لولا تدخل القدر بالوقت المناسب، لما أمكن الدعوة لعقد جلسة طارئة للمجلس الوطني، الغائب عن الانعقاد، منذ أن عقد دورتين عامي 1996، 1998، بهدف تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني لكي ينسجم مع مرحلة ما بعد اتفاق اوسلو.
فلقد رحل الدكتور سمير غوشة الى رحاب ربه يوم الرابع من آب، المصادف لافتتاح مؤتمر فتح السادس، وبذلك فقدت اللجنة التنفيذية النصاب الشرعي والقانوني للانعقاد، لأن رحيل غوشة أدى الى اكتمال عدد أعضاء اللجنة التنفيذية المتوفين 6، وهو ثلث أعضائها، والنظام الداخلي للمنظمة ينص على أنها تفقد النصاب وذلك خلال مدة شهر إذا فقدت ثلث أعضائها من حدوث هذه الحالة، بما يوجب الاستكمال وفقا للمدة المقررة.
جاء التوقيت مناسبا للرئيس ابو مازن الذي رتب بيت فتح بعقد المؤتمر السادس، وكان مضطرا للانتقال لترتيب البيت الفلسطيني حتى يكون الفلسطينيون جاهزين لتحديات واستحقاقات المرحلة القادمة. إن المعضلة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف أن م.ت.ف في حالة شلل منذ توقيع اتفاق اوسلو، بعد أن أصبح التركيز كله على السلطة وباتت المنظمة ملحقا للسلطة، لدرجة أن موازنتها باتت بندا صغيرا في موازنة السلطة الكبيرة.
كيف يمكن ترتيب البيت الفلسطيني، وإصلاح وتفعيل وتطوير م.ت.ف وإعادة تشكيلها بحيث تضم مختلف مكونات العمل الفلسطيني؟ لقد جرت مياه كثيرة منذ عقد آخر مجلس وطني عادي خارج الوطن، سواء على الصعيد الخارجي الدولي والعربي والإقليمي، فالعالم الآن مختلف جدا عما كان حينذاك، أو على الصعيد الفلسطيني، فقد ظهرت خارطة فلسطينية جديدة أبرز معالمها أن التيار الإسلامي بزعامة "حماس" أخذ ينافس التيار الوطني بزعامة "فتح" على قيادة الشعب الفلسطيني، سواء عمليا على الأرض أو في مؤسسات السلطة.
قبل أن اتطرق الى الوضع الحالي وضرورة إعادة تشكيل المنظمة وفقا لما اتفق عليه في إعلان القاهرة عام 2005 والاتفاقات التي أبرمت في جلسات الحوار الوطني الشامل أو الحوار الثنائي، لا بد من التوقف قليلا أمام إشكالية عدم تفعيل المنظمة وإصلاحها وتطويرها طوال العشرين سنة الماضية، قبل صعود حماس وبعده، فهذا الأمر لم يسقط سهوا وإنما له ملابساته العديدة.
إن حرص الرئيس الراحل ياسر عرفات على استمرار قيادته المطلقة للمنظمة، واستمرار هيمنة فتح عليها، لعب دورا هاما في عدم تفعيلها، الإ أن الجذر الأساسي الذي يقف وراء عدم تحقيق إصلاح وتفعيل وتطوير المنظمة يكمن في الأوهام التي رافقت التوقيع على اتفاق اوسلو، ولا تزال ترفرف في السماء الفلسطينية، رغم أن حكومات إسرائيل تجاوزت أوسلو وأصبحت تطرح على الفلسطينيين بدائل إسرائيلية لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية في مختلف القضايا وليس بالنسبة لقضية اللاجئين فقط، وكانت الأوهام تظهر في نشوء اعتقاد أصبح الآن راسخا بأن دور منظمة التحرير الفلسطينية انتهى أو شارف على الانتهاء، بعد تأسيس السلطة، لأن الدولة الفلسطينية أصبحت على مرمى حجر. في البداية كان الاعتقاد بأن الدولة ستقوم عام 1999 مع انتهاء مفاوضات الوضع النهائي، ثم حدد جورج بوش الابن في خارطة الطريق موعدا لقيامها في عام 2005، ثم وعد مؤتمر انابوليس بقيامها عام 2008، والآن هناك وعد أميركي لم يعلن رسميا حتى الآن. ويقضي بإقامة الدولة الفلسطينية خلال عامين كحد أقصى.
إذا كانت الدولة دائما على الأبواب. في هذه الحالة، لماذا يتم إحياء المنظمة. فالمنظمة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ورافعة لواء برنامجه الوطني ضرورية في غياب الدولة. وإذا ظهرت الدولة أو ساد اعتقاد بأنها على مرمى حجر يصبح لا ضرورة للمنظمة. والتسوية التي يتم التفاوض حولها بات الآن سقفها الأقصى واضحا وهو قيام دولة فلسطينية في حدود عام 1967، وبدون الانسحاب التام من القدس وجميع الأرض المحتلة عام 1967، وبدون حل مشكلة اللاجئين حلا عادلا يجسد حق العودة والتعويض، لأن التفاوض أخذ يدور حول حل عادل متفق عليه، ومع ذلك ترفضه إسرائيل لأنها تريد تجاوز مسألة حق العودة كليا، وذلك بحصر عودة اللاجئين الى الدولة، وتعويضهم، وتسهيل توطينهم في البلدان التي أقاموا فيها منذ النكبة أو تسهيل هجرتهم الى بلدان أخرى تشمل كل بلدان العالم، باستثناء العودة الى أملاكهم وديارهم ومدنهم وقراهم التي هجروا منها قسرا ومن خلال القوة والمجازر.
إن إحياء المنظمة يعني إحياء لبرنامجها الوطني، وإعادة اعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني ولدوره المفروض أن يتحطما حتى يمكن تسوية قضيته بشكل جزئي وتصفوي وبما يناسب إسرائيل. فالمسألة ليست سهلة بل صعبة ومعقدة جدا. فالانقسام بدأ بين الشعب الفلسطيني في داخل الوطن وخارجه بعد التوقيع على اتفاق اوسلو، ثم حدث انقسام بين الضفة وغزة، والحبل على الجرار حتى يصبح الفلسطينيون في وضع يناسب ما تقترحه إسرائيل من حلول تصفوية للقضية الفلسطينية.
إن هناك قرارا دوليا، بأن م.ت.ف يجب ألاّ تفعّل ولا يعاد تشكيلها، ومن غير المسموح أيضا تشكيل م.ت.ف بديلة أو موازية، لأن المنظمة أنهت دورها وهي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أصبحت عقبة يجب إزالتها من طريق التسوية، ولا يتبقى أمامها سوى دور واحد وحيد، هو التوقيع على الاتفاق النهائي باسم الشعب الفلسطيني كله، حتى يقطع ذلك الطريق على أية مطالب فلسطينية جديدة.
لا يعني ما سبق أن القيادة الفلسطينية، كانت واعية لذلك منذ البداية، ولكن الآن الوعي بهذه المسألة أصبح منتشرا جدا، ولم يعد هناك أي عذر لأي كان. فالجهل بما أصبح معروفا جدا ليس عذرا مناسبا.
إن من يريد إحياء المنظمة وإعادة الاعتبار لبرنامجها الوطني ولدور الشعب الفلسطيني كله بتحقيقه، عليه أن يعرف أن ذلك لا يمر من خلال الرهان على المفاوضات كطريق وحيد لإنهاء الصراع مهما طال الزمن، وإنما يتطلب اعتماد المقاومة بكافة أشكالها، بحيث يكافح الشعب الفلسطيني في كل مرحلة من خلال شكل المقاومة المناسب لها، حتى تستطيع المقاومة أن تزرع لكي تقوم المفاوضات بالحصاد. فمن يزرع يحصد، ومن لا يزرع لا يحصد. والمقاومة التي مارسها الشعب الفلسطيني كانت كافية لحصوله على حكم ذاتي، ولا يمكن بدون مقاومة كافية تحويل هذا الواقع الى دولة فلسطينية حقيقية على جميع الأرض المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس. ومن أراد مثل هذه الدولة من خلال المفاوضات فقط، انتهى به الأمر أو سينتهي به للاعتراف بأن المفاوضات لا تحقق دولة حقيقية وإنما "دولة" تستجيب للمصالح والأهداف والشروط الإسرائيلية.
تأسيساً على ما سبق، فإن جلسة الحوار الوطني تهدف الى استكمال عضوية اللجنة التنفيذية حتى تحافظ على شرعيتها المتبقية، وهكذا يجب أن تكون بدون بنود إضافية.
طبعا هناك من حاول، ويمكن أن يحاول حتى اللحظة الأخيرة، للاستفادة من فرصة عقد جلسة المجلس الوطني من أجل إضافة بنود جديدة على جدول أعمالها مثل: تغيير ممثلي فصائل باللجنة التنفيذية وهذا مقدور عليه بالنسبة للفصائل المعترف بها ولم تشهد انشقاقات، أما استكمال عضوية المجلس المركزي، وتشكيل لجنة من المستقلين أو مختلطة تحت عنوان تفعيل وتطوير المنظمة، وتطبيق القرارات والوثائق التي أقرتها المنظمة بمعزل عن الحوار الوطني، وإقرار المجلس الوطني لمسألة اعتماد التمثيل النسبي الكامل كأساس لانتخابات المجلس الوطني، فهذه مسائل مكانها في دورة عادية للمجلس الوطني من المفترض أن تكون في مدة أقصاها 25/1/2010.
إن السؤال هو: هل نريد فعلا إحياء وتطوير وإعادة تشكيل م.ت.ف؟ وإذا أردنا هل نستطيع ذلك؟ وإذا كنا نستطيع ونحن نستطيع، كيف يمكن أن نحققه؟
إن من يريد حقا تفعيل المنظمة، عليه أن ينادي بالشروع فورا بتطبيق ما تم الاتفاق عليه في إعلان القاهرة ووثيقة الوفاق الوطني وجلسات الحوار الوطني الشامل. أما من لا يريد ذلك، فإنه يسعى لجعل الجلسة القادمة أكثر من استكمالية، بما يسيء للحوار والوحدة ولمصر الدولة الراعية للحوار، ويمهد الطريق لكل من يريد تعميق الانقسام ومده ليشمل م.ت.ف بحيث يكون لدينا أكثر من منظمة لتمثيل الفلسطينيين.
إن الحقيقة التي أمامنا تفيد بعدم وجود إرادة جماعية كافية قوية مثابرة لدى مختلف القيادات الفلسطينية تهدف الى تفعيل وتطوير وإصلاح م.ت.ف، وأن الغالبية من القوى والفصائل والشخصيات بانتظار مصير المفاوضات. فإذا نجحت راحت على المنظمة، بحيث يكون عليها القيام بالتوقيع والرحيل مثل "ذكر النحل". وإذا فشلت ستبدأ الجهود الحقيقية لتفعيل إصلاح وإعادة تشكيل م.ت.ف!! ولكن عندها، ربما تكون المحاولة متأخرة، وعندها نندم حين لا ينفع الندم!!