الرئيسية » هاني المصري »   06 تشرين الأول 2009

| | |
فضيحة "غولدستون" بين المسؤولية والمعالجة
هاني المصري

 

إن تأجيل إقرار تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان خطيئة سياسية ووطنية، سواءٌ جاء بطلب من الفلسطينيين أو من المجموعة العربية أو من الاثنين معاً لأنه يمثل خضوعاً ذليلاً للضغوط الأميركية والإسرائيلية، واستمراراً للتعلق بأذيال عملية سلام ماتت منذ وقت طويل ولم يبق منها سوى عملية بدون سلام.

وما كان لمثل هذا الطلب، الفضيحة، أن يحدث لولا الموافقة الفلسطينية لأن فلسطين هي القضية، وقيادتها هي صاحبة الشأن المعترف بها عربياً ودولياً. فبدون تغطية فلسطينية لا تستطيع الدول العربية أن تمرر هذا القرار.

فإذا طلبت المجموعة العربية ووافقت فلسطين، أو إذا طلبت فلسطين ووافقت المجموعة العربية، فهذا لا يعفي فلسطين أو المجموعة العربية من المسؤولية التي ستبقى جسيمة في كل الأحوال.

السؤال المهم والحاسم هو ليس من اتخذ القرار، فالرئيس بحكم صلاحياته ومسؤولياته هو الذي يملك إصدار مثل هذا القرار بوصفه رئيس السلطة، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية.

فلا يستطيع رياض المالكي، وزير الخارجية، ولا صائب عريقات، عضو اللجنة التنفيذية، ولا ابراهيم خريشة، السفير الفلسطيني في جنيف، اتخاذ مثل هذا القرار، بل أقصى ما يستطيعونه هو أن يقدموا التوصية بالموافقة أو الرفض، ولكنهم لا يملكون اتخاذ القرار، فصاحب القرار هو الرئيس.

لماذا اتخذ الرئيس هذا القرار، بشكل فردي بعيداً وبمعزل عن كافة المؤسسات الوطنية والشرعية من اللجنة التنفيذية للمنظمة، والحكومة، واللجنة المركزية لحركة فتح، وقيادات مختلف الفصائل والأحزاب الممثلة، وغير الممثلة في منظمة التحرير، والتي استنكرت جميعها أو أسفت لصدور هذا القرار، وعبرت عن مواقفها في ظل فوضى سياسية وإعلامية، شهدنا فيها تبادل الاتهامات والبحث عن كبش فداء وتسريبات مضللة، وتباين في ردود الفعل الفلسطينية التي تراوحت بيت اعتبار ما حدث خطأ أو خطيئة أو جريمة أو خيانة وطنية، الى تجهيل الجهة المسؤولة أو تحميل الرئيس أو المجموعة العربية أو الاثنين معاً.

المهم الآن، لماذا اتخذ القرار؟

قال إبراهيم خريشة إن القرار اتخذ بعد التشاور مع القيادة الفلسطينية، من أجل المزيد من التشاور وتوفير الإجماع حتى يصدر قرار فاعل، وهذه حجة واهية لأن الإجماع مستحيل، فالفيتو الأميركي يقف له بالمرصاد في مجلس الأمن، الآن أو بعد 6 أشهر، والإجماع يعني حصول مساومة على مسألة قانونية، ولا يوجد في القانون نصف جريمة حرب.

إن القرارات تتخذ في مجلس حقوق الإنسان بالأغلبية، وكان العدد اللازم لصدور القرار متوفراً. وصدور القرار يسمح بنقله الى مجلس الأمن ومن ثم الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما يسمح بنقله فوراً الى محكمة الجنايات الدولية. وهنا نتساءل لماذا إعطاء كل الاعتبار لدولة واحدة هي الولايات المتحدة الأميركية وإهمال والاستخفاف بكل بلدان العالم رغم أن أميركا منحازة بشكل مطلق لإسرائيل وتتعامل معها كدولة فوق القانون الدولي، ونتجاهل بقية دول العالم المؤيدة لفلسطين.

قال مسؤولون فلسطينيون مباشرة أو سربوا ان القرار جاء بسبب ضغوط أميركية بلغت الى حدّ ان الإدارة الأميركية هددت بسحب يدها من ملف المفاوضات وعملية السلام إذا أقر تقرير غولدستون، وضغوط إسرائيلية علنية وسرية على لسان نتنياهو وليبرمان بوقف عملية السلام، وفرض عقوبات اقتصادية على السلطة تبدأ بعدم تمكين شركة "الوطنية" للاتصالات من العمل كما صرح ليبرمان، وتحميل السلطة شرط الجزاء بدفع 300 مليون دولار إذا لم تبدأ "الوطنية" بالعمل خلال وقت محدد، ولا تنتهي بمصادرة أموال الجمارك الفلسطينية، لقد ضاع الوطن من أجل "الوطنية".

عن أية عملية سلام تتحدث الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية، فعملية السلام ميتة منذ زمن، وتجري الآن محاولات لإحيائها وفقاً للشروط الإسرائيلية، وذلك بعد تراجع إدارة اوباما عن مطلبها بتجميد الاستيطان وعن وعدها بإطلاق خطة سلام ملموسة رضوخاً للتعنت الإسرائيلي في وقت تمضي إسرائيل بفرض الحقائق الاحتلالية على الأرض، خصوصاً في القدس المحتلة، التي تهدف الى جعل الحل الإسرائيلي شيئاً فشيئاً هو الحل الوحيد المطروح والممكن عملياً.

هل السلام يتناقض مع العدالة واحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي ومعاقبة مجرمي الحرب الإسرائيليين على جرائمهم حتى يتم تأجيل المصادقة على تقرير غولدستون من أجل استئناف مفاوضات السلام؟

هل السلام يتطلب من الضحية أن تطالب بأن يفلت الجلاد من العقاب؟ بئس هكذا سلام، ولسنا بحاجة له.

إن السلطة مفترض أن تكون أداة لتحقيق البرنامج الوطني، ومفترض أن تخدم المصلحة الوطنية لا أن تصبح عبئاً على القضية الفلسطينية وضد المصلحة الوطنية.

إن أخطر ما حدث هو أن القيادة الفلسطينية تخضع للضغوط وتتنازل في قضية في منتهى الأهمية بدون مقابل، ولمجرد وعد باستئناف المفاوضات، فالحياة مفاوضات، كما كتب صائب عريقات.

وهناك أعذار تساق لتبرير ما حدث هي أقبح من الذنوب، تتمثل بأن الدول العربية تخشى إذا حوكمت إسرائيل على خلفية تقرير غولدستون أن تحاكم على انتهاكها لحقوق الإنسان، وأن المقاومة تحاكم لأن تقرير غولدستون يعتبر أن "حماس" ارتكبت جرائم حرب، وهذا يشكل مدخلاً لمحاكمة المقاومة. إن تقرير غولدستون ليس مثالياً ولكنه يقدم فرصة لمحاكمة إسرائيل على ارتكابها لجرائم حرب، إن فلسطين تحت الاحتلال، وعلى الفلسطينيين جمع واستخدام كل أوراق القوة والضغط من أجل دحر الاحتلال، وليس إلقاء كل أوراقهم في سلة المهملات..

لو حصلت السلطة على مقابل يساوي هذا التنازل مثل إطلاق سراح 1400 (يساوي عدد الضحايا) معتقل من ذوي الأحكام العالية أو تجميد الاستيطان تجميداً كاملاً، ولا يوجد ما يعادل دماء الضحايا، لكان الأمر نصف مصيبة، اما تقديم التنازلات المجانية لمجرد وجود ضغوط فهذا تصرف مقلق، لأن الأعداء عرفوا السر وأنهم يكفيهم الضغط على القيادة الفلسطينية حتى تتراجع، لقد أصبح التنازل الفلسطيني مرضاً مزمناً.

أما بالنسبة لتشكيل لجنة تحقيق فإن أهميتها أنها تشكل اعترافاً بالذنب وهذا فضيلة. ولكن لجنة التحقيق حتى تقوم بعملها بشكل جيد عليها أن تكون لجنة مستقلة ولها صلاحيات واسعة، وأعضاؤها ليسوا من الجهة التي من المفترض أن تتعرض للتحقيق، ويجب أن تفوض بالإجابة على أسئلة لا تنحصر بمعرفة ما جرى أو تفسير القرار بالتأجيل وإنما تحديد المسؤوليات وكيفية المعالجة والمحاسبة وألا تكون نوعاً من العلاقات العامة، ومحاولة لامتصاص المعارضة الواسعة الجماعية والتخفيف من وقع الفضيحة.

إن التعامل مع فضيحة غولدستون يجب ألا يتم بشكل فئوي، ومناسبة لتصفية الحسابات الذاتية الداخلية، أو لتخريب محاولات المصالحة الوطنية.

فبعض قادة "حماس" تصرفوا بلا مسؤولية من خلال الحديث عن "الخيانة العظمى" والبحث عن مكسب ذاتي على أساس أن ما جرى أضعف الرئيس والمنظمة و"فتح" وأزاح التقرير الذي يتحدث عن جرائم حرب ارتكبتها "حماس"، في حين أن المطلوب التركيز على القضية الأساسية وإجراء تحقيق ومحاسبة المسؤولين ووضع أسس لتوفير قيادة جماعية على أساس إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وبما يضمن تغيير المسار السياسي. فيكفي الاستمرار بالجري وراء أوهام المفاوضات الى الأبد وبأي ثمن!!

تبقى ضرورة العمل من أجل تأمين الاستمرار بدعم تقرير غولدستون، وضمان رفعه الى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة فوراً كما اقترحت منظمة العفو الدولية وعدد من منظمات حقوق الإنسان، والعمل من أجل رفعه الى محكمة الجنايات الدولية، لأن هذا أبسط الواجبات التي على القيادة الفلسطينية أن تقوم بها، حتى تقف إسرائيل في مكانها الطبيعي، في قفص الاتهام لأن هذا يمكن أن ينجح في معاقبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وحتماً سيجعل إسرائيل تفكر أكثر من مرة قبل ارتكاب جرائم حرب جديدة.

 

مشاركة: