بعد أن بات واضحاً أن قمة الرياض لن تعدل مبادرة السلام العربية، إلا أن نتائج القمة تحاول أن ترسمها وتحددها رايس في جولتها الجديدة في المنطقة عشية انعقادها، بحيث يتم التركيز على تعديل المبادرة تحت لافتة تفعيلها ودون المساس بنصها الأصلي!.
فقد نفت رايس أن تكون هي أو الإدارة الأميركية قد طلبت تعديل المبادرة، بل امتدحتها، واعتبرتها شأناً عربياً، وتصلح أن تكون أساساً وأفقاً للمفاوضات. ولكن قبل أن نتفاءل بهذه التصريحات الإيجابية علينا أن نرى ما تحاول رايس تسويقه.
إن رايس تسعى في جولتها الحالية إلى تحويل مبادرة السلام العربية من خلاصة للموقف العربي، يجب أن تقبل كما هي أو ترفض كما هي، إلى نقطة انطلاق للمفاوضات، وعرض عربي أول يمكن أن تتلوه عروض أخرى، فإن القمة في هذه الحالة، تكون قمة المزيد من الهبوط بالموقف العربي. على القمة العربية في الرياض أن تقوم بالتمسك بمبادرة قمة بيروت، وتضع الآليات الكفيلة بتطبيقها كما هي، وليس تعديلها تحت لافتة التفاصيل. وهذا يكون من خلال توظيف أوراق القوة العربية السياسية والاقتصادية وحاجة الإدارة الأميركية للعرب في هذه المرحلة للخروج من مأزقها في العراق وكل المنطقة، لإقناع إدارة بوش بالضغط على إسرائيل لكي تقدم مبادرة إيجابية أو تستجيب لمبادرة السلام العربية. بدلاً من ذلك تسعى إدارة البيت الأبيض من خلال جولة رايس لإنقاذ إسرائيل من الموقف الحرج الذي وجدت نفسها فيه مؤخراً. بعد أن تذكر العرب مبادرتهم المنسية، بحيث ظهروا أمام العالم بالطرف المستعد للسلام، بينما ظهرت إسرائيل على حقيقتها كطرف يرفض السلام، ويحاول فرض شروطه، سواء على طاولة المفاوضات أو عبر مواصلة إقامة حقائق على الأرض تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل المطروح عملياً.
إذاً، مبادرة السلام العربية يمكن أن تصبح بعد القمة العربية، مجرد عرض أول قابل للتعديل والتغيير من خلال التفاوض وآليات التطبيق والتفعيل، وهذا أمر خطير للغاية. وخطورته أكبر لأنه تنازل عربي جديد دون أي مقابل إسرائيلي. فأقصى ما قدمته حكومته أولمرت، ويمكن أن تقدمه حديثها مجرد حديثها عن مبادرة السلام كأساس للتفاوض، ولكن مع توضيح أن هناك نقاطاً ايجابية فيها هي التي تتحدث عن الصلح والتطبيع وإنهاء الصراع والمطالب العربية من اسرائيل، وهذه النقاط يجب تكريسها وبلورتها أكثر وأكثر، والبدء بتحقيقها منذ الآن. ففي مستهل زيارتها قالت رايس إن تطبيع العلاقات مع العرب يجب أن يصاحب المفاوضات الثنائية التي سترعاها الولايات المتحدة الأميركية. وقبل رايس طالبت ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية وبالفم الملآن العرب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل تحقيق السلام.
إن اللقاءات والزيارات التي أجراها أو قام بها مبعوثون عرب يمثلون دولاً ترتبط بأية علاقات مع إسرائيل مثل السعودية مع إسرائيل على مستويات مختلفة، مجرد نموذج قابل للتطوير إلى تطبيع رسمي عربي مع إسرائيل دون مقابل، ولمجرد أن اسرائيل يمكن أن توافق على استئناف المفاوضات. إن مثل هذه الطريقة بتقديم التنازلات المجانية من طرف واحد، يمكن، في أحسن الأحوال، أن تحرج إسرائيل قليلاً، ولكن لها مردود سلبي للغاية، لأنها تفتح شهية إسرائيل لطلب المزيد من التنازلات العربية. وإذا عدنا للتاريخ القريب، إلى قمة بيروت، نجد أن هذه القمة التي أقرت مبادرة السلام العربية، قامت من خلال هذه الخطوة التاريخية بتقديم تنازلات كبرى سواء من خلال الاستعداد للاعتراف والصلح والتعاون مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة العام 1967، أو عن طريق تقديم صيغة للاتفاق على قضية اللاجئين تنص على التفاوض على حل متفق عليه لقضية اللاجئين وفقاً لقرار 194، وهذا يجعل هذه القضية العادلة، وكل ما تنطوي عليه من حقوق لا لبس فيها تكرسها قرارات الشرعية الدولية، محل تفاوض وحل يجب أن يكون متفقاً عليه، وهذا يضع الفيتو في يد إسرائيل. ومع ذلك رفضت إسرائيل هذه المبادرة، وهذا البند تحديداً الذي يتحدث عن قضية اللاجئين لأنها تريد إسقاطه حتى من أجندة قضايا التفاوض.
وفي الحقيقة ان اسرائيل لا ترفض بند اللاجئين فقط في مبادرة السلام العربية بل ترفض كل البنود التي تحقق المطالب والحقوق العربية مثل البند الذي ينص على الانسحاب من الأراضي المحتلة العام 1967، بما في ذلك القدس، وتصر إسرائيل على الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية، وجدار الضم والتوسع، والمناطق الأمنية والاستراتيجية، والأحواض المائية الرئيسية. وأخشى إذا استمرت أحوال النظام الرسمي العربي على ما هي عليه أن تبدأ التغييرات على مبادرة السلام العربية تتوالى من اعتبارها عرضاً أول إلى التنازل عن مكوناتها من خلال الآليات التي تسعى لتطبيقها بحيث يستبدل مبدأ الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة العام 1967، بموقف التفاوض على مدى الانسحاب إلى حدود متفق عليها، وموقف الاقرار بتبادل الأراضي وتلبية الاحتياجات الأمنية والدينية والاستراتيجية الإسرائيلية، التي تشمل ما تعتبره اسرائيل حقاً لها بأخذ الحقائق التي أقامتها منذ الاحتلال وحتى الآن بالحسبان عند التفاوض على قضايا الوضع النهائي. وهذا الموقف تتضمنه ورقة الضمانات الأميركية التي منحها بوش لشارون فيما اعتبر وعد بلفور أميركياً لإسرائيل.
على العرب إذا أرادوا تحقيق سلام عادل أو متوازن، أن يتمسكوا بمبادرتهم كما هي ودون تعديل ولا تغيير ولا اعتبارها مجرد عرض أول، وان يطالبوا إسرائيل بطرح مبادرتها، وإذا قامت بذلك يتم رؤية هل يوجد ما هو مشترك أو ما يصلح أساساً للتفاوض، أما المبادرتان، كما هو متوقع، تبعدان عن بعضهما بُعد الأرض عن السماء. وفي هذه الحالة ليس أمام العرب سوى إحالة ملف القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن. والتأكيد على أهمية قيام دور فعال للأمم المتحدة من خلال اعتماد صيغة المؤتمر الدولي لأن هذه الصيغة وحدها يمكن أن توفر المرجعية (قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي) ويمكن أن تتوصل إلى وضع الضمانات والآليات الملزمة وجداول التنفيذ.
إن صيغة المفاوضات الثنائية التي تحاول رايس تسويقها مجدداً مشفوعة بمفاوضات متعددة الأطراف يتم تحت مظلتها التطبيع العربي مع اسرائيل التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية المنحازة كلياً لإسرائيل قادت الى الحلول الجزئية والانتقالية التي عمقت الاحتلال الإسرائيلي بأشكال متعددة، ويمكن أن تقود مجدداً الى إعادة انتاج الماضي أو الى تحقيق التطبيع العربي مع اسرائيل دون حل الصراع، وهذا يجعل إسرائيل في موقف أقوى وأقل حماساً لحل هذا الصراع. هذا ما حدث سابقاً، ويمكن أن يحدث الآن.
ألم تطرح قمة بيروت مبادرة السلام العربية، وتركتها دون أن تحاول تسويقها، وانتقل بعض الأطراف العربية بسرعة نحو خارطة الطريق، وهذا أضاع أربع سنوات هباءً منثوراً، فخارطة الطريق رغم أنها أقل من مبادرة السلام العربية بكثير لم توافق إسرائيل عليها، بل حولتها إلى خارطة طريق إسرائيلية من خلال وضع 14 تحفظاً رئيسياً عليها، نسفتها من الأساس. واستغلت اسرائيل السنوات السابقة لتكثيف وتوسيع الاستيطان، وبناء جدار الضم والتوسع الذي تريد أن يرسم حدود إسرائيل النهائية.
من يريد تسويق مبادرة السلام العربية، لا يقوم بإحياء خارطة الطريق التي استخدمتها اسرائيل كغطاء للاستمرار في فرض حلها الانتقالي طويل الأمد متعدد المراحل. مبادرة السلام العربية تستوجب آلية تطبيق مختلفة جوهرياً، والا نكون نجرب المجرب مرة وراء مرة، ولم نقتنع بالمثال العربي الذي يقول: "اللي بيجرب المجرب عقله مخرب".