الرئيسية » نادية حجاب »   06 كانون الأول 2015

| | |
أزمة القيادة الفلسطينية وخياراتها ومشروع الدولة
نادية حجاب

تعمل منظمة التحرير الفلسطينية منذ أكثر من ٤٠ عاماً على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. ومع ذلك، ورغم النجاحات التي حققتها المنظمة على صعيد نيل الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، إلا انها ما زالت عاجزة عن تحدي الاحتلال الإسرائيلي المستمر بلا هوادة. وتشكل الانتفاضة الحالية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحدياً لمنظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية، والأحزاب السياسية باعتبار هذه المرحلة من أضعف المراحل في التاريخ الفلسطيني.

هذا الضعف بدا واضحاً في خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٥ والذي استهله بنداءٍ حزين للمجتمع الدولي كي ينقذَ الشعب الفلسطيني. حيث بدا وكأنه لا هو ولا شعبه يمتلكان أي وسيلة لتحدي الاحتلال الإسرائيلي العسكري المستمر، واللامساواة التي يواجهها المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، ورفضها الاعتراف بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة. وفي الثلث الأخير من خطابه، ألقى «القنبلة» التي وعد وسائلَ الإعلام بها لاسابيع عدة، حيث دعا الأمم المتحدة رسمياً إلى توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني. وقال إن الفلسطينيين لن يلتزموا بالإتفاقات المبرمة مع إسرائيل طالما أن إسرائيل لا تلتزم بها، وإن على إسرائيل أن تتحملَ مسؤولياتها كسلطةِ احتلال.

ورغم أن عباس بدا شديداً في خطابه، إلا انه لم يقل شيئاً يتعذرعليه التراجعُ عنه إذا ما استؤنفت المفاوضات. ولم يعلن نهايةَ التعاون الأمني بين إسرائيل وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية.

فالاستراتيجية التي تتبعها منظمة التحرير أخيراً تتمثل في نيل الإعتراف بالدولة الفلسطينية والإستفادة من المزايا التي تجلبها وضعية الدولة. ففي أواخر٢٠١١ أصبحت فلسطين دولةً كاملة العضوية في منظمة اليونيسكو. وفي العام ٢٠١٢، حصلت على صفة دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة. وبعدما فشلت المفاوضات مع إسرائيل بوساطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري في نيسان (أبريل) ٢٠١٤، بدأت منظمة التحرير بالتطلع إلى عضوية المحكمة الجنائية الدولية. وفي أواخر ذلك العام، أعاقت الولايات المتحدة قراراً بشأن إقامة الدولة الفلسطينية من دون أن تستخدم حق الفيتو. وفي كانون الثاني (يناير) ٢٠١٥، صادقت فلسطين على نظام روما الاساسي و١٥ معاهدة أخرى. واصبحت رسمياً عضواً في المحكمة الجنائية الدولية. هذا إضافة الى مصادقة وانضمام فلسطين حتى الآن الى ما يقارب على ٤٤ معاهدة واتفاقية.

غير أن هذه التحركات لم تُستَغل على أكمل وجه، فهي أقرب الى أن تكون رمزيةٌ أكثر منها مؤثرة وفاعلة. حيث ان فلسطين مثلاً لم تستفد من امتيازات منظمة اليونيسكو بعد الانضمام الى عضويتها. فمنظمة التحرير وان كانت قد أقدمت على خطوات لمنع إسرائيل من إدراج مواقع تراثية فلسطينية في قائمتها الوطنية وإدراجها ضمن مواقع التراث العالمي كضم كنيسة المهد في بيت لحم ضمن لائحة التراث العالمي- رغم اعتراض الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل - إلا انه كان بامكانها، ولا يزال، أن توظِّفَ عضويتها في اليونيسكو لتأكيد سيادتها على أرضها وبحرها. كما بوسع فلسطين ايضاً أن تُلزم الدولَ الثالثة بمساءلة إسرائيل عن التزاماتها أمام المنظمة المذكورة، كون أن أحد بروتوكولات اليونيسكو التي وقعت عليها فلسطين ينص على المسؤولية الجنائية الفردية وعلى فرض عقوبات وفقًا لمبدأ الولاية القضائية العالمية.

الرأي الإستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية سنة ٢٠٠٤ بشأن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي هو مثال آخر لاختيار الرمزية بدلاً من الإجراءات الملموسة والفعالة. حيث خلص الرأي الاستشاري إلى أن الجدار غير قانوني، وأن إسرائيلَ ملزَمةٌ بتقديم تعويضات عن جميع الأضرار التي تسببت فيها. وأكَّد أن المستوطنات تنتهك القانون الدولي، وأن غزةَ والضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ محتلة. ولربما كان الاستنتاج الأبرز الذي خلصت إليه المحكمة هو أن جميع الدول ملزمةٌ بالإعتراف بعدم شرعية الوضع ووقف أي مساعدة مقدمة لإسرائيل تهدف الى إدامة الوضع القائم.

ورغم أن الآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية ليست ملزمةً قانونًا، فإن تأثير المحكمة يكمن في أنها تفسر القوانين. والدول المؤمِنة بسيادة القانون كدول الإتحاد الأوروبي تهتم بمثل هذا الرأي. فلو كانت منظمةُ التحرير راغبة حقًا في تحري السُبل القانونية اللازمة لإعمال الحقوق الفلسطينية، لكانت أحرص على متابعة هذا الرأي الإستشاري. فبوسعها أن توضِّح للدول الأوروبية وغير الأوروبية والفاعلين الآخرين بأن تعاملهم مع إسرائيل يشكل مخاطر قانونية واقتصادية على القواعد التشريعية لتلك الدول. ولكنها لم تفعل حتى الآن رغم الأهمية الكبيرة لهذا النوع من القرارات ولا سيما بالنسبة للإتحاد الأوروبي نظراً لسعيه للعمل ككيان يحكمه القانون.

لو وظَّفت منظمة التحرير الرأيَّ الاستشاري لمحكمة العدل الدولية قبل ١١عاماً لما تكاثر المستوطنون والمستوطنات غير القانونية بهذا المعدل الذي نراه اليوم. ولما كان للمنطقة (ج)، التي تمثل ٦٠ في المئة من مساحة الضفة الغربية والخاضعة لسيطرة إسرائيل، بموجب اتفاقات أوسلو الكارثية، لتفقدَ الكثير من سكانها الفلسطينيين بسبب الهجمات التي لم تسلم منها حتى المشاريع المدعومة من الإتحاد الأوروبي. ولما كانت القدس لتعيشَ الكابوس الذي تعيشه اليوم وتفقدَ سكانها باضطراد كما الآن بسبب السياسات الإسرائيلية.

أما بالنسبة لعضوية فلسطين في المحكمة الجنائية الدولية، والتي انضمت اليها أخيراً، فإن نظام المحكمة يتميز ببطء شديد لجهة اتخاذ القرارات، فإجراءات المحكمة قد تستغرق سنوات لفتح تحقيق، وأكثر من ذلك لإصدار لوائح إتهام. ومن المسائل التي قد تبطئ سيرَ العملية في الحالة الفلسطينية طبيعةُ الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني المسيًس جداً، ومحدودية الموارد المتاحة للمدعي العام، وعدم تعاون الدولة. فمن الصعب أن نتصورَ أن تقومَ إسرائيل بالتعاون الجاد مع المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها وفي بناء المستوطنات.

ولهذا السبب يُشكّك فلسطينيون كثيرون في التحركات الراهنة للسلطة الفلسطينية وفي قدرتها على جعل مشروع الدولة الفلسطينية حقيقةً واقعة. فالأدوات موجودة منذ زمن بعيد، وكل ما كان عليها فعله هو استخدامها لإحراز نتائج أفضل، ولكنها لم تفعل. فهي إمّا غير راغبة في الاستفادة الكاملة من الأدوات القانونية وغير القانونية المتاحة لها أو في تقليص تنسيقها الأمني مع إسرائيل، وإمّا غيرُ قادرةٍ على ذلك. فهي تعلم أن أي إجراءات حازمة ستُفضي إلى تداعيات أميركية وإسرائيلية قاسية مثل خفض المساعدات وتقييد حرية الفلسطينيين في التنقل والوصول المقيدة أصلاً.

ولكن هناك نشاط وجهود أخرى تُبذل لمحاسبة اسرائيل ويقودها المجتمع المدني وتتمثل في حركة المقاطعة (BDS) والتي تعتبر نموذجاً للقيادة. حيث تستند تلك الحركة الى النداء الذي أطلقه المجتمع المدني الفلسطيني سنة ٢٠٠٥ والذي يدعو الى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها والذي يعتبر الخطوة الأبرز التي شهدتها السنوات الأخيرة على صعيد محاسبة إسرائيل. وأُطلق هذا النداء بعد سنة من صدور قرار محكمة العدل الدولية بشأن الجدار وبسبب عدم اغتنام منظمة التحرير الفلسطينية الفرصة التي أتاحها القرار لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي.

ومع ذلك، وكما أن حدود قدرة السلطة الفلسطينية واضحة، فإن حدود قدرة المجتمع المدني الفلسطيني وحركة التضامن الدولية واضحةٌ أيضاً، ولكن لأسبابٍ مختلفة بالطبع. فلا توجد قيادة وطنية قادرة على الاستفادة من النجاحات التي تحققت في المجتمع المدني والبناء عليها، وهناك بالتأكيد حيز محدود للتعاون بين المجتمع المدني والسلطة الفلسطينية في مساعيهما المختلفة، ولأسباب عديدة، ممّا يحدُّ كثيراً من قدرة كل طرف على ترجمة تلك المساعي إلى نتائج سياسية ذات جدوى على الأرض.

وبينما يمضي المجتمع المدني وحركة التضامن الدولية قدماً، تخطو السلطة الفلسطينية بحذر شديد، خوفاً من ردود الفعل، فتقبل بأهون الأعمال مثل وضع علامات لتمييز منتجات المستوطنات بدلاً من أن تسعى لفرض عقوبات دولية ضد الاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، والحصار المفروض على قطاع غزة. وعلاوةً على ذلك، فإن تفتت الجسم السياسي الفلسطيني لا يزال مستمراً. فقد تحدَّث عباس في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة عن عزمه الحفاظَ على وحدة الأرض والشعب ولكنه قال إنه لن يقبل بحلولٍ مؤقتة أو دولةٍ مجزأة. بل ان هناك مخاوف بأن منظمة التحرير وحزبها السياسي الرئيس، «فتح»، سيتفتتان أكثر بخروج عباس ومخاوف أخرى من قيام دولة بوليسية، أو بالأحرى دويلات بوليسية.

ولكن رغم أن صورة المشهد المستقبلي قاتمةٌ على المدى القصير، فإن المديين المتوسط والبعيد يبشران بموجةٍ قوية من النشاط في المجتمع المدني حول العالم. وسرعان ما سيظهر شكلٌ من أشكال القيادة الفلسطينية أكثرُ تمثيلاً لتطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه. وهذا ليس بعيد المنال كما قد يبدو، فهذه القيادة برزت إبان الانتفاضة الأولى. وثمة قيادة قائمة على استراتيجية رئيسية وفعالة برزت مع انطلاق نداء المقاطعة. وثمة قيادة أخرى أيضاً برزت على نحو غير متوقع هذا العام في أوساط الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل. وهكذا حينما تبرز قيادة وطنية فلسطينية، ستجد أن الأرضية باتت مهيأةً لقيادة الشعب الفلسطيني نحو الحرية والعدالة والمساواة.

* كاتبة فلسطينية والمديرة العامة لـ «شبكة السياسات الفلسطينية»

مشاركة: