الرئيسية » أوراق وتقارير » خليل شاهين »   03 تشرين الثاني 2015

| | |
سياق الموجة الانتفاضية وآفاقها
خليل شاهين

ملخّص

ثمّة مفارقة تتعلق بتركيز النخب السياسية والأكاديمية على التباين في توصيف اللحظة الراهنة في الفعل الشعبي المقاوم، ما بين هبة شعبية، أو موجة انتفاضية، أو انتفاضة، بدلًا من التركيز على أسباب نشوء هذا التباين أساسا؛ أي وجوب الانشغال بالإجابة عن السؤال الآتي: لماذا يقف الفكر السياسي الفلسطيني مرتبكًا أمام تحليل وتوصيف حالة شعبية ملموسة دخلت شهرها الثاني؟

تحاول هذه الورقة أن تقدم في أحد جوانبها إجابة عن هذا السؤال، وتحاجج بأن أدوات التحليل التي أنتجها الفكر السياسي التقليدي، بما أفرزه من هياكل سياسية وتنظيمية ومؤسساتية، وممارسة سياسية، ضمن منظومة علاقات قوة وسيطرة استعمارية رسختها مرحلة "أوسلو"، لم تعد تصلح لتفسير سياق واتجاه الفعل المقاوم الذي يتصدره اليوم جيل شاب يعمل خارج إطار هذه المنظومة، بل وبالتمرد عليها.

لتحميل الورقة أو قراءتها ... اضغط/ي هنا

في سياق كهذا، تنطلق الورقة من حقيقة كون الهبة الشعبية موجة أعلى ضمن سلسلة من الموجات قد تتكسر حينا، وتشتد حينا آخر، لكنها تتواصل في مسار تصاعدي حتى تتحول عند لحظة ما إلى ما يشبه "تسونامي"؛ أي إلى حدث مؤسس في الوعي الجمعي لمكانة القضية الفلسطينية بصفتها قضية تحرر وطني، وللحاجة إلى تجديد الهياكل والأطر الوطنية والمؤسساتية القادرة على شق مسار كفاحي جديد.

لكن استدامة وتصاعد هذا الفعل المقاوم إلى مستوى انتفاضة شعبية شاملة يتطلب توفر مقومات عدة للتغلب على تحديات صعبة، معظمها يتعلق بظروف الصراع وطبيعته مع منظومة السيطرة الاستعمارية العنصرية، لكن بعضها الآخر يتعلق بالوضع الفلسطيني الداخلي، ومحاولات استثمار الموجة الانتفاضية لتحسين شروط إعادة إنتاج مسار التفاوض الثنائي ذاته، حتى ولو جرى التمويه عليه بمظلة دولية شكلية.

 

أشكال عمل جديدة

"الشعب يتحرك بدون قيادة" .. كان هذا التعليق الأكثر تكثيفًا ورواجًا لوصف "عفوية" الهبة الشعبية التي اندلعت دون قرار وطني مسبق، بل وفي غياب القيادة الفلسطينية عن المشهد، لا سيّما أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير اجتمعت مرة يتيمة في اليوم السادس للموجة الانتفاضية.  وهو تعبير عن واقع الحال المتسم بافتراق بين السياسة الرسمية وسياق الموجة الانتفاضية، وكذلك بين الفعل الشعبي المقاوم وقصور الفصائل عن قيادة هذا الفعل وتوجيهه، حتى بات كثيرون يردون على الجهود الدولية الرامية للتهدئة، أي إخماد الموجة الانتفاضية، بالإقرار بأن القول الفصل للميدان.

يمكن تفسير جانب من هذا المشهد باتساع الفجوة ما بين حراك رسمي يسعى لتحسين شروط الوضع القائم عبر مفاوضات ثنائية أو تحت مظلة دولية شكلية، ولكن تحت سقف العلاقات الاستعمارية التي يكرسها "اتفاق أوسلو"، وما يترتب عليها بشأن بنية السلطة ودورها ووظائفها، بمؤسساتها المدنية والأمنية، وحراك شعبي يسعى لتغيير الوضع القائم بالخروج من علاقات السيطرة الاستعمارية باستخدام أشكال جديدة من الاشتباك مع الاحتلال والمستوطنين تعيد الاعتبار لإطار الصراع التحرري، أي تسعى لاستعادة مكانة القضية الفلسطينية الطبيعية كقضية تحرر وطني.

بتركيز النقاش على هذه الفجوة، يمكن تحليل السياق العام الذي تندرج في إطاره الموجة الانتفاضية الحالية، بصفتها انتقالًا لمرحلة جديدة في سلسلة من الهبات والموجات الكفاحية والحراكات والمبادرات الشبابية، المتتالية منذ سنوات عدة، لا سيّما في مناطق الاشتباك شبه اليومي مع قوات الاحتلال والمستوطنين في القدس وشمال الضفة وجنوبها، إضافة إلى ما تشهده باقي تجمعات الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وأراضي 48 والشتات من أشكال ومبادرات متنوعة من المقاومة والصمود والتعبير عن الهوية والحقوق.

تكمن أهمية رؤية السياق الذي أفضى إلى اندلاع الموجة الانتفاضية في تفسير ما يعتبره البعض طابعًا "مفاجئًا" و"عفويًا"، فهي هبة "مفاجئة" ليس من حيث عدم توقع انفجار الغضب الشعبي، بل عدم التكهن بلحظة حدوثه، و"عفوية" من حيث الغياب المسبق لعنصري التخطيط والتنظيم، وليس بمعنى  أنها بلا أب أو أم، إذ إنها وليد جديد لأشكال من العمل الشعبي أخفقت المنظومة التقليدية للعمل السياسي الرسمي والحزبي في قراءة دلالاتها وصيرورتها وتأثيراتها.  أي أنها ليست معزولة عن منظومات وأشكال من التعبير السياسي والفعل الشعبي الآخذ بالتشكل والتطور منذ سنوات عدة خارج إطار الممارسة السياسية السلطوية والحزبية التقليدية.

لقد شهدت التجمعات الفلسطينية في الوطن والشتات، لا سيما منذ توقيع "اتفاق أوسلو" وإنشاء السلطة، مرورًا بالمتغيرات العربية في العام 2011 وسقوط الرئيسين المصري محمد حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي، سلسلة من الفعاليات والمبادرات المتتالية عكست بداية تطور أشكال جديدة من التعبير عن الهوية والرأي والعمل السياسي والكفاحي، خارج نطاق منظومة عمل منظمة التحرير والسلطة والفصائل السياسية، التي تآكلت شرعيتها المستمدة من الإرادة الشعبية، وبخاصة مع انقسام السلطة إلى سلطتين في قطاع غزة وبقايا الضفة الغربية، وتنامي الصراعات الداخلية على مراكز القوة والنفوذ.

وقد تصدر جيل الشباب العديد من هذه الفعاليات والمبادرات عبر تعبيرات سياسية وكفاحية واجتماعية وثقافية عديدة، انطلاقًا من برامج عمل تركز على قضايا محددة. ورافق ذلك جدل في أوساط النخب الفكرية والأكاديمية حول أولوية بناء منظومات جديدة للعمل السياسي وفق برامج عمل تتناول قضية وطنية عامة يجمع عليها الفلسطينيون، أو قضايا تخص هذا التجمع الفلسطيني أو ذاك، أم أولوية إعادة إحياء المؤسسات الفلسطينية، وفق منظوماتها المركزية التقليدية في التمثيل والعمل السياسي، وبخاصة على مستوى منظمة التحرير.

في كل الأحوال، جاء جزء من أشكال العمل السياسي الجديدة كاستجابة للإقصاء والتهميش الذي تعرضت له فئات واسعة من الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، على مستويات عدة، في سياق تكيف الفكر السياسي الفلسطيني والمشروع الوطني الذي بلوره والمؤسسات والحركة الوطنية الحاملة له مع متطلبات العمل السياسي ضمن إطار الصراع على أساس "حل الدولتين"، باعتباره حلًا قائمًا على "التفاهم" عبر التفاوض الثنائي مع منظومة السيطرة الاستعمارية على ما يمكن أن ترفع سيطرتها عنه من جغرافيا وموارد وبشر، وفق مبادرة أو هجوم السلام الفلسطيني للعام 1988، كاستثمار سريع للانتفاضة الأولى.

حتى ذلك الحين، كان يمكن المحاججة بشأن حدود وجدوى التحولات في "الواقعية السياسية" المتمادية في الفكر السياسي الفلسطيني وصولًا إلى تبني إطار "حل الدولتين"، لو لم تنطلق من محاولة "التفاهم" مع النظام الاستعماري وصولًا إلى اعتماد المفاوضات وسيلة وحيدة لحل الصراع، بدلًا من تبني مفهوم إقامة الدولة المستقلة من خلال دحر النظام الاستعماري عن أراضي الدولة بوسائل الصراع الرامية؛ لإحداث تعديل في ميزان القوى يسمح بالوصول إلى لحظة التفاوض على إنهاء الاحتلال والاستيطان.

كانت فداحة الثمن الذي قدمه الفلسطينيون تتجاوز حدود الأخطاء السياسية لتبلغ مستوى التنازلات التاريخية، لا سيّما منذ اللحظة التي قررت فيها حركة تحرر وطني الاعتراف بشرعية وجود النظام الاستعماري على أرض وطنها، دون اعترافه في المقابل بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في وطنه، بل وبتحويل أبرز هذه الحقوق إلى قضايا نزاع "مؤجلة" قابلة للتفاوض والمساومة تحت مسمى "قضايا الحل النهائي"، التي طالت اعتبار الأرض قضية نزاع تفاوضي عبر تأجيل قضيتي القدس والمستوطنات، وكذلك الحال لقضية حق عودة اللاجئين.

هذا هو البعد الأكثر كارثية في مسار انتحار "الواقعية السياسية" للفكر السياسي الذي أنتج مسار أوسلو، كما قاد لما نشهده اليوم من إقصاء فئات واسعة من الشعب خارج المناطق المصنفة اليوم (أ)، وتهميش حقوقهم وقضاياهم، بما يشمل اللاجئين في الشتات، والفلسطينيين في أراضي 48، والقدس، وسكان المناطق المصنفة (ج) ممن باتوا أقلية مقابل المستوطنين في ثلثي مساحة الضفة الغربية، وحاضنة مواردها الطبيعية وسلتها الغذائية.

ترافق إقصاء هذه القطاعات الواسعة خارج المعازل المدارة من قبل السلطة، مع إقصاء وتهميش داخلي كرسه تراجع دور منظمة التحرير كإطار للتمثيل الوطني والعمل السياسي والكفاحي، وضعف المشاركة السياسية عمومًا، لا سيّما في دوائر صنع القرار على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستجابة السلطة للنزعات الليبرالية الجديدة في السياسات التنموية تحت الاحتلال، وتكيف السياسة كقيمة وغاية للعمل الحزبي مع نتائج هذا التراجع، إضافة إلى العزوف عن ممارسة السياسة ضمن منظومات العمل الحزبي، وبخاصة من قبل الشباب، فضلا عن التحولات في عمل وأجندات العديد من مؤسسات المجتمع المدنية، وتراجع دور الاتحادات والنقابات. 

مع كل ذلك، لم يعد مجديًا الحديث عن نظام سياسي فلسطيني موحد ومشروع وطني جامع حتى خلال الفترة التي سبقت الانقسام الداخلي، بعد إقصاء وتهميش حقوق ومصالح قطاعات وفئات واسعة من منظومات عمله.  في المقابل، أصبح التركيز على منظومات من أشكال العمل على قضايا محددة أكثر جدوى من التركيز على بناء المؤسسات التي تشكل الحيز التقليدي لممارسة السياسة من قبل الفصائل.

بمعنى آخر، شهدت السنوات الماضية تطورَ مسارٍ جديدٍ لا يؤمن بإعادة بناء الحركة الوطنية كمدخل لبناء وتطوير برامج العمل، بل يرى أن استقطاب أوسع الفئات من الفاعلين ضمن منظومات من برامج العمل التشاركية هو المدخل لإعادة بناء الحركة الوطنية، من خلال التركيز على شق مسار جديد يبني على ما يجمع الفلسطينيين في الوطن والشتات، أي الحقوق التاريخية والطبيعية للشعب الفلسطيني.

 

يمكن في هذا السياق رصد عدد من أشكال العمل خارج منظومات العمل السياسي التقليدي شكلت نماذج ملهمة لجيل الشباب، من أبرزها:

أولًا: حركة المقاطعة

كانت تجربة الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، التي انطلقت العام 2005 في الذكرى السنوية الأولى لصدور قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي بإدانة الجدار الاستعماري والاحتلال الإسرائيلي برمّته، الذي ألقته منظمة التحرير والسلطة خلف الظهر، ومن ثم تشكيل اللجنة الوطنية للمقاطعة كأكبر ائتلاف مجتمع مدني فلسطيني، يشكل مرجعية وقيادة للحركة العالمية للمقاطعة؛ أحد أبرز النماذج الملهمة للشباب من حيث أشكال المقاومة الفعالة، ليس فقط بسبب ما حققته من نتائج على المستوى الدولي في مواجهة وفضح الاحتلال والاستيطان والعنصرية، بل ولاعتماد هذا النموذج أيضًا الكفاح في سبيل ممارسة حق تقرير المصير كحق جمعي للشعب الفلسطيني أينما وجد انطلاقًا من المنهجية المبنية على الحقوق، دون تبني حل سياسي (دولة أو دولتان)، والتركيز على المطالبة بإنهاء اضطهاد إسرائيل للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة في الأراضي المحتلة عامي 48 و67 والشتات، استنادًا إلى المواثيق الدولية وحقوق الإنسان.

حتى اليوم لم تتبنَّ منظمة التحرير أو السلطة حركة المقاطعة واكتفتا بدعمها في الخطاب السياسي، مع الحفاظ على مسافة منها، لا سيّما أن حركة المقاطعة تستهدف من حيث الجوهر تفكيك العلاقات الاستعمارية، بينما تظل السلطة ومؤسساتها رهينة لقيود علاقات السيطرة الاستعمارية التي عكسها "اتفاق أوسلو" وملحقاته الاقتصادية والأمنية والمدنية.  وفي حين اكتفت السلطة بتبني سياسة تشجيع مقاطعة منتجات المستوطنات، محليًا ودوليًا، سرعان ما استلهمت عشرات المبادرات الشبابية نموذج حركة المقاطعة الشاملة لإسرائيل، بتنظيم حملات محلية للمقاطعة ومناهضة التطبيع، كما ظهر خلال وما بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صيف العام 2014.

تشكل حركة المقاطعة اليوم إطارًا واسعًا للعمل خارج منظومات العمل السياسي الرسمي والحزبي، بالرغم من مشاركة ممثلين عن الفصائل فيه، وهو يحظى بالتفاف شعبي فلسطيني وتفهم دولي متزايد لعدالة برنامج عمله في المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل، انطلاقًا من مقاربة خطاب الحقوق، وتحميل العالم مسؤوليته إزاء إنهاء الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني في مكوناته الثلاثة: الضفة والقطاع، أراضي 48، تجمعات الشتات (اللاجئون).

 

ثانيًا: حركة حق العودة

أما النموذج الآخر، فتمثل في تطوير حركة مدنية شعبية في سبيل تطبيق حق العودة كركن أساسي لممارسة حق تقرير المصير، خلال الفترة التي تلت توقيع "اتفاق أوسلو"، وفي مواجهة مخاطره المحتملة على حق اللاجئين في العودة.  وهي حركة تعتمد برنامج عمل يركز على قضية محددة، وينطلق من خطاب الحقوق أيضا كحال حركة المقاطعة، بالرغم من تشتت جهود العديد من الهيئات واللجان الناشطة في هذا الميدان، وتعثر محاولات دمجها أو إيجاد إطار تنسيقي أعلى يوحد جهودها.

فقد شهدت الفترة منذ العام 1995 انتشارًا واسعًا لهيئات وجمعيّات ولجان الدفاع عن حق العودة في مختلف مواقع الشتات، في الأردن ولبنان وسوريا وأوروبا والأميركيتين، إضافة إلى الضفة والقطاع وأراضي 48، ومنها: مجموعة "عائدون"، مؤتمر العودة في لندن والشتات، لجان اللاجئين وحق العودة، المجموعة 194، المجلس الفلسطيني من أجل العودة (ميثاق)، تجمع العودة الفلسطيني (واجب)، مركز أبناء البلد للدفاع عن حق العودة في سوريا، منظمة ثابت لحق العودة، مركز العودة الفلسطيني في لندن، الكونفدرالية الأوروبية لحق العودة، تحالف حق العودة في بريطانيا، تحالف حق العودة في أميركا الشمالية، إضافة إلى عشرات الهيئات المماثلة في اليونان والدانمارك والسويد وكندا وإسبانيا ومصر والضفة الغربية وقطاع غزة (انظر ملحق فلسطين، جريدة السفير اللبنانية، نيسان 2011).

 

ثالثًا: لجان مواجهة الجدار والاستيطان

ترافق النموذجان السابقان من أشكال التعبير والعمل السياسي التي حافظت على حيوية وعدالة القضية الفلسطينية، وحشد التضامن الدولي لدعمها، مع أشكال عدة من المقاومة الشعبية التي تخوضها لجان مقاومة الجدار والاستيطان عبر فعالياتها في العديد من البلدات والقرى، وتشكيل المجموعات الشبابية التي نشطت في مواجهة الاحتلال وتحدت منظومة سيطرته بالسعي لفرض أمر واقع فلسطيني من خلال مقاومة الاستيطان والجدار وإنشاء قرى على شاكلة "باب الشمس" و"أحفاد يونس" وغيرهما في المناطق المصنفة (ج).

وكما كان حال كل من نموذجي حركتي المقاطعة وحق العودة، اكتفى الخطاب السياسي لمنظمة التحرير والسلطة بدعم المقاومة الشعبية دون اتخاذ إجراءات عملية لتطويرها وتعميمها ضمن إستراتيجية شاملة، باستثناء محاولات لاحتوائها عن طريق "مَأسسة" المقاومة الشعبية للاستيطان والجدار عبر هيئة رسمية تعمل تحت سقف السلطة والتزاماتها، بدلًا من قيادة وطنية موحدة تتشكل من مكونات الحركة الوطنية.

رابعًا: المجموعات الشبابية

مع تفجر الحراكات الشبابية في عدد من البلدان العربية مطلع العام 2011 تحت شعار "الشعب يريد ..."، استلهمت مجموعات شبابية فلسطينية هذا النموذج لفرض الٍارادة الشعبية لتحقيق أهداف محددة.  لكن هذا النموذج لم ينجح في الانتقال من حالة الرفض والاحتجاج إلى مستوى حركة اجتماعية واسعة ذات أهداف وشعارات وتكتيكات ناظمة لبرنامج عمل تلتف حوله مختلف المجموعات الشبابية في الوطن والشتات.

ظل الرفض والاحتجاج والعزوف عن العمل ضمن المؤسسات أو الأطر الحزبية، السمة الأبرز لأشكال العمل التي اتبعتها هذه المجموعات، بالرغم من أن عددًا من مطالبها كان موجهًا إلى المؤسسات والفصائل، وبخاصة إنهاء الانقسام، وإعادة بناء التمثيل الوطني.  أما تلك المجموعات التي طالبت بإنهاء الاحتلال، أو تجسيد حق العودة، كما حدث في مسيرات العودة من لبنان وسوريا والأردن، فلم تستطع تحويل شعاراتها إلى برامج عمل موحدة ومستدامة.

ومع ذلك، كان نشاط هذه المجموعات خارج منظومات العمل السياسي التقليدي بروفة جديدة تعكس تحولات في الوعي، والحاجة إلى تطوير أشكال جديدة من العمل السياسي، ظهر بعضها في تشكيل لجان للعونة والتكافل الاجتماعي مثل "فريق ساند"، أو تنظيم فعاليات داعمة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة في مواجهة ثلاثة حروب دموية شنتها إسرائيل خلال ستة أعوام، وكذلك لنصرة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك وباقي مخيمات سوريا، إضافة إلى نصرة قضية الأسرى والمضربين عن الطعام في سجون الاحتلال.

كما تطورت أشكال متماثلة من العمل الكفاحي والمبادرات الشبابية في مختلف التجمعات، لا سيّما الضفة والقطاع وأراضي 48 (التصدي لمخططات التهويد والتهجير القسري في القدس وجنوب الضفة الغربية والأغوار والنقب، مثل التصدي لمخطط برافر)، مستفيدة من قدرتها على التواصل والتشبيك عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.

جاء تطور هذه الأشكال الكفاحية المتشابهة ردًا على تغول المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، واندفاعه لتحقيق الأهداف ذاتها من حيث التطهير العرقي والتهجير القسري والمصادرة والاستيطان وهدم المنازل في كل من الضفة الغربية وأراضي 48، عبر إنتاج منظومات من السيطرة والأساليب لتحقيق هذه الأهداف حسب "مكانة" الفلسطيني ضمن هذه المنظومات، سواء كان "مواطنا" في النقب والجليل، أم "مقيما" وفق درجات التصنيف الإسرائيلي للفلسطينيين في القدس، أو في مناطق (ج)، أو خلف الجدار .. إلخ.  لذلك، تطورت أشكال من العمل السياسي والفعاليات التضامنية نابعة من الحاجة إلى مواجهة المشروع الاستعماري في هدفه الناظم المهدد للوجود الفلسطيني على أرض الوطن، وكان طبيعيًا أن تتجاوز بعض أشكال العمل "الخط الأخضر" الذي محاه تقدم المشروع الصهيوني الاستيطاني.

 

وعي الذات وسياق الموجة الانتفاضية

لقد نشأت هذه الأطر والأشكال الجديدة من العمل السياسي والتعبيرات المختلفة للدفاع عن الهوية  والحقوق الوطنية، بما في ذلك وسائل التعبير في الفنون المختلفة والتراث ومجالات الثقافة عمومًا، بسبب، وبالرغم من، تراجع دور منظمة التحرير والحركة الوطنية التقليدية، والافتقار إلى مركز قيادي موحد ومشروع وطني جامع في الوطن والشتات، ومن ثم الانقسام الداخلي كأحد أشكال الاستجابة غير الواعية لنتائج إمعان المشروع الصهيوني الاستعماري في تجزئة الأرض والشعب، وفي تشجيع تفريخ السلطات المحلية المتنازعة على مواقع القوة والنفوذ في المناطق غير الخاضعة للاحتلال العسكري المباشر في قطاع غزة ومعازل الضفة الغربية.

كل ما سبق كان تعبيرًا عن استعادة وعي الجيل الشاب بالشرط الاستعماري الذي نشأ فيه في ظل إخفاقات مرحلة "اتفاق أوسلو" المتواصلة، وصولًا إلى محطات كانت لها انعكاسات مهمة في إعادة الاعتبار للمقاومة كنموذج لتحدي وردع المشروع الاستعماري الاستيطاني.  ومن أهم هذه المحطات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة صيف العام الماضي، الذي شكل حدثًا مُؤسِسًا من حيث الوعي بقدرة الشعب الفلسطيني على الصمود والمقاومة والانتصار.  فعلى المستوى الإستراتيجي، تمثل الإنجاز الأهم للفلسطينيين جرّاء هذا العدوان في إعادة اكتشاف مكامن قوتهم، واستعادة وعيهم بموقع قضيتهم بصفتها قضية تحرر وطني، وتعزيز الوحدة الميدانية والشعبية، وإفشال أهداف العدوان الرئيسية، وحرمان إسرائيل من صورة الانتصار في أطول حروبها منذ تأسيسها.

كان لهذه النماذج تأثيرها في وعي الذات وموقعها ومكامن قوتها في الصراع، إذ شكلت محطات لإحداث انعطافة في مسار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي انعطافة لا تبدو ممكنة مع استمرار القيادة الفلسطينية في المسار ذاته الذي يُبْقي الوضع القائم على حاله.  عند هذه النقطة من افتراق وعي الذات ومكامن قوتها على المستوى الشعبي، لا سيّما لدى جيل الشباب، عن المسار السياسي المرتهن منذ أكثر من عقدين لشروط الاختلال في ميزان القوى لصالح النظام الاستعماري؛ ينشأ التعارض بين القوة المتاحة المهدورة بموجب هذا المسار السياسي، ومعادلة الالتقاء بين القوة المتاحة والقوة الكامنة لدى الشعب، كما تجسدها إرادة المقاومة في سياق الموجة الانتفاضية التي تكسّر جداري الصمت والخوف معًا، وتسعى لإعادة التقاط زمام المبادرة لإحداث تغيير في مسار التحرر الوطني.

إن الموجة الانتفاضية الحالية تعني أن هناك جيلًا يلتقط زمام المبادرة في إعادة صياغة علاقة الشعب مع الاحتلال، باعتبارها علاقة صراع وليس "تفاهم"، دون أن يواصل انتظار تطبيق قرارات المجلس المركزي وتوصيات اللجنة السياسية المنبثقة عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بشأن "إعادة تحديد العلاقة" مع إسرائيل، تحت سقف أوسلو وليس بالخروج منه، ولو تدريجيا.  

واليوم، تجري عملية استعادة المبادرة الكفاحية من خلال الفعل المباشر، بأشكاله التي تتخذ شكل نحر الوعي الاستعماري بالسكين، أو تهشيمه بالدهس، وضرب منظومة أمن المستوطنين وصورة الجيش الذي لا يقهر بالاشتباك المباشر في القدس والخليل، وبالتظاهرات عند الحواجز ونقاط التماس مع قوات الاحتلال والمستوطنين، وعلى بوابات السجون، وتحصينات الاحتلال حول قطاع غزة، وكذلك بالتظاهرات تحت راية علم فلسطين في عدد من المدن والبلدات في أراضي 48. 

وهي تعني أيضًا التمرد على أشكال العمل الرسمي والفصائلي في نطاق المعازل التي تديرها سلطة بدأ الاحتلال منذ العام 2000 في إعادة تحديد العلاقة معها، لتحويلها إلى مجرد وكيل إداري واقتصادي وأمني تحت سقف منظومة السيطرة الاستعمارية، وبصلاحيات تقل عما منحه إياها "اتفاق أوسلو" وملحقاته.  وبهذا المعنى، فإن القلق مما يسمى "الفوضى" أو "فقدان السيطرة" على الموجة الانتفاضية، إنما يعتبر نتيجة لتطور أشكال الفعل المقاوم باتجاه كسر احتكار السلطة والفصائل للسياسة، عبر صيرورة لا تزال في بداياتها لبناء منظومة تشاركية للعمل السياسي تسهم بحد ذاتها في إعادة تصويب الفكر السياسي وبناء الحركة الوطنية.  

لذلك، فإن أدوات التفكير والتحليل التي تنتمي للماضي المحكوم بإطار الصراع الذي قاد إلى إخفاقات العقدين الأخيرين، لن تتمكن من تحليل ظاهرة تنتمي للمستقبل الذي تتبدى إرهاصاته في المثابرة على شق مسار جديد يعيد الاعتبار لإطار الصراع التحرري.  وفي المسافة الفاصلة بين إطار الصراع القائم على مبدأ التسوية المستحيلة مع المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، وإطار الصراع التحرري في مواجهة هذا المشروع؛ يكمن العجز عن فهم الهبة الشعبية الراهنة كموجة جديدة ضمن سلسلة من الموجات المتعاظمة في تسونامي التغيير القادم.

 

تحديات ومخاطر

عند تحليل السياق الفلسطيني المؤثر في مسار التطورات القادمة، ثمة تحديات ومخاطر تواجه فرص تطور إرهاصات انتقال الفعل الشعبي المقاوم إلى مستوى انتفاضة شاملة، من بينها خطر الاستثمار السياسي السريع للموجة الانتفاضية، الذي لم يعد موضع تكهن، إذ بات الحديث عن جهود ديبلوماسية عربية ودولية لاستئناف المفاوضات كوسيلة لاحتواء "التوتر" المتصاعد، أي إجهاض فرص تحول هذه الهبة الشعبية إلى انتفاضة شاملة في إطار مقاربة إدارة الصراع؛ يتصدر المشهد السياسي المؤطر للحراك الفلسطيني الرسمي.

غير أن استئناف المفاوضات كوسيلة للعودة إلى الوضع القائم قبل الأول من تشرين الأول/أكتوبر، يتطلب عددًا من الإجراءات والخطوات العملية الرامية إلى تهيئة الأجواء لذلك، وهو ما تركز عليه الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي من خلال إيجاد معادلة تتيح لكل من الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الادعاء بأنه لم يتراجع عن مواقفه.  وربما تكون صيغة "مفاوضات من دون مفاوضات" مخرجًا مناسبًا لكل منهما، حيث تحقق المفاوضات "الاستكشافية" لفرص المفاوضات وأسسها ومتطلباتها حول قضايا الحل النهائي مخرجًا للرئيس عباس؛ لترويج تمسكه بشروطه تحت شعار أن المفاوضات الحقيقية لم تبدأ بعد، كما يوفر ذلك مبررات لنتنياهو لترويج الادعاء ذاته أمام الجمهور الإسرائيلي وشركائه في الحكومة، تحت شعار فحص مدى توفر "شريك فلسطيني" يقبل برؤية نتنياهو للحل.

الموقف الفلسطيني الرسمي يريد العنب لا أن يقاتل الناطور، فهو يعتقد أن الموجة الانتفاضية بمنسوبها الحالي تمكن من الحصول على العنب بعيدًا عن تبعات زيادة شقة الخلاف مع الأردن بسبب التفاهمات بشأن المسجد الأقصى المبارك، أو الدخول في مواجهة معلنة مع الإدارة الأميركية، عن طريق تفعيل ديناميكية الحراك الديبلوماسي العربي والدولي لاستعادة الاهتمام بإطار التسوية السياسية على أساس "حل الدولتين"، من خلال عملية تفاوضية ثنائية تحت "مظلة دولية" شبيهة بالأفكار التي تطرحها فرنسا والاتحاد الأوروبي حول توفير "مواكبة دولية" داعمة لمفاوضات ثنائية ضمن أفق زمني محدد.  ومع ذلك، لم يصدر أي موقف رسمي يشير إلى عدم الاستعداد أيضًا للتعامل مع المبادرة النيوزيلندية التي قد تقود إلى الانتقال من "فخ" تفاهمات كيري حول المسجد الأقصى إلى "مستنقع" المفاوضات الثنائية.

لذلك، يبقى الإطار الناظم للموقف الفلسطيني هو تحسين شروط العودة إلى المفاوضات باستمرار اللجوء إلى التهديد اللفظي باتخاذ خطوات يفتقر تنفيذها إلى الإرادة والجدية، أو يتم التفكير بإحالتها إلى لجنة المتابعة العربية المنبثقة عن الجامعة العربية، ما يهدد بإفراغها من مضمونها.  

ومن حيث الخطاب الرسمي، تبدو هذه الخطوات كأنها تنحو باتجاه المجابهة الديبلوماسية من حيث الشكل، وليس الجدوى، أو مدى توفر الإرادة السياسية.  فهي تعيد استنساخ المسار الموصد في مجلس الأمن منذ أربعة أعوام، على الأقل، بفعل الموقف الأميركي، الذي أجهض أي حراك في هذا الاتجاه، بما في ذلك مشروع القرار الفرنسي الهابط أصلًا بشأن استئناف المفاوضات بموجب سقف زمني محدد، وكذلك المشروع الفرنسي الأخير الخاص بتوفير رقابة دولية في الحرم القدسي الشريف.

لكن الأخطر من خطاب التهديد اللفظي، أنه يوفر غطاء لاستمرار التنصل من الاستحقاقات المعبّر عنها في قرارات المجلس المركزي في دورتيه خلال نيسان 2014 وآذار 2015، والانتظار حتى تتوفر ظروف العودة إلى إطار المفاوضات الثنائية، حتى ولو بغطاء دولي شكلي، وفي مقدمة هذه القرارات: تحديد العلاقة مع إسرائيل، وقف التنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة، رفض العودة إلى إطار المفاوضات الثنائية.

أما الخطر الأبرز الثاني فيكمن في استمرار الانقسام الداخلي في وقت تقدم فيه الوحدة الميدانية في سياق الموجة الانتفاضية نموذجًا إيجابيًا يسهم في تصويب البوصلة بإعادة الاعتبار للصراع مع الاحتلال والاستيطان، في تناقض مع واقع الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس بشكل خاص، واستمرار الصراع الداخلي على مواقع القوة والنفوذ.

إن إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية يعتبر شرطًا أساسيًا للتمكن من التوافق على إستراتيجية وطنية شاملة تنطلق من إطار الصراع التحرري، وتفتح الطريق أمام إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير من جهة، وتحديد العلاقة مع دولة الاحتلال بالخروج التدريجي من مسار أوسلو من جهة أخرى، بما في ذلك إعادة النظر في شكل السلطة "الموحدة" ودورها ووظائفها، وليس سلطة بقايا الضفة الغربية فقط.

وقبل كل ذلك، تكمن نقطة البداية في التوافق على القرار الوطني المطلوب في اللحظة الراهنة، وهو توفير كل الدعم للموجة الانتفاضية وتنظيمها وتطويرها، بما يشمل تحديد هدف وشعارات واقعية لها وأشكال النضال الأكثر جدوى، وعدم توظيفها في سياق الصراع والتنافس الفئوي، أو محاولة استثمارها لتحسين شروط استئناف المفاوضات.  وهو ما يتطلب الدعوة الفورية إلى اجتماع الإطار القيادي الموحد لمنظمة التحرير، مع ضمان مشاركة الشباب الذين ينخرطون اليوم في الفعل الشعبي المقاوم، إضافة إلى المرأة، في اجتماعات هذا الإطار.  وسيمكن ذلك من الإقلاع عن محاولات الاحتواء، أو احتكار السياسة، ورفض التسليم بدور اللاعبين الجدد في ميدان الصراع مع الاحتلال، والاستعاضة عن ذلك بالعمل على التقاء الجهود الموحدة للفصائل مع أشكال العمل الجديدة التي يتصدرها الشباب لاستعادة المبادرة الكفاحية من خلال الفعل المباشر.

 

مقومات الانتفاضة الشاملة

لا يعني كسر احتكار بنية الحركة الوطنية التقليدية للسياسة، انتهاء الدور السياسي للفصائل، فهي لا تزال الإطار المنظم لممارسة السياسة، ولديها جمهورها وتتصدر أشكال المقاومة المسلحة، وبخاصة في قطاع غزة، ولها تأثيرها المهيمن على المنظمة والسلطة والاتحادات والنقابات، وبخاصة الحركة الطلابية.

وقد تكون الإرهاصات الحالية في نشوء أشكال وأطر وقيادة جديدة للعمل السياسي والكفاحي شبيهة بفترة نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات عندما شق جيل شاب، بالاستفادة من الظروف والعوامل العربية والدولية المواتية حينذاك، مسارًا جديدًا في الصراع، مكّنَه خلال فترة غير طويلة من إزاحة قيادة ما قبل وبعد النكبة عن مواقع القيادة، وطوَّرَ أشكالَ عمله، وصولًا إلى تنظيمها في كيانات سياسية وتشكيلات مسلحة استمدت شرعيتها من الشعب الذي دان لها بالولاء كقيادة جديدة دون انتخاب.

لا بد من الإقرار بأن ظروف ومقومات مثل هذه العملية غير متوفرة بعد، ولا يزال هناك متسع لاستنهاض دور مكونات الحركة الوطنية التقليدية.  إلا أنه لن يكون ممكنًا إعادة الاعتبار للسياسة عبر شكل ممارستها المنظم والجماهيري من خلال العمل التنظيمي، إلا بتغيير في الأهداف وأساليب العمل والقواعد التي تحكم السياسة ذاتها، للالتقاء عند نقطة ما مع أشكال العمل السياسي والكفاحي الآخذة في التبلور والاتساع خارج المنظومات التقليدية للعمل المؤسساتي والحزبي، باتجاه إعادة صياغة العلاقة مع النظام الاستعماري.  أي العمل وفق مبدأ التشاركية مع جيل الشباب في قيادة وتنظيم وتحديد أهداف وشعارات الموجة الانتفاضية، بعيدًا عن محاولات الاحتكار أو الاحتواء أو التدجين لما بات يصعب تدجينه.

سوف يؤدي ذلك إلى ارتقاء أشكال العمل المنظمة للفصائل إلى مستوى المبادرة الكفاحية التي يلتقط زمامها جيل الشباب، بما يخدم تطوير الهبة الشعبية المتعاظمة إلى مستوى انتفاضة شاملة قادرة على شق مسار كفاحي جديد، قائم على تبني إطار الصراع التحرري.  انتفاضة التحرر من القيود الثقيلة للمرحلة السابقة، إن جاز التعبير.  وبقدر الحاجة إلى الاستفادة من تجارب الانتفاضات السابقة، إلا أنه من الخطأ الاعتقاد بإعادة استنساخ تجربة بعينها، في شروط وظروف وموازين قوى مغايرة.

 

إن شروط تنظيم أي انتفاضة شاملة وتوسيعها واستدامتها تتطلب ما يأتي:

أولًا: على مستوى الهدف والشعارات

يتوجب التوافق على هدف جمعي واقعي قابل للتحقيق، ويشكل ناظمًا لمسار الانتفاضة في التحرر من منظومات السيطرة الاستعمارية، عبر التركيز على هدف إنهاء الاحتلال والاستيطان والعنصرية، وتحديد شعارات عامة تصب في خدمة هذا الهدف وملائمة لمنسوب الفعل الشعبي في كل مرحلة، وربما برامج عمل وفعاليات يومية تناسب واقع كل من التجمعات المحلية حسب التحديات والمخاطر التي تواجهها، (مثلا دحر مخططات تهويد المسجد الأقصى ووقف الاستيطان والمصادرة وهدم المنازل في مدينة القدس، وقف مخططات الاستيطان وردع المستوطنين في شمال وجنوب الضفة، تحدي عزل المدن في مناطق (أ) عن ريفها أو عزلها عن القدس، إسقاط مخططات الفصل العنصري في شبكات النقل والمواصلات في مختلف أنحاء الضفة الغربية، إسقاط تقسيم الخليل وإغلاق بعض الشوارع بموجب اتفاق إعادة الانتشار، رفع الحصار في قطاع غزة، التصدي للسياسات العنصرية ومخططات التهجير القسري في أراضي 48).

يعني ذلك الحاجة إلى تبني برامج عمل تراعي اللامركزية حسب الظروف والتحديات التي تفرضها منظومات السيطرة التي تحاول إسرائيل تكريسها.  وكمثال على ذلك، فإن شعارات من نوع العصيان المدني قد تكون موضع نقاش من حيث الجدوى في مناطق مثل القدس في مواجهة منظومة السيطرة الإسرائيلية، لكنها عديمة الجدوى في المناطق الخاضعة للسلطة في الضفة والقطاع.

ثانيًا: على مستوى التنظيم

 يجدر التفكير بالشكل الأنسب، سواء من حيث وجود إطار قيادي موحد (قيادة وطنية موحدة، جبهة مقاومة شعبية) يقود الفعل المقاوم، ويحدد شعاراته العامة، وتكتيكاته وأشكاله الكفاحية الأكثر جدوى، مع تشكيلات لأطر قيادية محلية تقود وتوجه برامج العمل اليومية حسب أولويات وحاجة التجمعات المحلية، عبر لجان للحراسة والتصدي للاعتداءات، وتقديم الخدمات والرعاية الصحية، ومتابعة التعليم في أوقات الطوارئ وغيرها.  ويجدر في هذا المجال، التفكير في خطط للاستفادة من آلاف المنتسبين للمؤسسة الأمنية، وبخاصة قوات الأمن الوطني، عبر توجيههم للانخراط في اللجان الأقرب لمهماتهم ومهاراتهم العملية، كل في مسقط رأسه، وتحت قيادة غرفة عمليات موحدة.

ثالثًا: على مستوى الأشكال الكفاحية

ينبغي أن تحرص العوامل المحددة لهذه الأشكال أولًا على توسيع المشاركة الجماهيرية، بعيدًا عن الأشكال المسلحة إلا لتحقيق غايات تخدم الدفاع عن النفس والردع، ولا توفر للاحتلال مبررًا أو فرصة لاستدراج الأجهزة الأمنية إلى مواجهة غير متكافئة تمكنه من توجيه ضربات قاصمة لها.  وثانيًا، تقليل الخسائر في صفوف الشعب الفلسطيني، بشريًا واقتصاديًا.  وثالثا، تعظيم الخسائر لدى قوات الاحتلال والمستوطنين والاقتصاد الإسرائيلي عمومًا.

يقتضي ذلك التفكير الخَلّاق في أشكال لا تقتصر على المواجهات المباشرة في المناطق التي لا تتواجد فيها قوات الاحتلال والمستوطنين في حالة اشتباك يومي مع الجمهور الفلسطيني، مثل القدس والخليل والريف، بل تنويع الأشكال لتشمل تظاهرات حاشدة لفرض ميادين احتجاج سلمي لكسر فصل القدس عن باقي مدن الضفة الغربية، وتظاهرات على بوابات السجون نصرة للأسرى، وأشكالًا من الفعاليات الموجهة لفرض وقائع فلسطينية في المناطق المهددة بالاستيطان والمصادرة على شاكلة قرية "باب الشمس"، وحملات محلية تفرض المقاطعة لمنتجات الاحتلال، إلى جانب الاستفادة من تجارب حركات التحرر العالمي في استهداف وتعطيل بنية النظام الاستعماري، في قطاعات الاقتصاد والطاقة والمواصلات وغيرها.

 

خاتمة

إن فهم السياق الذي تندرج فيه الموجة الانتفاضية يعتبر مقدمة ضرورية لاستيعاب المتغير الجديد في العمل الشعبي الساعي لإعادة صياغة علاقة الشعب بالنظام الاستعماري الاستيطاني العنصري من جهة، والعمل على توفير متطلبات نجاحها في الانتقال إلى مستوى انتفاضة شاملة من جهة أخرى.

سوف يبتدع الفلسطينيون في ميادين المواجهة أشكال الكفاح الكفيلة بالتغلب على العوامل الجديدة التي فرضها مستوى تقدم المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبخاصة الزج بالكتلة الاستيطانية في مواجهة مباشرة مع الفلسطينيين، إلى جانب وبحماية جيش الاحتلال، إضافة إلى العوامل الأمنية والديمغرافية التي مكّنت قوات الاحتلال منذ العام 2000 من عزل القدس وتسهيل فصل المدن والبلدات والقرى عن بعضها البعض.

يبقى الأهم تحديد هدف عام يوجه الفعل المقاوم، قد يكون شبيهًا بأهداف حركات المقاطعة من حيث التركيز على الحق في التحرر وتقرير المصير، بما يعزز الحاضنة الشعبية للموجة الانتفاضية وانخراط أوسع القطاعات والفئات في فعالياتها.

وإلى جانب ذلك، ثمة ضرورة لتحديد الشعارات والتكتيكات وأشكال المقاومة الأكثر نجاعة في ردع الاحتلال والمستوطنين، مع أخذ ظروف التجمعات الفلسطينية بعين الاعتبار، لا سيّما من حيث أولويات التحديات والمخاطر وخصائص الاشتباك مع قوات الاحتلال والمستوطنين في كل منها، مع ما يترتب عليها من تشكيل لجان محلية ذات وظائف ملائمة لذلك.  ويعني ذلك توفير قدر من المرونة، أو اللامركزية، في تحديد الفعاليات وأشكال المقاومة وطبيعة ومهمات اللجان متعددة الأغراض والوظائف في كل من هذه التجمعات السكانية، شريطة أن يتم تشكيل قيادة موحدة تعمل لتحقيق هدف وطني متوافق عليه.

 

مشاركة: