الرئيسية » هاني المصري »   13 أيلول 2008

| | |
إضراب التعليم والصحة في غزة: ما هكذا تورد الإبل!
هاني المصري

في مقابلة مع صوت فلسطين صباح الخميس، لا تزيد عن خمس دقائق، كال بسام زكارنة رئيس نقابة العاملين في الوظيفة العمومية الاتهامات جزافا للفصائل الفلسطينية الوطنية وشبكة المنظمات الأهلية في غزة والشخصيات الاعتبارية التي أصدرت بيانات أو أدلت بتصريحات أو وقعت على عرائض انتقدت فيها الاضراب المستمر في قطاعي الصحة والتعليم مع احترامها للحق المقدس في الاضراب، واستعدادها لتبني المطالب النقابية للمضربين، وذلك على أساس أن الاضراب لم يسبقه أي خطوات تحذيرية أو تدريجية، ولاسيما أن الإضراب سياسي بامتياز، ويجب الابتعاد عن تسييس الاضرابات المطلبية.

 

لقد قال زكارنة إن الفصائل الوطنية والشخصيات الاعتبارية في غزة جبانة لانها تخشى القتل لذلك تخاف من اغضاب "حماس"، لذا اتخذت مواقف وسطية تدافع عن الحق بالاضراب وتطالب بوقف الاضراب، ولكنه عدل قليلا بقوله: انه يقدر وضعها الحرج، فالله يكون معها ويساعدها على الجحيم الذي تعيشه تحت سلطة الانقلاب في غزة. أما شبكة المنظمات الاهلية فهي تريد وفقا لزكارنة ان تستمر في نهب وسرقة اموال الشعب الفلسطيني، ولكنه لم يقل لنا ما علاقة ادانة الاضراب باستمرار النهب والسرقة!

أما الشخصيات التي وقعت على العريضة فهي شخصيات "مهترئة ولها مطامع شخصية وسياسية، وتتطلع الى التحالف مع "حماس" في الانتخابات القادمة "وانه شخصيا اتصل بخمس من هذه الشخصيات التي سارعت الى تبرئة نفسها من البيان، وقالت ان اسماءها زجت بدون علمها، وانها ستصحح الموقف، ولكنها لم تفعل شيئا مما يدل على أنها "متقلبة وتريد أن ترضي كل الاطراف".

وبما أنني أحد الاشخاص الذي وقعوا على البيان، ولم يتصل بي زكارنة أقول له انه من حق أي فصيل او منظمة اهلية او شخصية وطنية او أي انسان فلسطيني ان يدلي برأيه بكل حرية في أي قضية عامة، ومن واجب الجميع احترام حرية الرأي بدون كيل الاتهامات لمن يخالفنا الرأي. لقد قال فولتير انه مستعد لدفع حياته ثمنا لحرية الاخرين في الادلاء بارائهم المخالفة لرأيه.

إن حالة الاستقطاب الحاد، والانقسام السياسي والجغرافي، والتحريض المتبادل، تجعل اطرافها ترفض قبول أي رأي آخر، ثالث، ويتهمه بعض أنصار القطبين بالوسطية والانتهازية والجبن، مع ان الرأي الوطني الواقعي الديمقراطي العقلاني قد يكون هو خشبة الخلاص الوحيدة من الانقسام المدمر الذي نعيشه ويمكن ان يصل بنا الى الكارثة الوطنية، لانه اذا اختفى هذا الرأي الواقعي، وانحاز الكل الفلسطيني الى هذا القطب او ذاك سيتسارع التدهور، ونصل الى الانهيار التام بسرعة قياسية. نحن بحاجة الى صوت العقل والحكمة. فلا يمكن وضع مصير قطاع غزة وشكل الحياة فيه ومستقبله مطية لأهواء سياسية، فيكفي الناس معاناتهم غير المسبوقة في التاريخ جراء الاحتلال والحصار الاسرائيلي المفروض على قطاع غزة وحملات العدوان الحربي الاسرائيلي المتلاحقة واستمرار الاقتتال الداخلي والمناكفات السياسية التي دفع المواطن ولا يزال يدفع ثمنا باهظا من دمه وقوت ابنائه ومن معيشته، فأصبح المريض اليوم في مستشفياتنا محروما حتى من حقه في المعاينة الطبية بسبب منع الاطباء من القيام بدورهم الانساني.

المسألة يا صديقي بسام، ليست مهنية ولا نقابية، وانما سياسية تتعلق بصراع حاد على كل شيء، وبما أن القضية في خطر، والمشروع الوطني يتراجع بصورة متزايدة والانسان الفلسطيني يعاني معاناة مزدوجة تحت نار الاحتلال ونار الانقسام، فيجب الا نكتفي بالتمترس وراء الحق، فالحكمة أولى بالاتباع. فليس هناك حق اعلى ولا أكبر من حق المقاومة، ومع ذلك اتفق الجميع على التهدئة لانهم ارتأوا ان المصلحة الوطنية اقتضت ذلك. ورغم الحق المقدس بالاضراب فإن الاضراب أدى الى نتائج مأساوية وطنيا ومهنيا. لقد استغلت سلطة "حماس" الاضراب اسوأ استغلال لإحكام سيطرتها على حقل التعليم من خلال معاقبة المضربين وتعيين معلمين بدلا عنهم، وتسير في نفس الاتجاه بالنسبة للصحة مع ان مهمتها اصعب لان الاطباء البدلاء غير متوفرين بنفس السهولة التي تم فيها استبدال المعلمين المضربين . فاذا كانت الاجراءات التي اتخذتها سلطة "حماس" بحق المعلمين تطال العشرات قبل الاضراب اصبحت الان تطال الالاف بعده.

اما ان تتفق معي تماما او تكون ضدي تماما، هذا مبدأ بوش، والمحافظين الجدد، الذي انتهى الى جعل العالم الذي نعيش فيه في فوضى وحروبا ودمارا وموتا. وهذا المبدأ نفسه يمارس عندنا فاذا لم تكن مع "حماس" فأنت عدوها (مع فتح)، والعكس صحيح، بينما التاريخ والجغرافيا والسياسة والثقافة تدل على ان هناك مسافة بين "فتح" و"حماس" ولا تمثل احداهما الخير كله، والاخرى الشر كله، وليس بالضرورة ان تكون في نقطة في المنتصف، بل قد يقف أي انسان او المنظمة الاهلية او الفصيل اقرب الى "فتح" او "حماس" أو مستقلا عنهما، ويلعب بذلك دورا انقاذيا يتراوح بين اطفاء الحريق ولا ينتهي سوى بانهاء الانقسام واستعادة اللحمة الوطنية .

ان ينصب احد نفسه وصيا على الاخرين ويحتكر الحقيقة والصواب، ويوزع شهادات الوطنية والدين والصلاح على الاخرين فهذا كافر وذاك خائن والثالث فاسد والرابع جاهل والخامس طامع، فهذا ليس من الديمقراطية في شيء. فالديمقراطية حكم الشعب للشعب، وعلى أساس تمكين الاغلبية من الحكم وضمان حق الاقلية بالمعارضة. فلا تكتمل الديمقراطية بدون معارضة.

وعندما تتسابق بعض النقابات او بعض النقابيين للعب ادوار سياسية تتجاوز المهمة النقابية كليا ويرتضون ان يكونوا اداة يستخدمها السياسيون، فلا يلومون سوى انفسهم. فهذا يشكل اساءة كبرى للعمل النقابي، فأن تنتقد قيام قناة الجزيرة لسبب ما تعتبره دورها الاعلامي المنحاز شيء من حقك، وان تطالب بمحاسبتها فهذا شيء اخر وليس من حقك ويضعك في خانة مكممي الافواه ومنتهكي حرية الرأي والتعبير. وان تعترض على المنتقدين للاضراب شيء من حقك، أما أن تتهمهم بوطنيتهم ودوافعهم فهذا يمس بحقوقهم وحرياتهم.

أن أحسن شيء فعلته الحكومة هو الامتناع عن معاقبة عدم المشاركين بالاضراب بعد أن تم ترهيب المعلمين والاطباء والعاملين في حقلي التعليم والصحة بأن عدم مشاركتهم بالاضراب سيؤدي الى فصلهم.

وإن أبأس شيء فعلته حكومة "حماس"، أنها اعتدت على المعلمين والاطباء واعتقلت وعذبت عددا منهم وفصلت الكثيرين وعينت بدلا منهم، حتى ولو كانوا معلمين بدون أي خبرة.

نداء أخير اتوجه به الى الجميع بضرورة تحييد القطاعات الخدماتية والانسانية عن السياسة، والعمل على حماية وصيانة الامن الاجتماعي والحقوقي لدى المواطنين. الاضراب حق، ولكن تسييس الاضرابات المهنية خطأ بالغ والتوسع في استخدام الاضراب يفقد هذا السلاح اهميته. يجب مراعاة حساسية الموقف الفلسطيني الحالي، الامر الذي يجعل الاضراب، اذا استخدم اكثر من اللازم يصب في اذكاء نار الانقسام، وينتهي الى عكس ما كان يهدف اليه. فهل هذا هو المطلوب؟ وهل بهذه الطريقة يتم تحقيق الحقوق وتوفير الخدمات للمواطنين؟!

 

مشاركة: