الرئيسية » باسم الزبيدي »   06 نيسان 2016

| | |
الانقسام الفلسطيني ومتطلبات التخطي
باسم الزبيدي

لكل صراع سياسي مفردات ومصطلحات تحمل معانيه ودلالاته ومختلف تفاصيله. والحالة الفلسطينية ليست استثناء؛ فهي - كغيرها من الحالات السياسية - أنبتت مفردات ومصطلحات عكست جوانب متنوِّعة من صراع الفلسطينيين من أجل التحرر والاستقلال. وقد أصبحت تلك المفردات وأنماط تداولها ودلالاتها بمنزلة وثائق حول مختلف جوانب ذلك الصراع. هذه المفردات وما تختزنه من معان ما زالت محفورة في ذاكرة الفلسطينيين الذين عايشوا الصراع بمختلف مراحله، التي صقلت مفرداتُها وعيَهم الجمعي وعززت هويتهم الوطنية، وأسست لمسيرة كفاح ثوري، نُظر إليه كونياً كمدرسة مُلهِمة في النضال من أجل التحرر. لكن في الفترة اللاحقة لاتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية اختلف الحال عندما ظن الفلسطينيون أنهم قاب قوسين من إقامة الدولة وتحقيق الاستقلال، فنشأت مفردات جديدة، عكست تفاصيل تلك الفترة بأولوياتها وأهدافها وأشخاصها، من بينها مفردتا الانقسام والمصالحة.

أسئلة كثيرة ومهمة تُطرح حول هذين الموضوعين؛ الانقسام والمصالحة، من حيث مسببات الأول وتداعياته ومعوقات تحقيق الثاني. من بين هذه الأسئلة: ما الأسباب التي قادت إلى الانقسام في صيف ٢٠٠٧ وهل هي أسباب عابرة وإجرائية أم أنها بنيوية عميقة الجذور؟ هل الانقسام سبب أم نتيجة؟ بمعنى، هل الانقسام هو سبب التمزق الراهن في الحالة الفلسطينية أم العكس؟ ثم، هل هناك من مشترك بين حركتي فتح وحماس من شأنه أن يكون أساساً للتصالح بينهما؟ ما هو وما المطلوب لترجمته على الأرض إن وُجد؟

المعالجة الجادة لهذه الأسئلة تستدعي الانتباه الى ثلاثة قضايا هامة هي:  الأولى، أن الخلافات السياسية في الحالة الفلسطينية هي كالخلافات والصراعات السياسية الأخرى التي شهدتها المجتمعات السياسية المختلفة عبر العصور، والتي هي طبيعية ومتنوِّعة، وتتحول إلى انقسامات عند استفحال تلك الصراعات والفشل في معالجتها. في الحالة الفلسطينية إن هذه الصراعات التي نشأت واستعصت منذ بداية الصدام بالمشروع الصهيوني، تم ضبطها تارة وانفلتت وتحولت إلى صراعات وانقسامات تارة أخرى. الثانية، أن فهم الانقسام الحالي من دون مَوْضَعَتِهِ في إطار اتفاق أوسلو وما تلاه يحول بالضرورة دون فهمه ومعالجته. فاتفاق أوسلو يجوز وصفه بالانقسام الأكبر في الساحة الفلسطينية، بحكم أنه وفّر منذ لحظته الأولى أسباباً بنيوية عميقة للتنافر والتشرذم، ومن ثم لمزيد من الانقسام والاقتتال بين الفلسطينيين، كما جرى في صيف ٢٠٠٧ . والثالثة، أن مبادرات إنهاء الانقسام بصيغها المختلفة هي صيغ لإعادة إنتاجه تقوم على تقاسم السيطرة والنفوذ بين حركتي فتح وحماس، ما يَحُد من قدرتها على إنهاء الانقسام، وهو ما يعني أن إنهاء الانقسام يقتضي الاحتكام إلى قواعد مختلفة، تستند إلى تعاقد اجتماعي - سياسي، ينبثق منه توافق وطني على أساسيات المسألة الوطنية وخطوطها العريضة، ولتحقيق هذا العقد، لا بد من ولوج كل طرف بمصالحتين: الأولى، مع المشروع الوطني بغرض ترميم علاقته به لاستعادة ثقة الناس به؛ ومصالحة أخرى مع الذات لتطهيرها مما تضمره من نزعات إقصائية فكراً وسلوكاً ضد الآخرين.

أناقش هذه الادعاءات تحت أربعة عناوين هي: الانقسام السياسي كسيرة تاريخية، جذور الانقسام السياسي في فلسطين، الخلافات الفكرية والسياسية واستمرار التشظي، مبادرات مصالحة أم استمرار للتشظي؟

 

أولاً: الانقسام كسيرةٍ تاريخية

يُعرَّف الانقسام السياسي بالتجزؤ أو الانْشِطَار أو الانْشِقاق أو التَجْزِئَة، فيقال انْقَسَمَ أو انشطر أفراد الجماعة السياسية أي أنهم تشتّتوا أو انفصل بعضهم عن بعض، أو تفرّقوا وتباينت آراؤهم وتفرق أمرهم وانقلب بعضهم على بعضهم الآخر. هو إذاً حالة تغيّرٍ بشكل الجماعة أو بجوهرها أو بالاثنين معاً، وهو تراكم لصراع يبدأ مستتراً حول قضايا محددة، يتحول إلى صراع علني، ما يُصعِّب الوصول إلى اتفاق بين طرفيْه. إذاً هو بَتْر للجماعة إلى قسمين، يوقِف كل منهما ضد الآخر،

مع ادعاء كل طرف بتمثيل خير الجماعة - الأم التي ينتميان إليها. يرى الطرف المُنقَسِم بانقسامه استنهاضاً للجماعة وتجديداً لجبروتها ويرى بنفسه الأصدق تعبيراً عن خيرها حاضراً ومستقبلاً، كما يرى بالقائمين على شأن الجماعة التي يتم الانقسام عنها فئة من المتهافتين وذوي المصالح الضيقة، الذين فقدوا صلتهم بواقع الجماعة وتطلعاتها. الطرف الآخر (المسيطِر) بدوره يرى بنفسه أصل وجذر الجماعة ومُجسِّد هويتها وخير مَن يمثّلها، ما يجعله صاحب حق أصيل في قيادتها والحفاظ على وحدتها وصد ما يعترض ذلك من تحديات. لذا نراه يرى الطرف المُنقَسِم جماعة متمردة، غير شرعية، وغير وطنية لا ضيرَ في محاربتها بكل السبل.

يأخذ الصراع السياسي أكثر من صيغةٍ؛ منها الانقسام، وهو جزء من عملية »تنظيم « المجتمعات السياسية، لازمها عبر العصور وشكّل المساحة الأكبر من تاريخها، ولم يخلُ منه مجتمع مهما كانت حصانته وثقافته وموارده، ولم تَنجُ منه حضارة أو أمة أو جماعة مهما بلغت عظمتها ونقاؤها. اليونانيون قديماً تصارعوا وانقسموا وعمّت مدنهم الحروب كتلك التي خاضتها أثينا واسبارطة. والرومان أيضاً خاضوا الصراعات وشنوا الحروب فيما بينهم فأنتجوا إمبراطوريتين الأولى في الغرب ورثت الإمبراطورية الرومانية، والثانية في الشرق وهي الدولة البيزنطية ومركزها القسطنطينية.

كما لم يخلُ تاريخ العرب والمسلمين أيضاً من الصراعات، حيث شهد حروباً وانقسامات وتمرداً في فترات مختلفة تمحورت حول السلطة. كما لم تخلُ الدول الحديثة أيضاً من تأثير الصراعات والانقسامات منذ نشأتها. وقد اكتسب المفكر الإيطالي مكيافيلي ( ١٤٦٩ - ١٥٢٧ ) شهرته عبر ما قدمه من نصائح لإنهاء انقسام إيطاليا وتوحيدها، ما اعتُبِر أساساً لقواعد سلوك الدولة الحديثة، وتوماس هوبز ( ١٥٨٨ - ١٦٧٩ ) وجون لوك ( ١٦٣٢ - ١٧٠٤ ) انشغلا بمعالجة ما كانت تمر به بريطانيا من انقسامات اجتماعية وسياسية ودينية، تماماً كما انشغل ملهم الثورة الفرنسية جان جاك روسو ( ١٧١٢ - ١٧٨٨ ) بمعالجة الانقسامات والصراعات التي صنعها التفاوت بين الناس والملكية الخاصة وما أنتجه ذلك من استغلال وظلم. وحظي موضوع الانقسام أيضاً باهتمام المحافظين والليبراليين، حيث رأينا إدموند بيرك المحافظ ( ١٧٢٩ - ١٧٨٩) يُعارِض ويُجرّم الثورة الفرنسية  لأنها أحدثت شرخاً غائراً في جسد الأمة الفرنسية يقود إلى فَصْل حاضرها عن ماضيها ومن ثم إلى تبديد مستقبلها. بالمقابل رأينا جون ستيوارت مِل المفكر الليبرالي الإنكليزي  ( ١٨٧٣ -١٨٠٦ ) يركز على حرية الفرد والتنوع والعدالة، ما جعله يعارض بقوة أنظمة الحكم المطلق والاستبداد الاجتماعي والسياسي لما تسببه من صراع وانقسام وظلم. كما لم يفت ألكسي دو توكفيل الفرنسي ( ١٨٥٩ - ١٨٠٥)، عند معاينته الديمقراطية الأمريكية، الإشارة إلى أهمية تناغم وانسجام النسيج الاجتماعي للأفراد والجماعات، لمنع التقسّم والتشظي والانقسام، ما جعله ينحاز إلى الديمقراطية التي تقوم على المساواة والحرية. كما أن كارل ماركس (١٨١٨ - ١٨٨٣ ) بدوره، لم يغفل موضوع الانقسام حين اعتبره أحد شرور الصراع الطبقي وعلاقات التبعية والاستغلال التي تُنتِج الظلم والفقر، معتقداً أنها لن تنتهي إلّا بالثورة البروليتارية التي تطيح بالرأسمالية وتمهّد لمجتمع العدالة والمساواة.

الصراع السياسي إذاً، قديم قِدَم الدول والمجتمعات السياسية، يفرضه تعارض المصالح وتباين الأهداف في إطار علاقات القوة بين الأطراف. الفرق بين صراع وآخر ليس بالماهية وإنما بالشكل والدرجة وكيفية معالجته وبما يترتب عليه من نتائج. للصراع الذي يأخذ صيغة انقسام طرفان، الأول يصنعه ويرى به ضرورةً لا بد منها، والآخر يراه شراً ينبغي مقاومته، ويضفي كل منهما مسوغات لتبريره، منها ما هو سياسي ومنها ما هو أخلاقي. صحيح أنه باسم الصراع تُخاض الحروب وتنقسم الدول والجماعات ويعمّ التهميش والظلم، لكنه صحيح أيضاً أنه عبر الصراع ذاته تُنتزع حقوق الشعوب والجماعات وتُواجَه سياسات الهيمنة والسيطرة ويتجسد الخلاص ومبدأ تقرير المصير. كون الصراع أمراً لا يختفي أو يتبدد وإنما يتغير شكلاً وحِدّة، يصبح من الطبيعي أن تسعى الأطراف لمَوضَعَة نفسها في نطاقه لتستحصل على مكسب ما، أو لتدرأ ما يُمكن أن يلحق بها من ضرر إن لم تفعل ذلك أو بقيت على الحياد. ومن باب رغبة تلك الجماعات من تعظيم منافعها تلجأ إما إلى التوافق مع الآخرين والتعايش معهم، وإما إلى إلغائهم وتجاوزهم، وعند اختيارها التعايش والتوافق، فإنها تبقى عُرضة لإغراءات تجاوز أو إلغاء الآخرين إن كان في ذلك ما يُعظّم من مكاسبها بصورة أفضل. هذا يجعل الصراع السياسي أمراً يمكن فهمه فقط وفق مبدأ الربح والخسارة، ما يعني صعوبة معالجة تبعاته دون الاحتكام إلى القاعدة ذاتها.

 

ثانياً: جذور الانقسام السياسي في فلسطين

لم يغب عن تاريخ الفلسطينيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي التنازع والتنافس على النفوذ والمكانة بين الزعامات الفلسطينية التقليدية، كالذي شهدته مدينة القدس، ووظفته ورعته حينئذ سلطات الانتداب عبر سياسة التعيينات. فقد جاء التنازع على شكل مخاصمة بين اثنتين من الأسر المقدسية هما عائلتا الحسيني والنشاشيبي، حيث لجأت سلطات الانتداب إلى سياسة التعيينات لتعميق ذلك التنافس والتنازع، فدعمت راغب النشاشيبي رئيساً لبلدية القدس ( ١٩٢٠ )، وعينت أمين الحسيني في منصب المفتي ( ١٩٢١ - ١٩٣٧). وبينما اعتمد الحسيني على موقعه كمفتٍ وعلى المجلس الإسلامي الأعلى وعلى الحزب العربي الفلسطيني، فقد اعتمد النشاشيبي على رئاسته بلدية القدس حتى عام ١٩٣٤ ، ثم على زعامته لحزب الدفاع . وقد كرّس هذا الصراع الداخلي ضعف الفلسطينيين وحدّ من قدرتهم على مواجهة المشروع الصهيوني وإفشاله. فعندما نشأت إسرائيل عام ١٩٤٨ ، وجد الفلسطينيون أنفسهم منهكين داخلياً، وغير مهيئين لمواجهة تلك اللحظة وما تلاها من لجوء وتفتت جغرافي وديمغرافي وسياسي.

وقد تسلّل صراع شبيه إلى صفوف الفلسطينيين في فترة الستينيات، أخذ صيغة التنافس بين الحركات الفلسطينية المختلفة، على الرغم من توافقها على ميثاق منظمة التحرير عام ١٩٦٤ ، وعلى العمل في إطار مؤسسات المنظمة، فتعاظمت الخلافات السياسية فيما بينها لاحقاً وبلغت حد الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية، وبخاصة فتح والجبهة الشعبية أثناء وجودهما في الأردن، في إطار التنافس بين »وطنية « الأولى »وقومية « الثانية على قيادة المقاومة الفلسطينية حينئذ. واستمر الخلاف بعد طرح برنامج النقاط العشر عام ١٩٧٤ ، ما أدى إلى تجميد عضوية الجبهة الشعبية وفصائل أخرى في مؤسسات المنظمة، وتشكيل ما سمي في حينه جبهة الرفض. كما حصل تشظّ آخر في بداية الثمانينيات لكنه هذه المرة داخل حركة فتح بين قيادة ياسر عرفات وقيادة أبي موسى الذي تزعم حركة فتح الانتفاضة، ما أدى إلى خروج الأول من شمال لبنان ورغم أن هذه الاختلافات (الناعمة والخشنة) كانت تتم بالغالب بين طرفين، إلّا أن جميع الفصائل كانت تجد نفسها طرفاً فيها، لكن ذلك لم يَحُل دون أن تبقى حالتا الوحدة والانقسام قائمتين إلى جانب الاتفاق والاختلاف.

لم تكن الحالة الفلسطينية في الماضي متماسكة وموحدة تماماً ليصحَّ القول إن الانقسام الراهن هو أمر جديد بدأ فقط عام ٢٠٠٧ ؛ فالخلافات فيها قديمة تعود جذورها إلى تباين المقاربات إزاء المسألة الوطنية التي سادت الساحة الفلسطينية منذ بدايات النضال الفلسطيني، فهذا اتسم بالمرونة وذاك بالتشدد. لا شك في أن ذروة تلك الخلافات جاءت مع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، الحدث الذي شَطَرَ الفلسطينيين إلى فريقين متخاصمين، أحدهما مؤيد لاتفاقيات أوسلو وما زال يصر عليها، والآخر معارض لها يرغب بتقويض ما تمخّض عنها من نتائج.

وفق ذلك الاتفاق، نُظِر إلى المفاوضات كآلية لإقامة سلطة ذاتية محدودة للجزء »المقيم « في الضفة الغربية وقطاع غزة من الشعب الفلسطيني لفترة انتقالية.  وكان في ذلك استبطان لثلاث إشكاليات تجزيئية اتضحت آثارها السلبية لاحقاً: الأولى، اعتماد المفاوضات دون سواها كصيغة يتيمة لرسم العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، لكن من دون التأكد من توافر شروط نجاحها وجدواها. وقد ترتب على ذلك تعارض سياسي عميق في صفوف الفلسطينيين بين مؤيد ومعارض.

الإشكالية الثانية تمثّلت بالطبيعة المؤقتة لتلك الاتفاقية، ما جعلها تتسع للتأويل والتفسير ولأنْ تبقى عرضة للتغيير وإملاء الشروط والمواقف من قبل إسرائيل، أو التنصل مما لا تريده من إيحاءات في تلك الاتفاقية. أما الإشكالية الثالثة فتمثلت باعتماد القرارين الإشكاليين لمجلس الأمن ٢٤٢ و ٣٣٨ كأساس للتسوية الدائمة، وترتب على ذلك تعميق الخلافات وتأجيجها داخلياً، وجاءت تلك الخلافات امتداداً للتباينات الحادة حولهما فلسطينياً وعربياً بحكم ما يترتب عليهما من تنازلات غير مبررة لإسرائيل.

أما الانتخابات فقد استحضرتها الاتفاقية لكن ليس كأداة ديمقراطية وإنما كصيغة لصناعة »شريك « فلسطيني يمتلك »الشرعية « الداخلية والخارجية ويكون قادراً على حماية الاتفاقية وما يرتبط بها من التزامات، وعلى صد من يناهضها بطريقة »ديمقراطية «، ما جعل تلك الانتخابات مجرد صيغة لتعزيز مكانة القائمين على اتفاق أوسلو ولمحاصرة مناهضيهم. هذا الحال قسّم الفلسطينيين إلى أخيار منخرطين بعملية السلام، »يؤسسون « لدولة ينبغي دعمهم وحمايتهم، وأشرار معارضين لا بد من محاصرتهم، ما جعل الفريق الأول يوغل بالقمع والاعتقال والتنكيل والتعذيب بحق المعارضين.

بخصوص ولاية السلطة فقد جاءت مجتزأة ورمزية؛ فلم تتضمن القضايا الجوهرية في الصراع بين الجانبين وأسمتها الاتفاقية »القضايا المتبقية  وهي: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات، والتعاون... إلخ. وهدف الجانب الإسرائيلي من تجزئة تلك القضايا إلى السيطرة على الأرض والتحكّم بمآلات الأمور بين الجانبين، وأُخضع الفلسطينيون ل »اختبارات « أمنية وسياسية لا نهاية لها لإثبات أهليتهم كشريك ملائم »لصنع السلام « بمواصفاته.

أما الجانب الأمني للاتفاقية فهو ربما الأعمق أثراً في تأجيج الوضع الداخلي وتعميق الانقسام السياسي بين الفلسطينيين، حيث جاء ملبياً لمطالب إسرائيل المتمثلة بملاحقة »الإرهاب « . ولضمان تنفيذ ذلك بفاعلية، تم تجنيد قيادات أمنية موالية ل »العملية السلمية «، فحصلت على الدعم والرعاية الإسرائيلية، بينما تشبث الجانب الفلسطيني بالتنسيق الأمني معتبراً ذلك ضرورة وطنية(. وقد تعاظمت أهمية التنسيق الأمني بين الجانبين بعد انقضاء الانتفاضة الثانية، بغرض الحفاظ على الأمن الإسرائيلي أولاً وعلى مكانة السلطة الفلسطينية ثانياً، فكانت صيغة كينيث دايتون الأمنية عام ٢٠٠٥ ، التي نجحت بترسيخ ثقافة جديدة تقوم على اعتبار الإسرائيليين شركاء والأمريكيين أنصاراً للحقوق الفلسطينية، بينما اعتُبِر النضال الفلسطيني هدراً للتضحيات.

في هذا الإطار، أنشِئت أجهزة أمنية قوية للتنسيق مع الجانب الإسرائيلي عبر صيغ متنوعة؛ منها بمسمى »إنساني « (كإدخال الأدوية والمرضى وإصدار تصاريح العمل وتحركات الرسميين الفلسطينيين وحركة الفلسطينيين على المعابر)، ومنها بمسمى »أمني « محض (يتعلق بتبادل المعلومات الأمنية ودخول جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية إلى مناطق السلطة وتسليم إسرائيليين قد يدخلون »المناطق « الفلسطينية خطأ وتتبّع المقاومين) . في هذا السياق تعاظمت سطوة الأجهزة الأمنية فتسلّلت إلى تفاصيل حياة الفلسطينيين، وبلغت قدراً من التجذّر أصبح يحول دون قدرة القيادة السياسية على التملص من التنسيق الأمني رغم التلويح به أكثر من مرة، وفي ذلك إشارة إلى أن وقف التنسيق الأمني أمر صعب ومعقد لأنه مكوِّن جوهري في اتفاق أوسلو، ومن دون مراجعة الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، ومراجعة وظائف ودور السلطة، يتعذّر وقفه أو الفكاك منه.

بالمجمل، جاء اتفاق أوسلو مخلخلاً لوحدة الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية الثابتة التي نصت عليها مقررات منظمة التحرير الفلسطينية والمواثيق الدولية، وأحدث خللاً جديّاً في حياة الفلسطينيين. في ظله، تمت تجزئة الأرض وتقطّعت أوصالها، ليس فقط بين الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وبين الداخل والخارج، وإنما أيضاً بين منطقة وأخرى داخل الضفة والقطاع عبر تصنيف الأرض إلى أربعة مستويات بقيت فيها السيطرة الفعلية للإسرائيليين. كما فتّت جوهر

الصراع واستبدله بقضايا حياتية عابرة، واختزل الحقوق الوطنية بمطالب جزئية إجرائية مرتبطة بالحاجات المدنية للفلسطينيين، على السلطة الناشئة المحدودة السيادة والموارد تلبيتها، بعد أن كانت تلك الحقوق سياسية وطنية أصيلة عنوانها التحرر والاستقلال.  وقد ترتب على كل ذلك وجود هوّة سياسية عميقة ما زالت تشكل مصدراً للتنافر الحاد نشأت عنها ثنائيات متنافرة ذات دلالة على تشظ وتبعثر الحال الفلسطيني الراهن كالداخل والخارج، الضفة الغربية وقطاع غزة، المفاوضات والمقاومة، السلطة والمنظمة، المؤيِّد والمعارض، VIP وعامة الناس، فتح وحماس... إلخ.

ما زاد من التشظي طبيعة السلطة الفلسطينية التي أتاحت المجال لاستمرار تعاظم دور طبقة من أصحاب المصالح الخاصة، التي تعمل (بوعي أو من دون وعي) كأداة للاحتلال الإسرائيلي. ففي العقدين الماضيين تبلورت مصالح سياسية - أمنية - اقتصادية ضيّقة، غير متناغمة مع المصلحة الوطنية، استمدت مكانتها من موقع من يفعل ما لا يُغضب الاحتلال. فنشأت في المناطق الفلسطينية علاقات قوية بين أصحاب الأعمال والنخبة السياسية والأمنية، ترتب على محاباة السلطة لها، ليس تنامي قدرتها على التأثير في سياسات الحكومة فقط، وإنما إعاقة التنافسيةَ في السوق أيضاً، وهو ما ترك آثاراً سلبية بالغة في الاقتصاد الفلسطيني.

كما تمكنت هذه الفئات من التأثير في المشروع الوطني عبر دفعه إلى أن يكون شأناً تحكمه قواعد المصالح الضيقة. واتضح ذلك عبر تعالق السلطة مع أثرياء الداخل والشتات لإدارة احتكارات القطاعين العام والخاص، وعبر تحوّل السلطة إلى حامٍ لاحتكار عدد مهم من السلع الرئيسية (كالدقيق والإسمنت والحديد والخشب والتبغ والبترول وغير ذلك)، التي مُنِحت لسياسيين واقتصاديين فلسطينيين ربطتهم علاقات بالشركات الإسرائيلية. ومع تعيين رئيس الوزراء السابق سلام فياض وبدء تنفيذ البرامج الحكومية التي استحدثها منذ ٢٠٠٨ ، تعاظم نفوذ تلك الشريحة في المؤسسة السياسية، فتبوأ أفراد منها مناصبَ وزاريةً رئيسية قامت بالإشراف على عمليات ما سمي »الإصلاح « وبخاصة في القطاع المصرفي. وبفعل ارتفاع مستوى الدين العام، استطاعت تلك الشريحة أن تضغط على السلطة الفلسطينية كي لا تغير سياساتها بما لا يتوافق ومصالح الشركات الخاصة الكبرى، مهددة بسحب بعض الاستثمارات أو الامتناع عن الدخول في استثمارات أخرى. وقد رافق ذلك تسهيل للإقراض الخاص، ما شجّع ثقافة الاستهلاك والاقتراض من البنوك. فحسب سلطة النقد الفلسطينية، ارتفعت القروض إلى نحو مليار دولار أمريكي في ٢٠١٣ مقارنةً بنحو ٤٩٤ مليوناً في ٢٠٠٩ . ويقدَّر أن ٧٥ بالمئة من موظفي القطاع العام، أي ٩٤ ألفاً من أصل ١٥٣ ألفاً، مدِينون.

 

ثالثاً: الخلافات الفكرية والسياسية واستمرار التشظي

إلى جانب اتفاق أوسلو التجزيئي، ساهمت أيضاً الخلافات الأيديولوجية والسياسية بين الحركات السياسية وتباين المصالح المختلفة، في إحداث مزيد من التشظي في صفوف الفلسطينيين. من هذه المنظمة الخلافات (الأيديولوجية والسياسية والمصلحية) تلك التي نشأت، وما زالت قائمة حتى اليوم، بين حركتي فتح وحماس. من الزاوية الفكرية، تعتمد حركة فتح منهجاً وطنياً عاماً غير أيديولوجي للصراع مع إسرائيل، وتعتبر نفسها تنظيماً وطنياً عريضاً يمثل كل صنوف الفلسطينيين، ما يمنحها مرونة أكبر في تغيير وتعديل مواقفها وفقاً لمقتضيات الصراع ونوع الصعوبات التي يمر بها المشروع الوطني الفلسطيني. ويتضح ذلك عبر مبادئ الحركة في فترة ما قبل اتفاق أوسلو وتلك التي انبثقت من مؤتمر الحركة السادس عام ٢٠٠٩ . أما حركة حماس فتنطلق من مبادئ سياسية - دينية وردت في ميثاقها التأسيسي عام ١٩٨٨ ، الذي عرّف فلسطين في المادة ١١ بأنها أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط بها، وأشارت المادتان ٣٤ و ٣٥ إلى أن الصراع الحالي هو امتداد للحملات الصليبية ضد المسلمين. بناء على ذلك صاغت الحركة برنامجاً سياسياً رافضاً للاعتراف بإسرائيل وللقرارين الدوليين ٢٤٢ و ٣٣٨ ، وعارضت اتفاق أوسلو والتفاوض مع إسرائيل، ودعت إلى تبني المقاومة المسلحة. هذه الاختلافات الفكرية، أدت إلى تباين في الرؤى والمواقف السياسية بين الحركتين حول العديد من القضايا ذات العلاقة بالشأن الفلسطيني.  فمع بدء انتفاضة عام ١٩٨٧ ، أرادت حركة فتح أن تقود الأحداث، فأنشأت قيادة موحدة سعت عبرها لاحتواء حركة حماس، إلا أن الأخيرة رفضت الانضمام لتُؤكد أنها منافس سياسي مقتدر لحركة فتح. واقتصرت الخلافات بين الحركتين خلال الانتفاضة على التنافس في فرض كل طرف برنامج الفعاليات الخاص به، وصلت أحياناً إلى مصادمات محدودة أجبرت الطرفين على الحوار، لكن سرعان ما انتزعت حركة حماس الاعتراف بأنها قوة هامة .

واستمر التوتر بين الحركتين بعد قبول منظمة التحرير قراري مجلس الأمن ٢٤٢ و ٣٣٨ في وثيقة الاستقلال عام ١٩٨٨ ، الذي رأت فيه حركة حماس خروجاً عن الثوابت الوطنية، وتنازلاً عن ثوابت فكرية وسياسية مهمة في إدارة الصراع، ما عمّق الفجوة بين الحركتين. رغم محاولات متكررة لرأب الصدع بين الحركتين، إلا أن تلك المحاولات لم تنجح، وسرعان ما كان التوتر يعود إلى العلاقة بينهما، وبخاصة بعد اتفاق أوسلو عام ١٩٩٣ . فحركة حماس لم تقبل به ورأت أنه تنازل عن الحقوق، كما رفضت الإقرار بشرعية وحدانية تمثيل منظمة التحرير كونها في رأيها لا تمثّل جميع الفلسطينيين. وتبنت الحركة في تلك الفترة خطاباً مضاداً لشرعية السلطة، حيث رأت بوجودها امتداداً لمشروع يهدف إلى تصفية الحقوق الوطنية، كما صعّدت من فعلها العسكري ضد إسرائيل. أما حركة فتح، فقد تربعت على قيادة السلطة الفلسطينية وأدارت المفاوضات مع إسرائيل، ومارست »الحكم « معتقدة أن تعزيز سلطتها يتطلب ممارسة الضغوط على حركة حماس، فتمت فعلاً ملاحقة واعتقال وتعذيب الكثير من أبناء الحركة. لكن اندلاع انتفاضة عام ٢٠٠٠ وتصاعد ممارسات الاحتلال القمعية، أحدث انفراجاً جزئياً في العلاقة بين الحركتين، فتقاربت أهدافهما في مواجهة الاحتلال، بيد أن ذلك لم يدم بعد أن تعاظمت الضغوط على الرئيس ياسر عرفات للمشاركة في مفاوضات خطة خارطة الطريق عام ٢٠٠٣ ، التي سعت إلى وقف الانتفاضة. أما غياب عرفات عام ٢٠٠٤ فكان بمنزلة بداية لمرحلة جديدة في العلاقة بين الحركتين، بعد أن خسر الفلسطينيون قائداً استطاع أن يوفّق بين المتناقضات وجنّب الحركتين التصادم عبر توظيف الخلاف بينهما لتعزيز موقفه التفاوضي مع إسرائيل. لكن هذا الحال اختلف تماماً في عهد الرئيس محمود عباس، الذي تبنى نهجاً سياسياً ليّناً يقوم على العودة إلى المفاوضات ورفض العمل العسكري في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لتتعمّق الهوة بين الحركتين.

في عام ٢٠٠٥ فازت حركة حماس في الانتخابات التشريعية وشكّلت الحكومة بمفردها بعد رفض حركة فتح وبقية الفصائل المشاركة في حكومة وحدة وطنية. وبدأ الخلاف بين الحركتين يتفاقم وزادت حدته بعد رفض حركة حماس شروط الرباعية الحصاريّة وإصرارها على رفض اتفاق أوسلو وعدم الاعتراف بإسرائيل، ما دفع المجتمع الدولي (إسرائيل والولايات المتحدة أساساً) إلى محاصرة حكومة حماس الفتية. في هذه الأثناء بقيت حركة فتح تُمسك بمؤسسة الرئاسة وبالعديد من المؤسسات المدنية، ما سهّل عليها حث عدد كبير من الموظفين وقيادات مؤسسات السلطة الفلسطينية المحسوبين على حركة فتح، وبخاصة في الأجهزة الأمنية، على عدم التعاون مع حكومة حماس. وكردّ فعل على الحصار الخارجي والداخلي لحكومة حماس، قامت الحركة بتشكيل »القوة التنفيذية « من كوادرها، تلك القوة التي مكّنتها من السيطرة على قطاع غزة في صيف ٢٠٠٧ ، الأمر الذي ترتب عليه انقسام سياسي أوجد حالتين سياسيتين متباينتين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومنذ ذلك التاريخ اتسمت العلاقة بين الحركتين بنديّة حادة حَكَمها مبدأ المعادلة الصفرية (واحد صفر)، في ظل التضييق اليومي الذي تفرضه معادلة الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، وفي ظل تآكل شرعيات الحكم لدى الطرفين، وضعف الموارد المالية، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية عالمياً، وفي ظل التمزق الراهن في المنطقة العربية، ضَعُفَت رغبة الطرفين في البحث الجاد عن صيغ للتعايش المشترك.

رغم الاختلافات المتنوعة بين الحركتين، إلّا أنهما تتشابهان في جملة قضايا؛ منها أولاً، عدم نجاح برنامجيهما في بلوغ الحرية والاستقلال، ما يطرح تساؤلات جدية على مدى شرعية كل منهما في ظل هذا الإخفاق؛ ثانياً، تغليب الاختلاف على التوافق كنتيجة لتغليب المصالح الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية؛ ثالثاً، تسويغ كل طرف لنفسه ما لا يجيزه للطرف الآخر، فالتفاوض أو حمل السلاح يكون مقبولاً لطرف، ما دام هو من يبادر إليه، لكنه يصبح نكوصاً (وربما خيانة) إذا ما صدر عن الطرف الآخر؛ رابعاً، غياب القيود الرقابية على ما يقوم به الطرفان داخلياً (في الضفة الغربية وقطاع غزة) في غياب السلطة التشريعية، كلجوء حركة حماس لفرض الضرائب على الناس، وكاستخدام السلطة الفلسطينية في رام الله القوة المفرطة في تفريق الاحتجاجات السلمية؛ خامساً، على الرغم من قدرة الحركتين على خلق الظروف التي تقود إلى تعزيز التباين والاختلاف كما حصل عام ٢٠٠٧ ، إلا أنهما غير قادرتين على محاصرة ما تمخض عن ذلك من نتائج تعيق التصالح بينهما.

 

رابعاً: مبادرات مصالحة أم استمرار للتشظي؟

منذ حدوث الانقسام، لم ينقطع الاهتمام به فلسطينياً وبآثاره في مشروعهم الوطني، فقد قُدِّمت بشأنه مبادرات كثيرة كان آخرها ما يوصف اليوم بحوارات الدوحة، انبثقت من اتفاق القاهرة ٢٠٠٥ ووثيقة الأسرى الفلسطينيين للوفاق الوطني ٢٠٠٦ واتفاق مكة ٢٠٠٦ ، لكنها لم تُفلح بتحقيق المصالحة لأسباب متنوعة يمكن إجمالها بما يلي:

أولاً، عدم تعاطي الحركتين مع تلك المبادرات بصدق ومسؤولية وطنية؛ فحركة فتح تراها وسيلة لتجريد حركة حماس مما راكمته من قوة ونفوذ، لإخضاعها لسلطتها، وحركة حماس تريد عبرها أن تنتزع من حركة فتح ومنظمة التحرير اعترافاً بها، يمكِّنها من أسلمة الحالة الفلسطينية برمتها.

ثانياً، إن تجاوب الطرفين مع تلك المبادرات يأتي من باب تلافي الإحراج أمام الجمهور الفلسطيني الذي سئم الانقسام بعد أن تحوّل إلى صناعة سياسية يسعى عبرها كل طرف إلى انتزاع شرعية الطرف الآخر. إن هبّة تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٥ الراهنة هي مؤشر على مستوى الغضب الذي بلغه الشارع الفلسطيني، ويدلّ ليس على رفض سياسات الاحتلال فقط، وإنما على تجاوز الشارع الفلسطيني للحركتين أيضاً.

ثالثاً، اصطدام المبادرات بإرث فصائلي تغيب عنه تقاليد المراجعة والمكاشفة، حيث لم يصدر عن الفصائل الفلسطينية أي مراجعات جادة لِما وقعت به من أخطاء سياسية؛ فحركة فتح لم تراجع ذاتها بعد فشل أوسلو، كما أن حركة حماس لم تراجع نفسها بعد فشلها بالربط المقنع بين الوطني والديني وبين المقاومة والحكم.

رابعاً، تركيز المبادرات على إدارة الخلاف بدلاً من إيجاد توافق حقيقي بين الطرفين على قاعدة ما هو مشترك، حيث لم تولِ أهمية كافية لمعالجة التباين السياسي والأيديولوجي بين الطرفين انطلاقاً من أساسيات المشروع الوطني الفلسطيني والبرنامج السياسي الأنسب لتحقيقه.

خامساً، رغم أن المبادرات دعت طرفي الصراع إلى إصلاح الأجهزة الأمنية، إلا أنها لم تتقدم بمعالجات عميقة لها بشكل يربط بين موضوع الأمن والبرنامجين السياسيين لطرفي الصراع.

سادساً، تركيز المبادرات على مسائل ثانوية ومؤقتة كتشكيل الحكومة أو إجراء الانتخابات أو حل مشكلة موظفو قطاع غزة، بدلاً من بحث القضايا الأهم. فعند تناوُل المبادرات موضوع الانتخابات على سبيل المثال، تولي الأهمية للجوانب الفنية والإجرائية لا الجوهرية والحاسمة، وتتجاهل الهدف من تلك الانتخابات ونطاقها إذا ما كانت تشمل القدس مثلاً وماهية المشاركين فيها، والقائمين عليها، وشروط إجرائها، ونوع الشرعية والمقبولية التي يُراد استحصالها عبرها.

سابعاً: افتقاد المبادرات المقدمة إلى مساندة البلدان العربية بشكل جدي في ظل انشغالها بالتطورات التي تعصف بالمنطقة.

ثامناً: غياب الاهتمام الدولي بالانقسام كونه يركز على استقرار السلطة الفلسطينية، لا على ما تركه وما زال يتركه الانقسام من آثار سلبية في حياة  الفلسطينيين.

لكي تتحقق المصالحة بين حركتي فتح وحماس لم يعد ضرورياً إنتاج مزيد من المبادرات، فهناك مبادرات كثيرة يمكن البناء عليها رغم أنه ينقصها الكثير، لكن النقص الأكبر لا يتعلق بالمبادرات ذاتها  وإنما بغياب الرغبة الحقيقية لدى الطرفين في إنهاء الانقسام بعد أن طوّرا قدرة ملفتة على تدجينه والتعايش معه.  في حين أن تحقيق التصالح الحقيقي بين فتح وحماس يستلزم صياغة عقد اجتماعي - سياسي فلسطيني، يُحدّد أساسيات المسألة الوطنية وخطوطها العريضة، يُلزم جميع الأطراف ويكون محصّناً من الفئوية والاستئثار ومن إغراءات السلطة والحكم في كل من رام الله وغزة. في نطاق ذلك فقط يمكن للطرفين أن يتعايش كل منهما مع الآخر، لكن ليس قبل ولوج كل منهما بمصالحتين؛ الأولى، مع المشروع الوطني لترميم علاقته به؛ والأخرى، مع ذاته لكبح ما تختزنه من نرجسية ونزعات إقصائية تحول دون تعايشه مع الآخرين.

 

خاتمة

الصراع السياسي بين الجماعات والدول هو قديم قِدَمَ علاقات القوة ذاتها حيث هو صيغة تنظيم تفاعل سياسي تُمليه »ضرورات « معينة في وقت ما، وهو فعل لازَمَ الجماعات السياسية في نطاق سعيها لتحقيق أهدافها، لم يخل منه مجتمع عبر العصور منذ قدماء اليونان حتى اليوم. الفرق بين صراع وآخر ليس بالماهية أو النوع وإنما بصيغته ودرجته وآثاره وسُبُل معالجته. إذاً هو فعل يُنتجه التباين في التصورات واختلاف المصالح بين الأطراف السياسية بعد استفحالها، يُسخّره كل طرف لتعزيز قوته وتعظيم مكاسبه، ويتم تبريره سياسياً وأيديولوجياً وأخلاقياً بأكثر من شكل وصيغة.

للصراع بين الفلسطينيين أكثر من سيرة وتأويل، ويتخذ أكثر من شكل وصيغة بدءاً بالانشقاق ومروراً بالتمرد وانتهاءً بالانقسام، وهو تتويج لتناقضات سياسية وفكرية شقت طريقها للحركات السياسية الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن المنصرم وما زالت حاضرة حتى اليوم، ومن المؤكد أنها ستستمر. لقد مرّ ذلك الصراع بمنعطفات عديدة آخرها محطّته الراهنة بين حركتي فتح وحماس منذ تأسيس الأخيرة عام ١٩٨٨ ، وأنتج انقسام صيف ٢٠٠٧ الذي ما زال قائماً حتى اليوم. هذا

الصراع بدأ سياسياً وأيديولوجياً وتحول إلى انقسام مادي جغرافي بين الضفة الغربية وغزة، نتج منه نظامان سياسيان واجتماعيان مختلفان، وتداخلت في نطاقه، ليس السياسة والأيديولوجيا فقط، وإنما أيضاً المصالح والأجندات السياسية والأمنية والاقتصادية المحلية والخارجية، في إطار السعي للتحرر والاستقلال. لذلك من المرجح أن يستمر الصراع بين الحركتين كونه مرتبطاً بطبيعة بالمصالح المتعارضة داخلياً وبالتناقض الأعمق مع إسرائيل، ذلك التناقض الذي تسنده ادعاءات أيديولوجية ودينية، ويدور لا حوْل الجغرافيا فقط، إنما حول التاريخ والهوية أيضاً، وحول الماضي والحاضر والمستقبل، الأمر الذي يُغذي ويُعمّق التباين بين الحركتين.

أما تبديد الخلافات بين الطرفين، فيتطلب صوغ عقد اجتماعي - سياسي فلسطيني، يتوافق في نطاقه الجميع على المبادئ العامة للمسألة الوطنية، يُتَرجمه برنامج سياسي واضح، يكون قادراً على التعاطي مع الوضع الداخلي والعمل على تعزيزه وتماسكه، وعلى معالجة التعارض بين »الحكم « والمعارضة، وبين السلطة (الدولة) والثورة، وبين الداخل والخارج،وبين ما هو مرحلي وما هو استراتيجي، وقادر أيضاً على التفاعل مع الأطراف الخارجية لحشدها لمصلحة الحقوق الوطنية. لترجمة ذلك، لا بد من التالي:

أولاً، إعادة تعريف الأهداف الفلسطينية المرحلية والاستراتيجية، انطلاقاً من أساسيات المشروع الوطني بحدوده الجغرافية والديمغرافية. وما دام حل الدولتين قد تلاشى بسبب أوسلو، ولأن حل الدولة الواحدة ما زال يفتقد الواقعية بعد جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو مزيد من العنصرية، يصير من اللازم على الفلسطينيين تحديد ما يريدون: دولةً أم حقوقاً وكيفية تحقيق ذلك.

ثانياً، تقييم الواقع الفلسطيني الحالي في ظل فشل استراتيجيتي التفاوض والمقاومة، وما تمخض عنهما من نتائج في العقدين السابقين، ما يجعل من الضروري طرح التساؤل التالي: هل الفلسطينيون اليوم هم بصدد تحرير وطن مُحتل أم إدارة سلطة تحت الاحتلال؟ إن كان الهدف تحرير وطن، كيف يمكن لذلك أن يتحقق في ظل التمسك بسلطة يقود التشبث بها إلى إضاعة شروط تحررهم؟ وبموازاة ذلك من الضروري أيضاً البحث في كيف يمكن »المقاومة « أن تكون مجدية ما دامت تتم خارج التوافق الوطني وتأتي في نطاق انقسام عميق المستفيد الأول منه إسرائيل؟ الخروج من هذين المأزقين أمر مُلِح ويتطلب تحديد الموقف من جدوى السلطة القائمة، لكن ليس انطلاقاً مما تقدمه من خدمات للفلسطينيين، وإنما مما يُلحقه بقاؤها من ضرر على المشروع الوطني. كما من الضروري أيضاً إعادة النظر باستراتيجية المقاومة، ليس انطلاقاً مما تُكسِبه من نقاط لهذا الطرف أو ذاك، وإنما انطلاقاً مما يتركه المضي بها انفرادياً من نتائج تُبدّد الشروط المطلوبة لتحقيق المشروع الوطني.

ثالثاً، هيْكلة كل من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بصيغة تعزز التكاملية بينهما خدمةً للمشروع الوطني ولتطوير الأدوات الأنسب لتحقيقه، ويكون ذلك على أساس إعادة السلطة الفلسطينية للمنظمة لكن بعد تأهيل الأخيرة وإعادتها إلى أهلها، الأمر الذي يمكن أن ينتج منه ما يمكن تسميته »سلطة تحرير فلسطينية «، تُحافظ على ما تم إنجازه مدنياً في العقدين السابقين، لكن ليس على حساب الحقوق الوطنية.

رابعاً، إنعاش الحياه الديمقراطية داخل الحركات السياسية الفلسطينية لتجديد بنيتها وبرامجها، عبر إجراء الانتخابات وعبر تبنّي صيغ فعالة للمراجعة والتقييم والمساءلة السياسية، لإكسابها الدينامية المطلوبة لحمل الوزن الثقيل لعملية التحرر والاستقلال.

مشاركة: