الحشد الجماهيري غير المسبوق والذي يقدر بمئات الآلاف، وفق معظم المراقبين والمحللين، مفترض ان يدق كل نواقيس الانذار لحركة حماس، ويدفعها لمراجعة سياستها قبل فوات الأوان. فقد ارتكبت حماس خلال عدة اشهر من الاخطاء والخطايا ما دفع معظم المواطنين في قطاع غزة للإعراب عن رفضهم لسلطة الامر الواقع التي اقامتها في غزة، وبهذا الشكل الذي فاق كل التوقعات، ولو كانت هناك قيادة لفتح قوية ومتماسكة في غزة او لـ م.ت.ف لكان يوم الثاني عشر من تشرين الثاني يوم سقوط سلطة حماس.
كل المشاركين في المهرجان والذين كانوا في طريقهم للمشاركة لم يفعلوا ذلك حباً بفتح او تعبيراً عن الحنين لعودتها، وعودة سلطتها الى القطاع. فقد ذهبوا بهذا الحجم، الذي يفوق كثيراً الحجم الذي حصلت عليه فتح بالانتخابات الاخيرة، اولاً: وفاء لياسر عرفات، الذي يفتقده الشعب الفلسطيني اكثر واكثر مع مرور المزيد من الزمن، والدليل ان ذكرى رحيله الاولى لم يشارك بها سوى آلاف قليلة، وانا اذكر كم شعرت بالخيبة وأنا في المقاطعة في مهرجان الذكرى السنوية الاولى.
وجاءت الذكرى الثانية وكان الحشد اكبر. وفي الذكرى الثالثة جاء الطوفان الجماهيري في غزة، وحشد لا بأس به في رام الله وبقية مناطق الضفة. لقد خدم ياسر عرفات فتح في ذكرى رحيله مثلما خدمها في حياته.
كما ذهب مئات الآلاف الى المهرجان ثانياً كرهاً بسياسات وممارسات سلطة الأمر الواقع. فهذه السلطة بررت قيامها بأنها جاءت كخطوة اضطرارية ودفاعاً عن النفس في وجه الانقلاب الذي يدبر ضد حماس من قبل زمرة دحلان -دايتون. وأن حربها محصورة بالتيار الانقلابي - الخياني في حركة فتح وليس ضد حركة فتح. لكن الأمور تطورت بسرعة شديدة حتى أصبحت الحرب ضد حركة فتح برمتها، ثم ضد فصائل م.ت.ف، ولم تسلم العائلات وحركة الجهاد الاسلامي من هذه الحرب.
وأكثر ما يميز سلطة الأمر الواقع في غزة سرعة وخفة اتخاذها لقرارات الاعتقال واطلاق الرصاص ومنع الصلاة في الساحات العامة، والتعرض للصحافيين، والمؤسسات الاعلامية.
صحيح ان هذه السلطة ابقت على مكاتب القوى الأخرى بما فيها حركة فتح ولم تمنع نشاطاتها وتحركاتها كلياً، لكنها ضاقت ذرعاً بهذه النشاطات لدرجة انها لم توفر حتى بعض الاعراس من قمعها لأنها تردد اغاني تمجد حركة فتح وتهاجم حركة حماس.
مكمن وجذر الخلل الاساسي يظهر في اولاً: ان حماس لا تستطيع ان تتحكم بقطاع غزة بمفردها، لأن هناك قوى اخرى، خصوصاً حركة فتح لا يزال لها وزن كبير لا يمكن تجاهله، ثانيا: ان ما قامت به حماس هو إعطاء ذريعة اضافية لسلطات الاحتلال لتشديد الحصارالمفروض اصلاً على قطاع غزة، ما جعل الحياة بكل مستوياتها اسوأ بكثير عما كانت عليه بالسابق، وهذا ما تتحمل مسؤوليته حركة حماس. وهذا ما ستدفع حماس ثمنه غالياً اذا ما استمرت بعنادها.
ثالثاً: ان الدوافع التي قدمتها حماس لتبرير ما وصفته خطوة اضطرارية انتفت بعد ان استطاعت كتائب القسام والقوة التنفيذية حسم الامر في قطاع غزة لصالح حركة حماس. كان بمقدور حماس، لو ان ما قامت به خطوة اضطرارية، ان تبادر في اليوم الثاني الى اعادة مقرات السلطة الى الشرعية، فلم يعد خطر تيار دحلان - دايتون ماثلاً في غزة، وحماس ما انفكت تقول انها تعترف بالسلطة الشرعية برئاسة الرئيس ابو مازن. اذا الخطوة ليست اضطرارية!! ان اصرار حركة حماس على الانفراد بالسلطة في قطاع غزة يدل دلالة قاطعة ان هناك تياراً في حماس يعتقد ان ما جرى في قطاع غزة تحرير ثان له، وانتصار على العلمانية الملحدة، وخطوة على طريق تحرير بقية الأراضي المحتلة في العام 1967، ثم بقية فلسطين!!.
وما يبرهن على ذلك، ان محمود الزهار احد ابرز قادة حماس، لا يفوت فرصة الا ويستغلها لتأكيد ان ما جرى ليس خطوة اضطرارية وانما جزء من مخطط يعتقد هذا التيار في حماس انه سيمكنها اذا نجح من فك عزلتها وبسط سيطرتها. اذا لم يكن الامر كذلك ما معنى ان يقول الزهار ان ما حدث في غزة سنة، وأنها يمكن ويجب ان تتكرر في الضفة. ولا يكفي ان يعتبر موسى ابو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس ان تصريحات زميله في قيادة حماس خطأ، لأن الزهار كرر هذه التصريحات مرة أخرى يوم الأحد الماضي بقوله ان حماس مستعدة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة لأنها هي الاغلبية وهي تمثل السلطة الشرعية.
ان الانقلاب الذي قامت به حماس واستمرت من بعده في التحكم بقطاع غزة ينفي عنها الشرعية ويجعل ما قامت به غير قانوني ولا يمت للديمقراطية بصلة. لذا لا معنى هنا عن حديث الزهار عن الاغلبية. وهل استمرت هذه الاغلبية ام لا؟ هذا ما ستجيب عليه نتائج الانتخابات القادمة اذا عقدت؟.
صحيح ان حماس لم تمكن من الحكم بعد ان حصلت على الاغلبية بسبب الحصار والمقاطعة الخارجية، وعدوان سلطات الاحتلال خصوصاً ضد رئيس واعضاء المجلس التشريعي. وصحيح ايضاً ان بعض الاوساط الفلسطينية شاركت في هذا الحصار ووظفته في معركتها ضد حماس. ولكن صحيح ايضاً ان حماس في الحكم لم تع حجم المسؤولية التي اصبحت ملقاة عليها، ولم تدرك ان حكومة حماس غير حماس خارج الحكم، وان التزامات السلطة التي اوجدتها ليست امراً يمكن تجاهله بدون دفع الثمن.
ولو جاءت حماس بعد فوزها وقالت انني اريد ان الغي اتفاق اوسلو وما ترتب عليه، واريد ان اعتمد المقاومة كخيار اساسي او وحيد، لهان الأمر، لانها تنسجم مع نفسها، ولكن حماس اكتفت بإبداء الاحترام لاتفاق اوسلو وعلقت المقاومة الى إشعار آخر، وارادت ان تحكم بدون برنامج واضح وهذا ساعد اعداءها عليها، لأنها بدت متعطشة للسلطة ولا تتمتع بالحكمة وتردد بصورة مملة حقها بالحكم وكأن الحق وحده يمكن ان يسود، والمهم الآن، هل اصبحت حماس اقوى بعد ان سيطرت على قطاع غزة؟ هل اصبح خطر الاتجاه "الانقلابي - الخياني" اقل؟.
هل اصبحت المقاومة بخير ام ان حماس المسيطرة في قطاع غزة مشغولة بكيفية وقف اطلاق الصواريخ على غزة او مقايضتها بفتح المعابر، أكثر من اي شيء آخر!!.
حماس فصيل فلسطيني اساسي لا يمكن تجاهله داخلياً وخارجياً، ويمكن اعتبار ما حدث صفحة سوداء ونطويها، اذا استخلص الجميع وخصوصاً حركة حماس الدروس والعبر. والمخرج يكمن في التراجع عن الانقلاب والاعتراف بالشرعية واجراء مراجعة شاملة من الجميع لمسيرة السلطة والمنظمة والمفاوضات والمقاومة، فالانقسام، كما تدل التحضيرات لاجتماع أنابوليس، لا يمكن ان يكون منصة للحصول على حل وطني، او لتحقيق ما عجزنا عن تحقيقه ونحن موحدون، وكل من يراقب الشروط المتلاحقة والتعجيزية التي تقدمها حكومة اولمرت يدرك اننا مطالبون بأن ندفع ثمن الانقسام لا ان نكافئ عليه، ولا على القطيعة مع حماس كما يتصور البعض.