أخيراً، انتصرت بلعين القرية الفلسطينية الصغيرة التي أصبحت معروفة على امتداد العالم.
وجاء انتصارها واضحاً، لا لبس فيه، من خلال قرار من محكمة العدل الاسرائيلية بتعديل مسار جدار الضم والتوسع بصورة تعيد حوالي نصف أراضي القرية المصادرة إلى أصحابها. منذ بدء مسيرة بلعين الأسبوعية والتي استمرت حتى الآن ثلاث سنوات، كنت أتساءل ما الذي يجعل بلعين تشذ عن القاعدة، وتكون الاستثناء؟! كيف يمكن لقرية صغيرة جداً، ومعها متضامنون أجانب وإسرائيليون أن تملك كل هذه الإرادة والإصرار والمثابرة التي جعلت الغالبية تفخر والبعض يسخر من المقاومة السياحية، مقاومة البسكويت، بحجة أن ما تشهده بلعين كل يوم جمعة مجرد "فشّة خلق" لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس سوى عمل من أعمال المنظمات الأهلية المموّلة من الجهات الأجنبية؟!
وعندما بدأت بلعين تتحول الى نموذج، حيث شاهدنا أم سلمونة وارطاس وبعض قرى سلفيت يسيرون على طريقها، وجدت بعض التفسير حول لماذا تصرّ بلعين على مسيرتها الاسبوعية بلا كلل ولا ملل؟، وكيف تستطيع ذلك دون التفات لحالة الاستقطاب الحاد والتحريض المتبادل والاقتتال الداخلي الذي تحول الى حسم عسكري وانقلاب، والى سلطتين، واحدة سلطة الأمر الواقع في غزة، والأخرى السلطة الشرعية في الضفة؟، وكيف استطاعت بلعين أن تمضي في طريقها دون أي حساب للمفاوضات المجمدة وعملية السلام الميتة والمحاولات الجارية لإحيائها، ودون أي التفات للدعوات التي تستهين بالمقاومة الشعبية السلمية ، سرّ صمود بلعين ومفتاح تفسير أسباب انتصارها يكمن في توفر القناعة الراسخة لدى القائمين على المبادرة، بإمكانية النصر.. إن هذه القناعة هي الكنز الذي لا يفنى، وهي التي أوصلت الى تحقيق هذا المكسب الصغير في طريق النضال الطويل، الكبير جدا في مغزاه ودلالاته.
إن انتصار بلعين الصغير ذا المغزى الكبير، لم يتحقق بجهد منظم ومبادرة منظمة واعية من الاتجاهات المركزية، ولا القيادة ولا الفصائل، التي انشغلت بمسائل تعتبرها أهم.. فقد انشغلت بالمفاوضات حول شروط المفاوضات والتجاذبات الداخلية والصراع على السلطة أو بالحديث عن المقاومة، والمقاومة المسلحة تحديداً، باعتبارها الطريق الوحيد أو الرئيس للتحرير، دون توقف أمام حقيقة ان الحديث عن المقاومة في السنوات الأخيرة أكبر بكثير من المقاومة، وان المقاومة العسكرية الممارسة تكون إما ثأرية وانتقامية أو ردة فعل، أو لتسجيل موقف للتاريخ، أو -هذا يحدث في معظم الأحيان- أصبحت المقاومة المسلحة وسيلة لتحسين موقع هذا الفصيل أو ذلك أو هذه المجموعة، أو تلك داخل فصيلها، وفي إطار السلطة وم.ت.ف، ومن أجل التأثير والامساك بالقرار الفلسطيني أو لخدمة تحالفات اقليمية ودولية.. و لم تتم مراجعة المقاومة المسلحة ورؤية جدواها، وهل جاءت في محصلتها بنتائج إيجابية أو سلبية..
الآن، وبعد انتصار بلعين، الكل يتغنّى بالانتصار دون إعطاء الفضل لأصحابه من الفلسطينيين والاسرائيليين والأجانب، الذين أطلقوا مبادرة بلعين وانخرطوا بها بشكل مستمر ومثابر، ودفعوا ثمنها بالاعتقالات والضرب وتحمّل القنابل متعددة الأنواع، التي كانت تُطلَق عليهم باستمرار، ولكن دون سقوط شهيد واحد.. إن الحقيقة التي يقفز عنها أن بلعين مبادرة محلية ولم تعكس توجهاً مركزياً، ولم تتبناها الاتجاهات والفصائل، خصوصاً الأساسية، رغم مشاركة أعضاء الفصائل مشاركة أساسية فيها.. لو كانت بلعين تجربة متبنّاة مركزياً لما كانت ولما استمرت تجربة بلعين صرخة وحيدة في البرية لفترة طويلة من الزمن، ولتحولت الى شكل المقاومة الرئيسي والزاحف والصاعد دوماً الى الأعلى.
لو اقتصر الأمر على بلعين لهان الأمر، ولكن السنوات السابقة قدمت العديد من النماذج التي قامت على مبادرات محلية وحققت انتصارات متفاوتة، ولو وجدت الرعاية والاهتمام ووُضِعت على الأولويات وفي الموازنات لحققت نتائج باهرة وعظيمة.
إن تجربة بلعين مثلها مثل تجربة الحماية الشعبية الدولية التي استطاعت جذب آلاف المتطوعين الاسرائيليين والأجانب للمشاركة في نضالات الشعب الفلسطيني ومناهضة الاحتلال.. وتجربة مقاطعة الاستيطان عملاً وتعاملاً وتجارة، التي يمكن أن تتعاظم بشكل مضمون، خصوصاً أنها وصلت الى نقاط عديدة في العالم، خصوصاً في أوروبا وأميركا وكندا، ولم تصل الى قناعة الكثير من الفلسطينيين.. إن مقاطعة الاستيطان بصورة كلية ستنجز نصف المعركة معه دون تضحيات.
ومقاطعة البضائع الاسرائيلية التي لها بديل محلي يمكن أن تكون لها نتائج هائلة في تشجيع القيم والثقافة الوطنية والمنتجات الوطنية، شرط أن تحرص هذه المنتجات على أن تقدم سلعاً جيدة ومنافسة.. ومقاومة التطبيع سلاح استراتيجي يمكن أن نرفعه في أيدينا، خصوصاً أن مبادرة محلية أيضاً استطاعت أن تصل الى قرار الأكاديميين في بريطانيا بمقاطعة الأكاديميين الاسرائيليين..
وأخيراً؛ المبادرات المتنوعة والفردية والمؤسسية، التي نفذت لتعزيز مقومات الوجود العربي الفلسطيني البشري على أرض فلسطين بكل الأشكال الممكنة اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً.
إن كل هذه المبادرات المذكورة محلية، ولم تتحول الى مبادرات مركزية عامة، رغم حرص بعض المسؤولين والقيادات على دعمها وركوب موجتها أحياناً، وبصورة رمزية.
السؤال هو: لماذا وصلت الاتجاهات المركزية والفصائل والنخب المختلفة، أو تكاد تصل، الى العقم، رغم استمرار وجود الاحتلال، ورغم فشل كافة السياسات والخطط وأشكال النضال التي اتُّبِعت لتحقيق المشروع الوطني؟ الجواب يكمن في تراجع المشروع الوطني، بحيث غاب أو غُيِّب، فتقدمت المبادرات المحلية لتسد الفراغ، وتثبت أن الشعب حيّ وقادر على العطاء وعلى حماية قضيته، رغم كل شيء.
لا يمكن الاستمرار بالمفاوضات العبثية والمقاومة العبثية في وقت نجد أمامنا طريقاً للمقاومة المثمرة القادرة على إيصالنا للمفاوضات المثمرة الكفيلة بتحقيق أهدافنا الوطنية بالحرية والعودة والاستقلال.
شكراً بلعين، لقد قدمت لنا نموذجاً للنضال قادراً على الانتصار وعلى توحيد الشعب، بأقل الخسائر وأسرع وقت.. ماذا لو تحولت تجربة بلعين الى عشرات أو مئات النماذج في كل أنحاء الأراضي المحتلة؟ ماذا سيفعل الاحتلال لوقفها والانتصار عليها.. فإذا قام بقمعها بشدة شديدة سيُهزَم، وإذا تهاون معها سيُهزَم؟.. فالمقاومة الشعبية هي الحل دون إسقاط الحق المبدئي بكافة أشكال النضال.. والمقاومة الشعبية هي التي تجعل الاحتلال يخسر أكثر مما يربح، وهذا يدفعه للتفكير بالرحيل.. أما الاستجداء وانتظار الفرج من سيد البيت الأبيض، أو غيره، لكي يضغط على حكام تل أبيب، فهو مثل انتظار غودو، الذي لن يأتي أبداً!! أما تصور إمكانية الانتصار على الاحتلال عسكرياً في ظل المعطيات المحلية والعربية والدولية الراهنة، فهو يرهن المصير الفلسطيني باحتمالات غير مضمونة على الاطلاق، وتبني حساباتها على استيقاظ المارد العربي أو المارد الاسلامي، الكفيل كل واحد منهما، بالانتصار على إسرائيل بضربة واحدة.. إن تغييب الدور الفلسطيني جُرب وفشل، وحصره بإبقاء شعلة النضال حيّة جُرب وفشل، ولا بديل عن قيام الفلسطينيين بواجبهم كاملاً والتطلع الى جذب العرب والمسلمين والأحرار في العالم كله لنصرتهم ونصرة قضيتهم!!