الرئيسية » خليل شاهين »   08 أيار 2016

| | |
فلسطين تنشد تحررها كما تونس ومصر*
خليل شاهين

يرى الكاتب محمد حسنين هيكل في حوار مع فضائية «الجزيرة»، ضمن برنامج «حديث الثورة»، أن ما حدث في مصر وتونس «ليس بثورة، ولكنها مقدمات لثورة، تمثلت في إسقاط الحواجز.. النظم الحاكمة القديمة لم تختف بالكامل وما زالت موجودة ومتشابكة بمصالح، ولا بد من تحويل مقدمات الثورات التي أطاحت برؤوس الأنظمة الحاكمة إلى عمل ثوري حقيقى يوضع له جدول أعمال واضح ومنظم».

ربما تعزز هذا الاستنتاج تطورات الأوضاع في هذين البلدين، حيث الثورة المضادة من بقايا الأجهزة البوليسية تسعى لإجهاض ما تحقق كما هو الحال في تونس، أو غياب الرؤية الواضحة لما بعد إسقاط رأس النظام في ظل الخلاف على أولوية إصدار الدستور على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، أم العكس، كما هو الأمر في مصر.

الاحتلال إلى زوال (قلنديا٢٠١١)

ويبدو جدل الثورة أم الانتفاضة أم الحراك الشعبي أكثر وضوحا في البلدان التي انزلق فيها الثوار من التغيير السلمي إلى المواجهة المسلحة مثل ليبيا، أو استدرج الحراك السلمي فيها إلى حرب أهلية أو معارك قبلية مثل اليمن، أو أصبغ عليه رداء الطائفية مثل البحرين، أو تتعرض للقمع الوحشي بقوة العسكر و«الشبيحة» مثل سوريا.

 

 

في كل الأحوال، عملية التغيير في ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي بدأت، ولن تعود إلى الوراء، وهي قد تدفع المفكرين والمحللين، في سياق فعلها المتواصل، نحو المربع الأكثر أمانا في تشخيص ما يحدث بوصفه مقدمات لثورة ديموقراطية أكثر عمقا في مضامينها مما شهدته المنطقة حتى الآن، وفي حدوده المفتوحة على التدحرج ككثرة الثلج إلى بلدان لا تكل نظمها الاستبدادية في ادعاء اختلافها وخصوصيتها عن تلك التي سقطت أو في طريقها إلى ذلك، في مقولة سبقها إليها وزير الخارجية المصري السابق أحمد أبو الغيط، قبل أن يلحق نظام محمد حسني مبارك بنظام زين العابدين بن علي.

وفي الطريق نحو الثورة الكاملة، يمكن تمييز معالم التغيير الأكثر وضوحا حتى الآن في مصر، سواء على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية، بوصفها محاولة لإعادة بناء الوعي الجمعي، وإفرازاته في الممارسة السياسية اليومية لمختلف مكونات المجتمع السياسي المصري، على خلافاته حول برنامج وحدود عملية التغيير المتاحة، بالتحلق حول فكرة بناء المجتمع الديمقراطي السيادي الحر، حتى وإن لم نشهد تبلور تيار سياسي يطرح برنامجا واضح البنود لترجمة هذه الفكرة إلى واقع.

والمجتمعات الديمقراطية السيادية، تتميز بقدرتها على اتخاذ قراراتها السياسية والاقتصادية وبناء منظومة علاقاتها وتحالفاتها الخارجية انطلاقا من مصالحها القومية (الوطنية)، بالجمع ما بين دمقرطة الحياة السياسية الداخلية، وتحويل الرأي العام إلى مكون أساسي في صنع القرار الوطني، بدلا من القفز عنه، وتهميشه، كما هي الحال في نظم الاستبداد العربية التي طالما استمدت «شرعية استقرارها» من الهيمنة الخارجية على قرارها ومستقبل شعوبها، لا من صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية.

في مصر، ثمة مؤشرات على تغيرات بهذا الاتجاه نحو بناء مجتمع ديموقراطي حر وسيادي، لن تكتمل إلا باكتمال الثورة ذاتها، أي انتصارها على عوامل الدفع نحو الوراء، أو التوقف في منتصف الطريق. ولعل المتغيرات الملموسة في السياسة الخارجية حال «الملف الفلسطيني» من بين المواقف الأكثر وضوحا في ميلها نحو تعزيز الموقف السيادي المصري، سواء فيما يتعلق بالدفع نحو انطلاق مسار المصالحة الفلسطينية بالرغم من الموقفين الإسرائيلي والأميركي المعارضين، أو فتح معبر رفح بوصفه معبرا فلسطينيا مصريا خالصا، بالرغم من الاعتراض الإسرائيلي، وبالقفز عن آلية المراقبة الأوروبية، أو اعتبار عقد مؤتمر دولي يفوض بتطبيق قرارات الأمم المتحدة لا التفاوض حولها أحد الخيارات البديلة عن مسار التفاوض الثنائي الفلسطيني – الإسرائيلي الذي وصل إلى طريق مسدود.

فلسطينيا، ثمة قراءات متباينة لهذه المتغيرات، تبعا لموقع ومصالح من يقرأها، سواء على مستوى كل من السلطتين القائمتين في أجزاء من الضفة الغربية، وفي قطاع غزة، أو على مستوى الفصائل السياسية، لاسيما حركتي فتح وحماس، وإن كان الشعور بالقلق وعدم اليقين إزاء ما تشهده مجمل المنطقة من متغيرات، هو العامل المشترك مثلا وراء توقيع اتفاق المصالحة بالقاهرة يوم 4 أيار الماضي.

تفادت المجموعات الشبابية، في تيارها الغالب، رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، خصوصا في ظل تعقيدات الحالة الفلسطينية، فهناك نظامان قائمان في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، فأيهما الأولى بتوجيه شعار «الإسقاط» نحوه؟

غير أن هناك قراءة مختلفة على المستوى الشعبي الفلسطيني، لاسيما الشبابي، لمجمل المتغيرات في سياق الربيع العربي، خصوصا ما تشهده أولا مصر من مسار يدفع نحو اكتمال الثورة في شمال أفريقيا، وما تشهده ثانيا سوريا من حراك شعبي متعاظم يصنع مقدمات للثورة الديموقراطية الأولى شرق البحر الأبيض المتوسط، بما يمكن أن يترتب على ذلك من خلق توازن جديد في المنطقة العربية، قد يعيد استعارة مقولة ليون تروتسكي حول «الثورة الدائمة» مع بعض التصرف، لنكون في الحالة العربية أمام انتقال لثورة الحرية والديمقراطية من بلد عربي إلى آخر، أي ما يشبه الانتقال إلى «الثورة العربية الديموقراطية الدائمة».

في مقالته «حين يتصالح العرب مع التاريخ» (مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 22، عدد 86 ربيع 2011)، يقول الكاتب الياس خوري إن الثورات العربية «تشير أولاً إلى أن العروبة ليست وهماً أو مجرد أيديولوجيا فارغة من المضامين. العروبة حقيقة تعلن نفسها على شكل ثورات مختلفة ضمن أفق واحد. يقظة العرب الجديدة هي يقظات متتابعة تهدف إلى بناء الأوطان على أسس ديمقراطية جديدة، كمقدمة ضرورية لإعادة بناء الأفق العربي بصفته أفقاً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً.. ثورة واحدة متعددة الصوت، أو ثورات تتشكل كمتوالية واحدة تتسع لإيقاعات مختلفة. هذا هو المعنى الجديد للعروبة، إنه فكرة ديموقراطية تتسع للتعدد، وتبني وحدة المنطقة من دون تعصب قومي أو انغلاق ثقافي».

ولكن أين موقع الحالة الفلسطينية من كل ذلك؟ ثمة من يستنسخ ادعاء أبو الغيط الشهير بالقول أن الوضع الفلسطيني مختلف وذو خصوصية، متجاهلا أن الانتفاضات العربية أيضا مختلفة وذات خصوصية تبعا لطبيعة وظروف المجتمعات العربية التي تندلع فيها. لكن المشترك فيها أولا أنها كلها تنشد الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، وثانيا أنها تعيد تأكيد وحدة المصير العربي وارتباطه اليوم بالنجاح في انتقال انتفاضات التغيير إلى ثورات مكتملة قادرة على تمكين كل من الشعوب العربية من تقرير مصيره بنفسه بشكل سيادي بعيدا عن الهيمنة الخارجية، وثالثا أن ما سبق يعيد الاعتبار لمسار التحرر الوطني الذي لم يكتمل بمسار الثورات العربية السابقة ضد الاستعمار بافتقاده لجوهر عملية التحرر بالفكاك من التبعية والهيمنة وليس فقط الوجود الاستعماري العسكري المباشر. نحن باختصار أمام مقدمات لثورات على الثورات التي أعادت إنتاج الاستبداد الداخلي والتبعية الخارجية طيلة العقود الماضية. وهذا هو جوهر عملية استكمال مهمات التحرر الوطني التي يتصدرها الشباب في عدد من البلدان العربية اليوم.

إذن بماذا يختلف الشعب الفلسطيني من حيث الجوهر في سعيه للتحرر الوطني عن مسارات استكمال مسيرة التحرر والديمقراطية التي تأخذ شكل انتفاضات سلمية، وأحيانا عنيفة، تسعى للتغيير الجذري في البلدان العربية؟ وهل يمكن أن تلتقي نقطة النهاية في خارطة طريق الثورات العربية التي تفرضها الإرادة الشعبية مع جوهر سياسات الاحتلال والاستبداد والعنصرية التي تطبقها إسرائيل؟ الإجابة يمكن قراءتها في القلق الإسرائيلي المتصاعد من مسار المتغيرات في مصر وغيرها من البلدان العربية؛ مسار يسعى لبناء ديمقراطيات عربية تسقط ادعاء الديمقراطية الإسرائيلية الوحيدة في المنطقة، بل وتكشفها بصفتها النظام العنصري الوحيد في المنطقة.

يتبلور الوعي السياسي الفلسطيني، لاسيما في أوساط الشباب، باتجاه الالتقاء مع هذه القيم التي تنفتح عليها مقدمات الثورات المتتالية في المنطقة، لكن التشابك بين مهمات إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية والتخلص من الاحتلال والعنصرية وممارسة حق تقرير المصير، ربما دفع على إيقاع تأثر مجمل الشعوب العربية بالشعار الذي رفعته أولا ثورة تونس، ومن ثم مصر، «الشعب يريد إسقاط النظام»، إلى ارتباك في تحديد الشعار الناظم للحراك الشعبي الفلسطيني في المرحلة السابقة، وقاد إلى الجمع بين شعار تكتيكي مباشر عنوانه «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، وآخر إستراتيجي عنوانه «الشعب يريد إنهاء الاحتلال». لكن في سياق الفعاليات اليومية لم يكن سهلا الجمع بين ساحة، أو ساحات تحرير، توجه الفعل الشعبي نحو تحقيق الشعارين، كما كان الحال في ساحة التحرير بالقاهرة، أو حتى ساحات التغيير في اليمن.

الإرادة أقوى من الجدار (٢٠١١)

لقد تفادت المجموعات الشبابية، في تيارها الغالب، رفع شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، خصوصا في ظل تعقيدات الحالة الفلسطينية، فهناك نظامان قائمان في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، يخضعان لنظام سيطرة عسكرية عنصري تفرضه إسرائيل، ويمتد ليشمل أبناء الشعب الفلسطيني في أراضي 48، فأيهما الأولى بتوجيه شعار «الإسقاط» نحوه؟ كما أن هناك مجتمعات فلسطينية في الوطن والشتات، لكل منها ظروفه وخصائصه، بالرغم من تهميشها جميعا في صنع القرار الوطني، وبعضها يعتبر «الشعب يريد العودة إلى الوطن» الشعار المعبر عن مصالحه أكثر من أي شعار آخر.

وضع يفسر التباين في تحديد شعار موحد ينظم إيقاع الحراك الشعبي في مختلف التجمعات الفلسطينية، لاسيما بعدما تبين أن شعار «الشعب يريد إنهاء الانقسام» قابل للاحتواء من السلطتين القائمتين في الضفة والقطاع، قبل توقيع اتفاق المصالحة، وبعده، وكذلك بعد إعادة الاعتبار لحق اللاجئين في العودة إلى الديار التي هجروا منها من خلال مسيرات العودة نحو فلسطين من لبنان والأردن وعبر الجولان السوري المحتل.

غير أن الأهم، بالرغم من التباين الراهن في الشعارات، أن هناك مجموعات من الشباب الفلسطيني استلهمت روح القدرة على التغيير من ثورتي تونس ومصر أولا، ومنهج التفكير من خارج المجتمع السياسي التقليدي ثانيا، أي أنها تقيم قطيعة مع طرائق تفكير وعمل الفصائل السياسية التقليدية، لترسي بذلك مقدمات الثورة الفلسطينية المطلوبة، بوصفها تسعى كما الثورات العربية لاستكمال مهمات التحرر الوطني، عبر إعادة بناء الحركة الوطنية بالوسائل الديمقراطية، لاسيما عبر الانتخابات للمجلس الوطني وهيئات منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الاسم الحركي فلسطينيا لشعار الثورات العربية «الشعب يريد إسقاط النظام». ويعني ذلك أن الوعي الفلسطيني الشبابي لا يتشكل فقط خارج النظام السياسي التقليدي، بل وفي مواجهته، لأن دفع عملية الدمقرطة حتى نهايتها في إعادة بناء الحركة الوطنية أمر قد لا تحتمله الهياكل والبرامج السائدة في منظمة التحرير والسلطة والفصائل نفسها.

أكثر من ذلك، يبدو من المواضيع التي يجدر نقاشها في موضع آخر المأزق الذي يمكن نقاشه بشأن النموذج الذي استلهمته السلطة الفلسطينية في بنيتها وطرائق عمل مؤسساتها المدنية والأمنية، منذ قيامها في العام 1994، بما في ذلك هياكلها ووظائفها وجدول رواتبها المتضخم وتجاهلها للإرادة الشعبية. فطيلة السنوات الماضية، كانت السلطة إن نظرت شرقا استلهمت نموذج القطاع العام وقطاع الأمن في الأردن، وإن ولت وجهها جنوبا استلهمت نموذج مصر، بدعم من «الدول المانحة» التي بنت النموذجين. وهما نموذجان باتا في مهب الريح في ظل الربيع العربي.

ومثلما هو الحال في ثورة مصر، يشكل تبلور منهج التفكير خارج منظومة النظام السياسي التقليدي، بطرائق تفكيره وسائل فعله وممارسته السياسية اليومية، النقطة المضيئة في الحراك الشبابي في التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، وتفتح الطريق واسعا أمام التوافق على شعار جوهره أن «الشعب يريد تغيير المسار» الذي أفضى إلى تقدم المشروع الاستيطاني العنصري على الأرض، وتراجع دور الحركة الوطنية، والانقسام، وتهميش دور الإرادة الشعبية للفلسطينيين في الوطن والشتات في صنع القرار المتعلق بمصيرهم. ولن يكون المسار الجديد الذي يعمل الشباب على شقه بعيدا عن جوهر عملية التحرر الوطني في المجتمعات العربية، بل يستقوي بها من أجل إعادة بناء الحامل الوطني والاجتماعي القادر على قيادة مسيرة التحرر الوطني من الاحتلال والعنصرية وفق مشروع وطني جمعي يعيد الاعتبار لخطاب الحقوق التاريخية، ويكون بحجم آمال وتطلعات كل الفلسطينيين لممارسة حق تقرير المصير في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي 48 وكافة مواقع الشتات.

----------------------------------------------------

* نشر هذا المقال في ملحق فلسطين الذي تصدره جريدة السفير اللبنانية.

 

مشاركة: