الرئيسية » هاني المصري »   02 أيلول 2006

| | |
الاضراب العام يقرع ناقوس الخطر
هاني المصري

الاضراب الكبير الذي من المقرر أن يبدأ اليوم السبت، اذا لم تحدث مفاجأة سارة في اللحظات الأخيرة، سيشارك به الموظفون، بمن فيهم المعلمون والاطباء والممرضون وموظفو وزارة الداخلية وغيرهم، سيكون له شأن عظيم وسيكون له ما بعده، بصرف النظر عن نجاحه او فشله او اذا جاء نصف نجاح أو نصف فشل. نجاح الاضراب إشارة لقرب التغيير.. فاذا نجح الاضراب، فان هذا سيعطي موشراً بالغ الدلالة للحكومة و"حماس" على أن الوضع الحالي غير قابل للاستمرار، وأن المزاج الشعبي يتغير، وان الاوضاع ليست على خير ما يرام. واذا نجح الاضراب يمكن ان تتحرك "حماس"، خشية من خسارة التأييد الشعبي، إما نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية تجسد شراكة حقيقية، وعلى اساس برنامج وطني واقعي قادر على الاقلاع، يحقق الشروط الدولية بصيغة قد تحفظ الحقوق والكرامة الوطنية، او تتحرك "حماس" نحو إعطاء الضوء الاخضر لتشكيل حكومة خبراء من المستقلين او حكومة سياسية-خبراء لا تشارك بها "حماس"، لانها ستعتمد (اي الحكومة) برنامجاً قادراً على الاقلاع ولا تستطيع "حماس" ابتلاعه مباشرة، على الاقل حتى الآن. أو تقرر "حماس" التمسك بالسلطة حتى لو ادى ذلك الى انهيار كل شيء، فإما ان تحكم او فلتذهب السلطة الى الجحيم؟ وهذا سيدفع الامور نحو الصدام الداخلي، وسيفتح الطريق واسعا نحو انهيار أو حل السلطة. واذا نجح الإضراب ولم تتحرك "حماس"، فإن هذا سيقوي من احتمال ان يمارس الرئيس صلاحياته الدستورية ويقيل الحكومة، ويكلف شخصا اخر بتشكيل حكومة جديدة، او يعين الرئيس حكومة انقاذ وطني، حكومة طوارئ. فشل الاضراب تصويت جديد لـ"حماس".. وإذا فشل الإضراب، فهذا سيعطي حماس حجة قوية بان الحكومة لا تزال تحظى بالالتفاف الشعبي رغم الحصار الظالم الخانق والتحريض الداخلي المحموم. وهذا الفشل سيضع فتح والكتل المعارضة الاخرى في موقف حرج للغاية، ويجعلها مطالبة مجددا بالانصياع لارادة الشعب ونتائج الخيار الديمقراطي التي تكون قد تأكدت مرة أخرى بعدم المشاركة بالاضراب رغم الجوع والمعاناة. وفي هذه الحالة، اذا تم التفكير باقالة الحكومة أو بتشكيل حكومة طوارئ، ستكون خطوة خاطئة (بل خطيئة) لانها ستفسر كانقلاب على ارادة الشعب والخيار الديمقراطي والحكومة الشرعية، واستقواء بالاحتلال الذي لا يزال يشن هجوماً واسعا على الحكومة ونواب كتلة التغيير والاصلاح، لدرجة ان هذه الكتلة لم تعد تملك الاغلبية المضمونة لها، كما كانت قبل حملات الاعتقال. نصف نجاح نصف فشل.. خطوة نحو الفوضى.. واذا لم ينجح الاضراب، ولم يفشل. او نجح في الضفة وفشل في غزة، وما سيرافق ذلك من احتقان وتوتر يمكن ان يؤدي الى صدام بين انصار الاضراب ومعارضيه، كما لاحظنا من خلال تصريحات خالد ابو هلال الناطق باسم الداخلية، والذي هدد وتوعد كل من يحاول ان يقترب من مدرسة او مؤسسة حكومية. وهذا الاحتمال ان تحقق يمكن ان يدخلنا، خصوصاً في غزة، في دوامة تكون فيها الفوضى أكبر. او يمكن إنْ يوصلنا الى وضع تكون فيه غزة في حال، والضفة في حال آخر مختلف جدا.


ما سبق عرضه، يوضح ان الوضع جد خطير، وان العمل بكل جدية للتوصل الى تفاهم على مخرج يجب ألاّ يتوقف حتى اذا بدأ الاضراب، وفي كل الاحوال يجب ان يتواصل السعي لاتفاق ومخرج، سواء اذا نجح الاضراب أو فشل او ما بينهما؟ الاتفاق الوطني، على حكومة وحدة وطنية او حكومة خبراء او مختلطة، على اساس برنامج قادر على الاقلاع، افضل الخيارات، وافضل بكثير من استمرار الوضع الحالي، او الانزلاق نحو الصدام او اللجوء الى حكومة طوارئ، او من اللجوء الى انتخابات مبكرة. فالانتخابات المبكرة بحاجة الى موافقة اميركية-اسرائيلية، وبحاجة الى توافق فلسطيني على اجرائها. والاجواء الفلسطينية الآن متأزمة بحيث يصعب الاتفاق على اجراء انتخابات مبكرة. هذا مع العلم ان التجربة اثبتت ان اجراء الانتخابات تحت الاحتلال وفي ظل تدخلاته، وبدون ان يسبقها توافق وطني على الاهداف والاسس والمرتكزات لا يقود الى الحل، بل قد يكون سببا جديداً في تعميق الازمة. صرف راتب بدلا من توجيه تهمة بعد هذه المقدمة الطويلة، اعود الى النقاش حول شرعية الاضراب. فأنصار الاضراب ينطلقون من حق اساسي للموظف بالحصول على راتبه مقابل عمله، وهم يقولون اذا كان الموظف والعامل من حقه ان يضرب لزيادة راتبه وتحسين ظروف عمله ومن أجل الضمانات الاجتماعية، فالاولى ان من حقه ان يضرب للحصول على راتبه. الحق بالاضراب منصوص عليه في القانون الاساسي، والاضراب تم اللجوء اليه مراراً وتكراراً منذ تأسيس السلطة في "الفترة الذهبية" لاتفاق اوسلو من (49-0002) وجرى بعدها، رغم العدوان والحصار واعادة الاحتلال ومحاصرة الرئيس ياسر عرفات ثم قتله بالسم. ان حجة العدوان او الحصار او الاحتلال لا تنفع لرفض الاضراب، وخصوصاً بعد تأسيس السلطة وموافقة حماس على المشاركة بها. فليس من المعقول كل من يضرب ويطالب براتبه يصرف له تهمة بدلا من راتبه. فالموظف صمد ستة اشهر كاملة، ولا يمكن لومه اذا اضرب من اجل قوت عياله، وصرخته يجب ان تصل، لا أن يهدد بالفصل والمساءلة القانونية. الامر المميز في هذا الاضراب انه يتعلق بالمطالبة بتأمين الراتب، الذي انقطع بعد فرض الحصار الاسرائيلي والدولي على الفلسطينيين بعد تشكيل الحكومة الحالية. وهنا لا ينفع القول: بما ان الحصار المالي ظالم، فهذا لا يعفي الحكومة من مسؤولياتها. بل الحكومة اي حكومة توجد حتى تحكم. واذا عجزت عن الحكم لاسباب داخلية او خارجية او لأي سبب كان، عليها ان تصارح شعبها، وترد الامانة لاصحابها، وتعطي لحكومة اخرى فرصة لمعالجة ما عجزت عن تحقيقه. الحجة الاساسية لدعاة الاضراب، حتى وان لم يحسن بعضهم التعبير عنها، ان الحكومات السابقة، رغم كل الملاحظات عليها، ورغم الفساد، ورغم المديونية، صرفت الرواتب للموظفين في اسوأ الظروف، حتى في الاشهر الطويلة التي حجزت اسرائيل فيها المستحقات الجمركية للفلسطينيين. إضافة الى ما تقدم، فان الحكومات السابقة يمكن الادعاء عليها كل شيء، لكن لا يمكن الادعاء بأنها حكومات خائنة او مستسلمة، لقد قدمت تنازلات ولكنها لم تستسلم، وصمدت خصوصا في قمة كامب ديفيد وما بعد العدوان الاسرائيلي في نهاية ايلول العام 0002. فالاحتلال شن العدوان على الفلسطينيين قبل تشكيل الحكومة الحالية بسنوات عديدة، ويواصل العدوان ويصعده بعد تشكيلها لدرجة فرض الحصار المالي الخانق. لذا، لا يمكن القول ضمنا او صراحة، بأن الحكومة الحالية مجرد استمرار للحكومات السابقة. كما لا يمكن القول إنها تمثل الوطنية بينما سابقاتها كانت استسلامية. اسرائيل ضد الحكومات السابقة، وضد الحكومة الحالية بصورة أكبر. واستطاعت متذرعة ببرنامج الحكومة الفلسطينية ان تحصل على تأييد دولي لفرض الحصار على الفلسطينيين جميعاً، لذا، فالاضراب يستهدف اقناع الحكومة الحالية، بضرورة سحب هذه الذريعة لانهاء الحصار الدولي، وان ذلك لا يمثل استسلاما او تفريطا، وانما محاولة للخروج من المأزق بشكل لائق. وهنا على الحكومة ان تميز بين من يريد اسقاطها لكي يحكم بدلا منها، متحررا من البرنامج الوطني، وبين من يريد تغييرها حفاظا على القضية والبرنامج الوطني. الاضراب المطلبي نقابي ولكن له بعد سياسي واضح. فالمطلوب من الحكومة ان تغير برنامجها او تفتح الطريق لحكومة جديدة لها برنامج قادر على فك الحصار والعزلة الدولية. وما دامت هناك قناعة عند قطاعات واسعة من الموظفين والشعب بان ذلك يمكن ان يغير الاحوال، سيستمر اللجوء الى الاضراب. فقد كان الشعب صامدا ويقاوم الاحتلال قبل تشكيل هذه الحكومة، وكانت الرواتب مؤمنة. ويستطيع الحال ان يعود كما كان عليه، وبدون اسقاط حماس من الحكم إذا اعتمدت الحكومة برنامجاً قادراً على الاقلاع، خصوصا انها اطلقت عدة اشارات حول استعدادها لذلك واعطيت الوقت الكافي، ومقابل شيء يساعدها على تبرير هذه الخطوة. وما يعزز حجة دعاة الإضراب، ان الحكومة لا تدعو الى خيار المقاومة حتى لو ادى ذلك الى انهيار السلطة. ومن اجل عيون المقاومة يهون كل شيء. الحكومة، وكافة الفصائل والاحزاب (تقريباً)، تتحدث طوال الوقت عن تمديد التهدئة، بينما اسرائيل تواصل العدوان. ولا نشهد مشروع مقاومة وانما عمليات مقاومة متفرقة غالبيتها تأتي رداً على اعمال اسرائيلية، ورداً يوحي بالمقاومة، ولكنه لا علاقة له بالمقاومة النهج ذات الجدوى القادرة على الانتصار. فاطلاق الصواريخ (المواسير) هو اسلوب المقاومة الرئيسي الذي حصيلته ضرر داهم وفوائده قليلة. وكأنه لا توجد اهداف للاحتلال موجودة أينما ولينا الابصار. فمن يريد ان يقاوم، فطريق المقاومة مفتوح. ولكن على المقاومة ان تكون جزءاً من رؤية استراتيجية متكاملة تدرج بالحسبان موازين القوى والخصائص المحلية والمعطيات العربية والدولية، وتحدد ما هي اشكال المقاومة المناسبة لفلسطين في هذه الظروف. ولا اعتبر أن هناك مقاومة لمجرد ان هناك بعض العمليات المتفرقة والتي في غالبيتها تكون غير مدروسة ولاثبات الوجود، وتأتي كاعمال ثأرية انتقامية. الحكومة بلا بديل ولا خطة. وما يعزز انصار الاضراب ان الحكومة لم يعد لديها بديل او خطة او وعود واضحة محددة للخروج من هذا الوضع، حتى ينتظر الموظف ويصبر وهو على نور. الحقيقة ان الحكومة راهنت في البداية على الدعم العربي والاسلامي وعلى التقشف واتخاذ اجراءات داخلية اصلاحية، فوجدت ان الوعود كثيرة والحصيلة قليلة، وأن ما يتجمع بحاجة الى قرار أميركي- اسرائيلي حتى يصل. وان الرغبة بتوظيف اعضاء وانصار حماس وافراد القوة التنفيذية لزيادة قدرة الحكومة على النجاح تعاكست مع الحاجة للاصلاح وتخفيض النفقات والامتناع عن التعيينات. الآن الحكومة تراهن على الوقت، وعلى المجهول، وعلى حدوث شيء يساعدها على الخروج من هذه الورطة. وآمال الحكومة معقودة على أن مرور الوقت سيدفع الفصائل الاخرى الى قبول المشاركة بالحكومة الحالية دون تغيير جوهري في برنامجها، واعلانها حكومة وحدة وطنية. ولكن هذه المراهنة مستحيلة الحدوث، لأن الفصائل - خصوصاً فتح - لن تشارك الا بحكومة وحدة وطنية بشراكة حقيقية، وتعتمد برنامجاً مقبولاً دوليا. اما المراهنة على المجهول فهي لا تغني ولا تسمن من جوع. وقد تأتي رياح الاحداث بما لا تشتهي السفن الفلسطينية. ويجب ترتيب البيت الفلسطيني ليكون جاهزا للتعاطي مع كل التطورات والاحداث سواء أكانت ايجابية أم سلبية، من موقع اقوى حتى لا تطيح العواصف المحتملة الهبوب في المنطقة بالسفينة الفلسطينية التي تعيش حاليا لحظة من أسوأ لحظات حياتها. الإضراب حق وواجب مهني ووطني.. أنصار عدم الاضراب حجتهم أن الاضراب تساوق مع المؤامرة الاميركية-الاسرائيلية، وجزء من المحاولات لاسقاط الحكومة والالتفاف على ارادة الشعب. والاضراب لن يعطي نتيجة لان الحكومة فعلت كل ما تستطيعه. والاضراب يجب ان يستخدم ضد الاحتلال والحصار الدولي وليس ضد الحكومة. وذهب بعض الوزراء الى حد اعتبار كل من يضرب، بأنه بلا ذمة ولا ضمير ولا اخلاق ولا وطنية ومتواطؤ مع الاحتلال. وينسى هؤلاء ان الإضراب حق من حقوق الانسان. وان الاضراب شيء، ومحاولات توظيفه سياسياً شيء آخر. رغم ان البعد السياسي للاضراب لا يمكن تجنبه كما أوضحت. ومن المفيد ان اشير الى ان لينين وهو مؤسس الدولة السوفياتية، وباني أول نظام اشتراكي في التاريخ، ناظر رفاقه في الحزب الشيوعي عندما رفضوا حق العمال في الاضراب بحجة ان النظام الاشتراكي يؤمن للعمال اقصى ما يمكن من حقوقهم ومطالبهم دون حاجتهم للاضراب. وموضحاً لهم بأن لا احد يعرف مصالح العمال أكثر من العمال أنفسهم، وان البلد الاشتراكي يمكن ان يشهد تشويهات داخلية، وأشكالاً من التعسف والاستغلال يجب العمل ضدها من خلال الدفاع عن حقوق، مثل حق الاضراب الذي يعتبر سلاحاً لتصحيح مسيرة البلد الاشتراكي. وإذا كان لينين دافع عن حق عمال روسيا بالاضراب، وهي كانت معرضة لحرب من البيض المدعومين من كل اعداء الاشتراكية، فعلى حكومتنا أن تتواضع، من حقها أن تدعو الى رفض الاضراب ولكن بدون تهديد المضربين، ولا الطعن في أخلاقهم ووطنيتهم ودينهم بل بالحوار والتفاوض معهم لاقناعهم بخطأ عملهم، او للتوصل الى مخرج مناسب من هذا الوضع، ما دام الموظف مقتنعاً بان تشكيل حكومة جديدة، بمشاركة الجميع وعلى اساس برنامج وطني واقعي، يمكن ان ينهي الحصار والعزلة الدولية، من حقه وواجبه المهني والوطني ان يضرب حتى يكون هناك حل. أما تزوير الوقائع، بالقول إن السلف رواتب، وان الحكومة الحالية قدمت رواتب ثلاثة اشهر وغير مسؤولة عن راتب شهر آذار لأنها استلمت الحكم في نهاية اذار، وان المشكلة في طريقها للحل اذا تم فتح معبر رفح، او السماح بدخول الاموال، فهذا لا يجدي. فقرار فتح المعبر ودخول الاموال والافراج عن المستحقات التي تحتجزها اسرائيل قرار اسرائيلي-اميركي، وهو مرتبط باعتماد برنامج فلسطيني قادر على الاقلاع. برنامج وطني واقعي لا يلبي الشروط الدولية، كما هي ولكنه ينزع الذرائع من أيدي المجتمع الدولي. وعندما يتم ذلك سيكون الموقف الاميركي-الاسرائيلي معزولا وفي موقف ضعيف. ولن يستطيع بعدها ان يواصل الحصار لفترة طويلة. ما يجب ان يكون معلوما للجميع ان بقاء الحال من المحال!! وأخيراً، لو كان الضرر الحاصل ينحصر في مسألة الرواتب فقط، لهان الأمر، وكان يمكن احتماله للمزيد من الوقت، لكن الاضرار والاخطار تحيق بالارض والسلطة والشعب والقضية، عبر الاستيطان والجدار وتهويد القدس وتقطيع الأوصال، وتدهور مكانة القضية، وبث بذور الانشقاق في صفوف الشعب الفلسطيني. فنحن بحاجة الى انقاذ وطني عاجل ولا يقبل التأخير

مشاركة: