فتوّة شبابِه يُبْدي وعْياً لافِتاً ، ويسْتَحْضِر تجارِبَ مُشابِهة للثّورات والانتفاضات السّابِقَة ، ويُدْرِك تَماماً أنَّ صَواب البوصَلة في مُواجَهَة المُحْتَل قد مَكَّن شعبه على الدَّوام مِن تجاوُز كُلِّ المُنْعَطفات الخَطِرة ، واستطاع الشَّعب الفلسطينيّ الصّغير الضّعيف الأعْزَل عِبْرَها إفشال كافّة محاولات تَصْفِيَتِه وتشتيته وإخْضاعِه على مدى أكثر من قَرنٍ ، رغم الاختِلال الهائل في موازين القُوى ، ونجح في مواجهة التّحالف الاستعماري الغربي الصّهيوني المُعَزَّز بالتّواطؤ الدّولي والعَربي الرَّسمي ، واستَطاعَ الحفاظ على هويَّته الوطنيّة ، والاحتفاظ بتماسُكِه المُجْتَمعي ، وأعاد توحيد قُواه الحيّة في الوطن والشّتات ، وَحَشدَهُم حول برنامح وطنيٍّ تّحَرّريٍّ جامعٍ في إطار منظّمة التّحرير الفلسطينيّة ، وكَرّسها مُمثِّلا شرعيّا وحيدا يعترف به العرب والعالم ، وتمَكَّن ، بذلك ، من استعادة موقِعِه على الخريطة السِّياسِيَّة الدَّوْلِيَّة ، ونَيْل اعْتِراف شُعوب العالم بِحُقوقه الوطنيّة واعترفت 177 دولة بِحَقِّه في تقريرِ مَصيرِه على أرض وطنه .

ويَعلم الشّباب الفلسطينيّ الفتيّ أن ، ذلك ، لم يكن مُمْكِناً لولا تَضْحِيات عشرات الآلاف من الشّهداء والجرْحى والأسْرى على امْتِدادِ المَسيرة النِّضاليّة المُتواصلة لِعشراتِ السّنين ، ولولا وجود أطر تنظيميّة ومؤسّسِيّة مؤهّلة ، وقادَة عِظام أثبتوا جدارتهم ميْدانِيّاً ونذروا حَياتَهُم لِحِمايَةِ شعبهم وَتَحْرير وَطنهِم .

وعليه ، بات الشّباب الفتِيّ يعي تماماً أن الخُروج من الواقع الفلسطينيّ المأزووم ، الذي يُوَظِّفه العدُوّ لتَسريع واسْتِكْمالِ مشروعِ الأسرلة والتّهويد ، أصبح ضُرورَةً مُلِحّة لا تَحْتَمِل التّأجيل ، وأنَّ عليه استكمال جاهِزِيّته في ميدان المواجهة مع المُحْتلّ ، فانطلق بِحَراكِه الجَسور دون انْتِظارٍ لنُخَبِه المُنْشَغِلة عن هموم شَعبها وقضِيّتَه الرّئيسة ، وتصدّى لِقِيادةِ التَّغيير ، ولمْ يسْعَ ، بذلك ، لانتزاع سُلْطَةٍ من أحد ، وإنما اسْتَهْدَف وَقْف التَّدّهور وتَصويب المسار الوطنيّ، مُعْتَمِدأ على صِحَّة هدفِه في مواجهة المُحْتل ، وعلى ثقتِه بِقُدْرة شعْبِه على حِمايَة المُنْجَزات التي حقّقتها الأجيال السّابِقة ، وإدراكِه لعناصِر القُوَّة الذّاتِيّة وضرورة تفعيلها واستئْناف النِّضال التَّحَرّري من جهة أخرى وأهَمّها :

* أن نصف الشّعب الفلسطيني ، ما يزال ، مُرابطاً صامِدا ومُقاوِماً في أرض 
وطنه .
وأن نِصفه الآخر ، ما يزال ، يَنْتَظِر العَوْدَة من المنافي القَسْرِيّة ، ثابتاً مُتَماسِكاً رَغْم هول المَصاعِب . مُتَمَسِّكاً بهوِيّتِه الوطنيّة ، حافِظاً لتراثه ، حارِساً لِذاكِرة شعبه ، حريصاً على نَقل إرثِه المعْرفيّ الحافل بتضاريس بِلادِهِ وأسماء مُدُنِه وقُراه وتفاصيل حواريه ورائحة بَحْرِه وعبير برتقاله ومذاق زيتونه وزعتره وأهازيج أفراحِه وأتْراحِه لِوَصْل أجياله المُتعاقِبَة بالوطن ، ولِتَجهيزِهمِ لاسْتِعادَتِه والعودة لاستئناف حياتِهم فيه .

* وأنّ الوعْي الدّولي بالظّلم التّاريخيّ الواقِع على الشّعب الفلسطيني وبالمسؤوليّة السِّياسِيّة والأخلاقِيّة عن رفعه ، آخِذٌ بالتَّعاظُم . إذ باتت شعوب العالم وغالبيّة دوله (138 دولة) تَعْتَرِف بحقِّ الشّعب الفلسطيني في استعادة موقِعِه الجغرافي وإقامة دولته الفلسطينيّة السّياديّة على الأراضي الفلسطينيّة التي تمّ احْتِلالها في عدوان حزيران عام 1967 . وحتى الدّول التّسع التي صوّتت ضدّ قرار الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحِدة بقبول دولة فلسطين في حدود عام 1967 كمراقِب ، وتلك التي امتنعت عن التّصويت (41) ، فجميعها باتَتْ تُقِرّ بهذا الحقّ ، وإن اختلفت في آليّة وتوقيت بلوغه .

* وأنّ دولة إسرائيل - رغم ما تَبْدو عليه من جَبَروتٍ وقُوَّة فائقة - تعيش مأزقاً وُجودِيّاً ، لعُقْم أيديولوجيّتها الصّهيونيّة الرّجعيّة العُنْصُرِيّة المُعاكسة لاتِّجاه تطوّر حَرَكَةِ التّاريخ الإنسانيّ .
ولانسداد أفقها ، لإخْفاق قادَتها وقُواها المتنفِّذة كافَّة وغالبيّة مُسْتَوطنيها اليهود في إدراك عجز الأيديولوجيا عن الانْتِصارعلى التّاريخ والواقع .
ولإخْفاقِهِم ، أيْضاً ، في استيعاب عِبَرِ التّاريخ والتّعَلّم من دروس التّجارب الاسْتِعْماريَّة الاستيطانيّة السّابقة في بِلادِنا العربيّة المَأهولة بِسُكّانِها الأصْلِيّين ، وخصوصا ، تجربة الاستيطان الإفرنجي" الصّليبي " في فلسطين قبل نَحْو تِسعة قرون، الذي مُنِيَ بهزيمةً ساحقة ، بعد مكوث استطال قَرابة قرْنَيْن . والاستيطان الفرنسي في الجزائر الذي تمّ دحره بعد استقرار لِلمُسْتَعْمِر دامَ نحو قرنٍ وثُلث .
ولإِغْفالِهم ، كذلك، لتداعِياتِ الفتوحات التّكنولوجيّة وثورة الاتِّصالات والمُواصلات التي أنهت عَصر احْتِكار القُوّة والمعرِفَة .
ولِتَجاهُلِهم لانعِكاسات العَوْلمة التي وَحّدت مع الأسْواقِ مَصائر الدُّوَل والشُّعوب ، فما عاد بمقدور أيٍّ منها الاحتماء بِسَطْوَة القُوّة - مهما بلغ جبروتها - ، وما عاد بإمْكان أيِّ مُعْتَدٍ غاصِبٍ لِحُقوق غَيْره النّأي بالنّفس عن الأخطار والضَّرَبات المُرْتَدّة لضَحاياه الغاضبين . فكيْف إذا ما كان المُعْتَدي يَتَداخَل مع ضحاياه في ذاتِ المَكان ، ويُواصل للقرن الثاني على التّوالي الإنكار المَرَضِيّ لوجودهم
والتّنَكّر لحقوقهم ، ويُطالبهم في الآن ذاته بالتّجَنُّد لضمان عَيْشِهِ الآمن فوق أنقاضِهِم ؟؟!!

* وأنّ الشّباب الفلسطينِيّ الفتِيّ بات يَعي ، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى ، بأنّ لا مُسْتقبل للمشاريع العُنْصريّة الإلغائيّة التي ترْتكز على نَفي الآخر المُختلف وإنكار وُجودِه والتَّنكّر لِحُقوقه - مهما بلغ جبروت قُوَّتها ومهْما طالت ديْمومَتها - .

* وأنّه أصبحَ أكثر ثِقَةً بِحُكْم التّاريخ وصَيْرورَته ، الذي يؤكِّد أنَّ هزيمة الصّهيونيّة أمر حتْميّ ، لكِنَّ تسريعَ ذلك يحتاج فلسطينيّاً إلى نهج مُقاوِمٍ ، وفِكْرٍ تحرّريّ مُستنير نقيضٍ للفكر الاستعماريّ الصّهيوني الانعزاليّ العُنْصريّ ، ومشروع نهضويٍّ إنسانيّ حضاريّ مُنْفَتِح ، واستراتيجياتٍ مُلائمة وخُطط وبرامج عمل لتحقيقه بسرعةٍ وكُلفَةٍ مناسبة . ويحتاج ، كذلك، إلى استمراريّةٍ نضاليّة وصَبْرٍ وتحالفات مع قُوى التّحرّر والسّلام المُناهِضة للاستعمار والصّهيونيّة . 

مشاركة: