الرئيسية » فيصل حوراني »   08 أيار 2016

| | |
«فتـح»: سمـات النشـأة
فيصل حوراني

حملت «فتح» منذ إنشائها سمات كثيرة متوافقة أو متباينة. بعض هذه السمات كان مما حملته فصائلُ فلسطينية أخرى. والبعض الآخر اختصت به «فتح» وحدها أو تميزت بالاحتياز على سمات خاصة منه. والواقع أن تأثير هذه السمات بتفاعله مع العوامل الأخرى هو ما رسم مسار «فتح»، من النشأة الباهتة في النصف الأول من ستينيات القرن المنصرم، إلى الصعود وتَصَدُّرِ فصائل الحركة الوطنية بعد حرب 1967، إلى التنقل من حال إلى حال ومن موقف إلى موقف مختلف أو حتى مغاير، إلى الانحدار الذي جعل «فتح» على ما هي عليه الآن، حيث التشرذم، وحيث تتوزع الشراذم ما بقي للحركة من نفوذ أو سمعة وتتنافس مع الفصائل الأخرى للاحتفاظ بموقع في المقدمة.

 

السمة الأولى، تتمثّل في أن مؤسسي «فتح» الأوائل ومعظم الذين ناصروها منذ البداية كانوا، ناشطين فلسطينيين انخلعوا عن حركات سياسية قائمة في الساحة العربية، إسلامية أو قومية. وكان مِنْ هؤلاء مَنْ انخلع عن حركات ماركسيّة. صلاح خلف وخليل الوزير، وهما من هما بين مؤسسي «فتح» وراسمي سياستها وسلوكها، على سبيل المثال، انخلعا عن الإخوان المسلمين. وياسر عرفات الذي لم ينتم إلى تنظيم الإخوان في أي وقت كان، في حساب هؤلاء الإخوان، واحدًا من الذين يعوّلون عليهم. أما هو فكان، في حسابه، يُعوّل على تأييد الإخوان إياه. خالد الحسن، على سبيل المثال أيضًا، انخلع عن حزب التحرير الإسلامي بعد أن كان من أنشط أعضائه بين فلسطينيي دمشق. فاروق القدومي كان عضوًا في حزب البعث العربي الاشتراكي في الكويت. وكذلك كان خالد اليشرطي الذي محض «فتح» تأييدًا سريًا وعلنيًا لا يقدر بثمن منذ كان عضواً في قيادته القومية، ومن موقعه هذا الذي تخلّى عنه، انتقل إلى «فتح».

ولا ريب في أن الانخلاع هذا عكس خيبة أمل ما، عميقة أو سطحية، بهذه الحركات، بفكرها، أو بسياستها، أو بسلوكها، أو بهذا كلّه. لكن، لا ريب في أن الانخلاع عن حركات كانت واسعة الحضور في الحياة العامة وواعدة قد عكس وربما بمقدار أكبر، ضيقًا بالفكر والسياسة وقواعد السلوك والانضباط التي كانت هذه الحركات تشدّد في إلزام أعضائها بها. فالانخلاع، بهذا المعنى، إن أمْلَتْهُ دوافعُ متعددةٌ في أغلب الحالات فإن الرغبة في التفلت من الالتزام الصارم بفكرٍ وسياسةٍ محددين وقواعد انضباط حادة كانت بين هذه العوامل. وقد يقع دارس تلك المرحلة على حالات بدت فيها الرغبة في التفلت من الصرامة بما هي الدافع الأول للانخلاع. ولئن جعل تعدد منابت المؤسسين والمناصرين الأوائل من «فتح» ملاذًا لكل صاحب رأي أو غاية. فإن وهن الالتزام الفكري لم يجعل من «فتح» ما طمح بعض مؤسسيها إلى أن تكونه، فلم تصبح هذه الحركة بوتقةً لصهر الآراء واستخلاص جديد مثمر ومتفوق منها جميعها، ولم تتمكن من أن تصير منبرًا لتحاور الآراء التي تحويها.

إلى هذا، طمحت «فتح» في أن تصير منذ تأسيسها حركةُ الوطنيةِ الفلسطينية المتميزة عن الحركات الإسلامية أو القومية أو الأممية المحيطة. لكن السنين انقضت من دون أن تفلح جهود الذين احتفظوا بهذا الطموح في طيّ التأثيرات المنقولة إلى «فتح» عبر المنخلعين عن هذه الحركات، خصوصًا التأثيرات السلبية التي حولت «فتح» إلى معترك للآراء وليس بوتقةً لصهرها. ولقد كان هذا معتركًا كمنَ في خلفيته معتركُ مصالح وتصارعت فيه شللٌ ومجموعاتٌ وكتلٌ يحظى كل منها بشرعية الانتماء إلى «فتح» ذاتها ويملك أن يتهم الآخرين بأنهم وفدوا إليها ليتآمروا عليها.

السمة الثانية، تتمثل في أن غالبية مؤسسي «فتح» ومناصريها جاءوا من أوساط اللاجئين. هنا، قد ينبغي أن نُذكِّر بما هو معروف. فالفلسطينيون توزعوا في عام نكبتهم بين من نزحوا من مكان سيطرت عليه إسرائيل في ذلك العام إلى مكان آخر في الوطن لم تكن قد سيطرت عليه بعد، وبين من تشتتوا خارج الوطن في بلدان المحيط القريبة وبلدان أخرى بعيدة. واللاجئون الذين بقوا في الوطن والذين أُخرجوا منه كانوا وظلوا بمرور السنين أغلبيةَ الفلسطينيين. وقد نبت مؤسسو «فتح» ومناصروها بأغلبيتهم الكبيرة في أماكن اللجوء. وبين أوائل من حظوا بعضوية لجنة «فتح» المركزية الأولى لم يوجد ممن ليسوا لاجئين سوى عضو واحد هو عادل عبد الكريم الذي لم يستمر وجوده في هذه اللجنة طويلاً. بل إن عددًا من هؤلاء الذين سيبقون في اللجنة المركزية وسيعدون من التاريخيين كان قد اضطر إلى اللجوء أكثر من مرة واحدة.

هذه الحالة مكّنت «فتح» من أن تصير المعبّر الأمثل عن مزاج اللاجئين الفلسطينين وتعكس، أكثر من غيرها، معاناتهم، وطموحاتهم، وتوقهم المزمن إلى التمتع بالكرامة، وحاجتهم إلى الاستقرار، وعجزهم عن تحقيقه، واعتيادهم على اطّراد التشرد، وما إلى ذلك من السمات الفردية والجمعية التي تختص بها جماعات اللاجئين.

ولقد أفضى تشظّي الشعب الفلسطيني منذ العام 1948 في جماعات مشتتة تخضع كل واحدة منها لظروف مختلفة عن ظروف الأخرى إلى وقوع هذه الجماعات تحت تأثير تطوُّرين متناقضين: واحد يؤدي إلى تبديد السمات المشتركة للشعب الذي تنتمي هذه الجماعات إليه؛ وواحد يدفع هذه الجماعات دفعًا إلى التشبث بتلك السمات المشتركة. وبمضيّ الوقت واطّراد الحالة، نبتت سماتٌ جديدة، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي. وقد تجاورت هذه السمات ليس على صعيد الجماعة وحدها فقط، بل في داخل كل فرد. فصرت ترى الفرد مقدامًا ومترددًا في آن، مستقيمًا ومخاتلاً، مدافعًا عن شيء وعن نقضيه بالحماسة ذاتها، متحمّسًا للكفاح المسلّح بما هو طريق وحيد وللمفاوضات بما هي أيضًا طريق وحيد، نزيه وفاسد .. إلخ. تطوران متناقضان تصارعا على مدى عقود اللجوء وأبّدا حالة عدم الاستقرار وفاقماها. وقد انعكس هذا أشدّ ما انعكس على «فتح»، وإن لم يبرأ منه أحد أو فصيل أو جماعة، فأسلم «فتح» إلى البلبلة التنظيمية والاضطراب الفكري والسياسي.

السمة الثالثة، هذه المترابطة مع السمات الأخرى بالطبع، تمثلت في أن «فتح»، وهي التي اكتملت نشأتُها بالتزامن مع نشأة م.ت.ف.، حملت، بخلاف المنظمة الجامعة، استهانةً مَرَضِيَّةً بالعمل السياسيّ وبجهود المؤسسات. وفي مقابل هذا ألّهت «فتح» السلاح، ليس ذلك الذي تستخدمه الجيوش النظامية، فهذا جرت الاستهانة به هو الآخر، بل الذي تستخدمه ما وصفته أدبيات «فتح» بالقوى الشعبية ونسبت له مفاعيل سحريّة.

وكان أن شاع النداء القبيح: «اخرس يا قلم ولعلع يا رصاص»، وتباهي حتى قادة من اتحاد كتّاب فلسطين وصحافييها بأنهم يكتبون بالدم، وشُبِّه التفكير بالتحشيش من دون أن يُسخط هذا التشبيه كثيرين.

ألّهت «فتح» سلاحها، وجعلت الافتتان بالسلاح هوسًا عامًا تأثرت به حتى الفصائل التي انبثقت من أحزاب وحركات سياسيّة. وهنا، لا يهم أن يكون تأليه السلاح قد جرى بدافع الرغبة في اكتساب الشعبية، خصوصًا في المنافسة مع الأنظمة الحاكمة المهزومة، أو يكون قد جرى بدوافع أخرى. فاعتبار الكفاح المسلّح هو الطريق الوحيد للعمل الوطنيّ قد أنبت حزمةً من النتائج الضّارّة، خصوصًا ما أضرّ منها بـ«فتح» ذاتها.

وحين اقترن الكفاح المسلّح بالاستهانة بالعمل السياسيّ والجهد المنظّم والاعتماد على المؤسسات، عَجِزَ عن أنْ يُنجزَ المتوخى منه، فأفضى العجز إلى خيبات أمل متعاقبة ومتراكمة، وبضمنها خيبة الأمل بالسلاح ذاته. وفي ختام المطاف، ظهرت النتيجة: ضَرَرُ وحدانية الكفاح المسلح أفضى إلى ضرر وحدانية المفاوضات. الكفاح المسلح طريق وحيد بدايةٌ ضارة أفضت إلى نهاية أشدّ ضررًا: الحياة مفاوضات. ضَرَرٌ أفضى إلى صعودٍ فيه بعض صفات التورّم، وضررٌ آخر أفضى إلى ضمورٍ فيه كثيرٌ من صفات التلاشي.

السمة الرابعة، تمثلت في حرص «فتح»، حتى قبل أن يجري الإعلان عن وجودها، على تأسيس قواعد استناد لها في دول المحيط العربي، مثلما حرصت على إقامة أطيب العلاقات مع الدول العربية الغنيّة. الحرص هذا بشقيه أفضى إلى إقامة تحالفات أملتها الحاجة إلى موقع على الجغرافيا المحيطة بفلسطين أو الحاجة إلى المال، مثلما أفضى إلى الولوغ في عداوات. وفي الحالتين، دفعت «فتح» ثمن التحالفات على حساب سمعتها، ودفعت، بالطبع، ثمن العداوات أيضًا. وكان أخطر ما انتهت «فتح» إليه في هذا السياق هو اطّراد التقرب من الحكام هنا أو هناك واطّراد الانعزال عن شعوبهم. وكان هذا، بتضافره بالطبع مع عوامل أخرى، هو ما أوقع «فتح» في تباينات كسح تأثيرها سمات «فتح» الثوريّة أولاً بأول، وأحلّ التأثيرُ ذاته محلّ السمات الثوريّة سمات الحكام الذين تشكو شعوبهم من وجودهم على صدورها. لنتذكّر التضامن مع نظام صدام حسين، لنتذكّر إقفال العيون عن عيوب الأنظمة الرجعية وإباحة ممارسة النفاق لأسوأ حكامها.

مع استحضار هذه السمة يحضر الانتباه إلى التناقض الفاضح، بين دعوة «فتح» إلى تحرير وطنٍ محتلٍ بما هي دعوة ثوريّة تقدميّة ذات محتوى ديموقراطيّ طالما تغنّت «فتح» بوجوده، وبين تضامنها هي ذاتها إزاء أقبح نظم الحكم العربية وأشدّها إيغالاً في القمع والفساد والتبعية للولايات المتحدة والذين على شاكلتها. ويحضر، بهذه المناسبة شيءٌ آخر ذو صلة؛ فالمال الذي تلقته «فتح» من مصادر هذه هي طبيعتها استُخدِم كثيرٌ منه للإفساد، وجرى استخدامه في هذا المجال بمنهجية ومثابرة أفضت إلى تراجع أو خراب في الساحة الثوريّة الفلسطينيّة، خصوصًا في «فتح».

القراءة اللازمة لتطور «فتح»، لصعودها ثم لانحدارها، للعوامل التي دفعتها إلى أمام والأخرى التي جذبتها إلى وراء، هذه القراءة لن تصير سديدة ما لم تأخذ في الحسبان التأثير المتفاقم للسمات التي عددتها هذه المقالة ولما لغيرها من سمات. وكلُّ قراءة سديدة ستظهر أن تقلبات «فتح» ليست هي التي جعلت الحال الفلسطينية على ما هي عليه الآن. غير أن مثل هذه القراءة ستظهر بالمقابل أن حجم المعاناة والمصائب والكوارث كان سيصير أقلّ لو لم يجر لـ«فتح» ما جرى لها.

*باحث وكاتب فلسطيني مقيم في النمسا.

 

مشاركة: