الأحداث المؤسفة، التي شهدتها عبسان فجر يوم الاثنين، وراح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور، ثلاثة قتلى وعشرة جرحى، معظمهم من اعضاء حركتي "فتح" و"حماس"، إثر محاولات خطف واشتباكات استخدمت فيها القذائف المختلفة، تشعل كافة الاضواء الحمراء، وتتطلب المسارعة الى اطفاء الحريق قبل أن يشعل السهل كله، والقابل جدا للاشتعال اذا لم يتم قطع الطريق على الفتنة عبر اقتلاع فتيل الحرب الاهلية ومعالجة اسبابها وجذورها.
أحداث عبسان، باتت متوقعة، وهي مجرد تجليات جديدة للأزمة التي يشهدها النظام السياسي الفلسطيني، والتي احتدمت مؤخرا بصورة متسارعة على خلفية نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة، التي ادت الى حدوث تغيير جوهري مفاجئ نقل "حماس" من موقعها خارج السلطة، وخارج النظام السياسي الفلسطيني كله، الى الحكم مباشرة دون المرور بمرحلة وسيطة تلعب فيها دور المعارضة البرلمانية او الكتلة المانعة، وتستعد من خلالها للانتقال من ترف المعارضة الى مسؤولية الحكم.
لا يكفي أن يردد الجميع أن الحرب الاهلية خط أحمر لا يجوز ولا يمكن تجاوزه، حتى تظل هذه الحرب بعيدة عنا. فما دامت اسباب الخلاف والانقسام، بل والصراع موجودة، وتتفاقم باستمرار وسط زيادة في حدة الاحتقان والتوتر الداخلي، والتحريض والتراشق الإعلامي، وسط أنباء تتحدث عن حشد القوات وشراء وجمع الاسلحة وتحديد ورصد العناوين التي يمكن ان تتحول بسرعة الى اهداف، فما دامت هذه الاجواء هي المسيطرة سيبقى شبح الحرب الاهلية يخيم في سماء فلسطين.
وما دامت حالة ازدواج السلطة (السلطة برأسين)، قائمة، فإنها تنذر بالشرور وعظائم الامور، وسرعان ما يحاول طرف او الطرفان حسمها بحيث تتحول حالة ازدواج السلطة عاجلاً أم آجلاً الى حرب اهلية، يمكن ان تأخذ في طريقها الاخضر واليابس، وسيكون الطرف الفلسطيني المنتصر فيها، اذا كان يجوز وصف الغالب فيها منتصراً، مهزوماً. فالمنتصر الوحيد من اية حرب داخلية هو الاحتلال. فالاحتلال سيأخذ من الصدام الداخلي الفلسطيني اذا وقع حجة قوية جديدة لتبرير سياسته العدوانية العنصرية الاحتلالية التي تريد فرض حل انفرادي اسرائيلي بحجة غياب الشريك الفلسطيني.
ان الذي يجعل احتمال الحرب الاهلية، احتمالا واردا (ولا اقول مرجحاً) ان هناك اختلافا جوهريا في البرامج السياسية والمصالح وتنازعا على الصلاحيات بين الرئاسة والحكومة، وبين الحكومة وجهازها الوظيفي، ما سيؤدي بسرعة الى شلل السلطة، ويمكن ان يؤدي الى انهيارها اذا لم يتم تدارك الامر قبل فوات الاوان. وتدارك الامر، يكون بالإمساك بجذر الازمة وهو استبدال البرنامج الوطني، برنامج دحر الاحتلال وتحقيق العودة والحرية والاستقلال، بالصراع على السلطة بحيث اصبحت السلطة رغم انها تحت الاحتلال ومقيدة الصلاحيات هي الغاية بدلاً من أن تكون السلطة وسيلة لتحقيق الغاية الاساسية للفلسطينيين وهي دحر الاحتلال.
وما يجعل احتمال الصدام الداخلي واردا، بصورة تستدعي التحرك العاجل، هو ان الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني يترافق مع تداخلات وضغوط اسرائيلية وعربية واقليمية ودولية وصلت الى حد فرض عزلة دولية وحصار سياسي ومالي وعسكري خانق وصارخ على الفلسطينيين بحجة ان الحكومة الفلسطينية لم توافق على تلبية الشروط الاسرائيلية والدولية.
الحصار الخانق الذي يمكن ان يؤدي الى الكارثة او الى بقاء السلطة والفلسطينيين جميعا على حافة الهاوية، ووضعهم على مشارف الحرب الاهلية والكارثة الاجتماعية بهدف جعلهم تحت ضغط هائل، وابتزاز خطير لدفعهم للموافقة على تغيير وعيهم وكسر إرادتهم، بحيث يقتنعون بعدم جدوى المقاومة لا الآن ولا بالمستقبل، ولا بديل عن الاعتراف باسرائيل وعن القبول بالحل الاسرائيلي او التعايش معه او الاقتناع بعدم القدرة على افشاله، بحيث يتحول رويدا رويدا الى أمر واقع، يتكفل الزمن بتحويله الى واقع شرعي يقبله المجتمع الدولي اولاً والعرب ثانياً، والفلسطينيون ثالثاً وأخيراً.
ان اسوأ ما يمكن أن يؤدي اليه استمرار الوضع الفلسطيني الحالي في ظل التعددية في السلطات والاستراتيجيات ومصادر القرار ومع استشراء حالة الفوضى والفلتان الأمني والعزلة الدولية، هو اولاً: نجاح اسرائيل ليس في فرض حلها الانفرادي على الارض، وانما حصول هذا الحل على الغطاء الدولي عند تنفيذه، والشرعية الدولية عند الانتهاء منه.
وثانياً: اعادة الفلسطينيين عشرات السنين الى الوراء، الى ما قبل اندلاع ثورتهم المعاصرة، التي حولتهم من مجموعة من الافراد اللاجئين المتسولين أمام أبواب وكالة الغوث الدولية الى شعب من المقاتلين من اجل حرية واستقلال وطنهم وشعبهم. فلم تعد القضية الفلسطينية قضية انسانية وانما قضية سياسية حية فرضت نفسها على العرب والعالم بأسره رغم كل المتغيرات والعواصف.
علينا أن نعترف، ان الوضع الداخلي الفلسطيني، يهدد بإضاعة كل ما تحقق، وعودة كل اشكال التدخلات العربية والإقليمية والدولية وعهود الإنابة والوصاية والاحتواء والبدائل عن الفلسطينيين. فمنذ سنوات عديدة، وتحديداً منذ نيسان العام 2002، وبعد عملية السور الواقي تزايدت بشكل نوعي، كل اشكال التدخلات الاقليمية والدولية في الشأن الداخلي الفلسطيني، لدرجة التدخل في السياسات والاجراءات المالية والادارية والسياسية والقانونية، والى حد فرض تغيير النظام السياسي من نظام رئاسي الى نظام مختلط رئاسي - برلماني، عبر استحداث منصب رئيس الوزراء ووضع اكبر ما يمكن من المهمات والصلاحيات في يده، في محاولة لإضعاف قيادة الراحل ياسر عرفات تمهيدا لتغييره بعد أن اعتبرته اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية ليس ذا صلة، وطالبتا بتغيير القيادة الفلسطينية بقيادة جديدة ومختلفة، وذلك على خلفية دفاع ياسر عرفات عن الحقوق الفلسطينية.
يمكن درء الحرب الاهلية، من خلال اقتناع كل الأطراف والفصائل الفلسطينية بأن مصلحة الشعب والوطن والقضية اهم وأعظم وأكبر من المصالح الفردية والجهوية والفصائلية، ومن خلال الأخذ بمقولة ان الحكمة أولى من الاتباع، وتفرض احيانا التنازل عن الحق من اجل المصلحة العامة، والاقتناع بضرورة بلورة برنامج فلسطيني جديد، يمثل المصلحة الوطنية والقواسم المشتركة، ويعيد الاعتبار للبرنامج الوطني الذي سقط وتراجع ضحية البرامج الفئوية والفصائل، وفي معمعان الصراع على السلطة.
الحرب الاهلية لم تقع، ويمكن قطع الطريق عليها، ولكن عندما تقتنع "فتح" انها لم تعد التنظيم القائد وحدها، وعندما تقتنع "حماس" انها رغم الاغلبية البرلمانية التي حصلت عليها، لم تحصل على اغلبية سياسية وشعبية، ولا تستطيع إقصاء الآخرين، فلا يريد الفلسطينيون استبدال هيمنة فصيل بهيمنة فصيل آخر، ولا استبدال سياسة التنازلات دون مقابل، بسياسة الشعارات دون طائل. الفلسطينيون يريدون سياسة وطنية واقعية، تدرك ان السياسة هي فن تحقيق افضل الممكنات، دون زيادة او نقصان.
علينا أن نتذكر ان اسوأ ما في الحرب الاهلية، انها اذا اندلعت، لا احد يعرف متى تنتهي ولا ما هي حدودها وأهدافها ومعسكراتها بالضبط، فشعار كل مشارك في الحرب الاهلية: "من ليس معي هو بالضرورة ضدي"، وفلسطين بحاجة للجميع لدحر الاحتلال، ودون استراتيجية قادرة على دحر الاحتلال لا يمكن توحيد الفلسطينيين.