عامٌ آخرُ قد مضى على الثّورات العربيّة، ولا يزال الصراعُ بين القديم والجديد مستعرًا، فيحاول القديمُ الزائلُ أن يعود إلى الحياة لابسًا ثوبَ الجديد، واختلطت الأمور بشدة، وانقسمت قوى الثورة بين الدينيّ والمدنيّ، وبين الديموقراطيّة الحقيقيّة وقشرة الديموقراطيّة، وبين الاستقلال والعدالة والتقدم والحداثة وبين التبعيّة الظلم والظلاميّة والتخلف. وهناك محاولة لاستيعاب الثورات وإجهاضها، عنوانها الأبرز تغيير طبيعة الصراع في المنطقة، من صراع ضد الهيمنة والتبعيّة والتخلف والتجزئة إلى صراع بين المعتدل والمتطرف، بين الإسلامي المتدين والعلماني، بين العرب والفرس، وبين السنة والشيعة.
الأسبوعان الأخيران من هذا العام يعطيان صورة عن العام كله، فقد شهدا جولتا الاستفتاء على الدستور المختلَف عليه في مصر، مع أمل أن يصل الجميع إلى أنه من دون مشاركة القوى الأساسيّة كافة لا يمكن فتح طريق المستقبل، فالدستور لا يخضع للأغلبيّة والأقليّة، وإنما يحتاج إلى التوافق، ومن دون التوافق تقفز مصر في المجهول.
كما شهدا استمرار الصراع المسلّح وازدياده في سوريا، ووصل الأمر إلى حد لا يستطيع أحد الجزم بقدرة أي طرف على الانتصار السريع، فالنظام مستمر بالرغم من تراجع مناطق سيطرته، ومستفيد من خوف جميع الأطراف ممن سيخلفه، والثورة كذلك تتقدم ببطء شديد، وسط تزايد المخاوف على مصير سوريا من ازدياد الخلط بين الثورة والمؤامرة، ومن إمكانيّة أن تسقط سوريا، وليس النظام وحده، وأن تعم الفوضى والحرب الأهليّة ويقع التقسيم.
وفي الأسبوعين الأخيرين، كنت في قطر لحضور مؤتمر لمراكز الأبحاث العربيّة دعا إليه المركز العربي ومديره الدكتور عزمي بشارة. وسافرت إلى اسطنبول لحضور ورشة نظمها مركز مسارات تمحورت حول كيفيّة إعادة بناء منظمة التحرير، واختتمت الجولة بزيارة القاهرة، وحضرت الجولة الثانية من الاستفتاء على الدستور وسط المخاوف من احتمال دخول مصر في دوامة وقطع الطريق على استكمال ثورة 25 يناير العظيمة.
مراكز الأبحاث .. آفاق التشبيك ومتطلبات النجاح
كان مؤتمر مراكز الأبحاث احتفاليًّا أكثر من أي شيء آخر، فهو احتفال متأخر بميلاد المركز العربي الذي بدأ العمل قبل عشرين شهرًا، واستهدف إقامة شبكة بين مراكز الأبحاث العربيّة، ولكن الأجواء الاحتفاليّة طغت على كل شيء. فقد حضره 250 مشاركًا يمثلون 70 مركزَ أبحاثٍ، في حين أن المشاركين الآخرين هم خليط من أكاديميين يمثلون جامعات، إلى مفكرين، وإعلاميين وصحافيين، وزعماء سياسيين، منهم خالد مشعل وعزام الأحمد وراشد الغنوشي، وغيرهم. وافتتح المؤتمر ولي العهد القطري.
لقد كان المؤتمر فرصة هامة للعلاقات العامة وتبادل الأفكار والمعلومات والتعاون ما بين مراكز الأبحاث، والبحث في حال الأمة.
وبالرغم من الآمال العريضة التي أثارتها الثورات التي ستغير وجه الأمة العربيّة في نهاية الأمر، ولو بعد نكسات وهزائم، لأن المواطن العربي خرج من القمقم، وأدرك أنه قادر على التغيير، وعلى المشاركة في صنع مصيره؛ إلا أن المخاطر والمؤامرات تجعل الأمة في حالة لا تسر صديق وتسعد كل الأعداء، الذين خافوا حتى الارتعاب في بدايات الثورات، ولكنهم شعروا بالكثير من الاطمئنان وهم يرون قوى الثورات تتقاتل مع بعضهاـ وتسعى بعضها إلى استرضاء أعدائها بذريعة حاجتها للاعتراف والشرعيّة والمساعدات الخارجيّة التي لا تقدم لسواد العيون العربيّة، وإنما لضمان جوهر السياسات التي تؤمن استمرار النفوذ الغربي والإسرائيلي في المنطقة.
إن إقامة شبكة تضم مراكز الأبحاث العربيّة هدف عظيم، لأنه يحقق التعاون من دون انتظار الحكام، الذين كرسوا التجزئة ويسعون إلى بقائها.
حتى يتحقق التشبيك بين المراكز يجب أن تكون التوقعات واقعيّة، بحيث يتم الشروع في خطوات صغيرة، مع أن الهدف النهائي يجب أن يكون عظيمًا وكبيرًا. ومن شروط النجاح ألا تكون الفكرة ومن ثم الشبكة، إذا قامت، خاضعة لطرف، أو دولة، أو محور، أو مركز أبحاث بعينه، أو تعتمد على تمويل طرف واحد؛ الأمر الذي سيجعل الفكرة تحقق مصالحه وأهدافه بوعي أو من دون وعي.
وحتى تنجح الفكرة، يجب على القائمين عليها دراسة التجارب السابقة على قلتها، واستيعاب الدروس والعبر، وعليهم مراعاة اختلاف مراكز الأبحاث من حيث الرؤية والرسالة والهدف، كونها مراكز مستقلة، أو مرتبطة بحكومات أو أطراف محليّة وعربيّة وخارجيّة، وتخدم المصلحة العربيّة العليا، أو مصالح محور بعينه يضر أشد الضرر بالمصلحة العربيّة. فهناك مراكز أبحاث تهتم بإجراء أبحاث أكاديميّة، أو تهتم بموضوع واحد أو تخصص بعينه، وهناك مراكز تهتم ببلورة السياسات وأقرب إلى مجموعة تفكير تركز على التفكير الإستراتيجي والخيارات والبدائل، وهناك أيضًا مراكز أبحاث تابعة لحكومات أو ممولة بالكامل من جهات حكوميّة عربيّة أو أجنبيّة. والتمويل – كما نعرف ونكرر- لا يقدم لوجه الله، فهناك مصالح وأجندة يخدمها، تطرح أحيانًا علنا ومشروطة أو تتم الاستجابة لها بصورة طوعيّة.
في الدول المتقدمة التي توجد بها مراكز أبحاث مستقلة وجديّة ومحترمة تحرص على تنويع مصادر الدعم وعلى أن لا يزيد الدعم المقدم حتى من حكومة المركز نفسه عن 15% من مجموع الموازنة، حتى تحافظ على استقلالها وحيادها العلمي.
إعادة بناء منظمة التحرير .. طريق الخلاص الوطني
نظّم مركز مسارات ورشة عمل في اسطنبول تحت عنوان "إعادة بناء منظمة التحرير"، وكانت ورشة هامة، لأنها تمحورت حول ضرورة دراسة التجارب السابقة، واستخلاص الدروس والعبر، وما يتطلبه ذلك من إعادة تعريف المشروع الوطني، وإعادة إحياء القضيّة الفلسطينيّة، التي وصلت إلى نقطة حرجة، بعد أن اصطدمت الإستراتيجيات المعتمدة، سواء إستراتيجيّة المفاوضات، أو إستراتيجيّة المقاومة، بطريق مسدود، مع اختلاف الظروف والأسباب والنتائج. فأقصى ما تحقق بعد المعاناة الطويلة والتضحيات الغالية أنّ قطاع غزة أصبح شبه محرر، ولكنه لا يزال محتلًا وفق القانون الدولي، وحصلنا على دولة مراقبة في الأمم المتحدة؛ مقابل تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتقطيع الأوصال، والجدار، والحصار، وتهويد وأسرلة القدس، والانقسام.
وركزت الورشة على كيفيّة الخروج من هذا المأزق الشامل، وطرحت أسئلة أكثر مما قدمت أجوبة، ولكن طرح الأسئلة الصحيحة في التوقيت المناسب نصف طريق العلاج. كما ناقشت الورشة أوراقًا حول أوضاع التجمعات الفلسطينيّة المختلفة وخصائصها وموقعها في النظام السياسي الفلسطيني، ونظرتها إليه، وكيفيّة إعادة بنائها، حيث كانت هناك أوراق تعالج قطاع غزة وفلسطينيي الداخل والأردن ولبنان وسوريا وأوروبا وأميركا، على أساس قناعة تتبلور أكثر وأكثر، وتتمحور على أن التركيز على أنّ ما يجمع الفلسطيني على أهميته وأولويته (من تاريخ وذاكرة وهويّة وأهداف وحقوق) لا يجب أن يطمس التباينات والخصائص المميزة لكل تجمع، وضرورة تلبية احتياجاته، والاهتمام بمعالجة همومه ومشاكله على أساس أن الصراع مع الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي طويل، ولا يمكن أن يحل بسرعة، ولا بضربة واحدة خاطفة.
وأخذ الانقسام نصيبه من الاهتمام في الورشة، حيث تم مناقشة عدة أوراق حول مختلف أوضاع الاتحادات الشعبيّة والنقابات الفلسطينيّة، وكيفيّة العمل على توحيدها جنبًا إلى جنب، وبالتوازي مع الجهود الرامية إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنيّة.
إن تحقيق وحدة أي اتحاد أو نقابة هي خطوة إلى الأمام، ولا يجب أن تنتظر الوحدة، فهي توفر الأجواء المناسبة لإنجازها. وعلينا أن نتذكر أنه بعد الانقسام الفلسطيني ما بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، تم التوصل إلى توحيد اتحاد الكتاب والصحافيين أولًا، وكانت هذه الوحدة هي "البروفة" لتوحيد المنظمة من خلال عقد المجلس الوطني التوحيدي في العام 1987.