الرئيسية » ماجد كيالي »   08 أيار 2016

| | |
كيف بدأ الكفاح المسلح وإلى ماذا انتهى؟
ماجد كيالي

لم يكن الكفاح المسلح، الذي انطلق قبل 45 عاما، مجرد وسيلة لتحرير الأرض واستعادة الحقوق، ذلك إن الحركة الوطنية الفلسطينية اتخذت منه شكلا لها، بحيث أنه احتل وعيها السياسي، وهيمن على علاقاتها الداخلية والخارجية، وطغى على مجمل بناها وأشكال عملها.

على ذلك ليس غريبا هذا التماهي بين مسيرتي الكفاح المسلح والحركة الفلسطينية، التي لم تحاول البتّة اشتقاق أي شكل نضالي أخر، إذا استثنينا حالة الانتفاضة الأولى (1987ـ1993)؛ التي كانت حالة شعبية، نشأت من خارج التجربة الفصائلية. هكذا، يصح القول بأن تعثر، وبالأحرى تأزّم، مسيرة الكفاح المسلح إنما ينطبق أيضا على واقع الحركة الوطنية؛ التي بات متعذّرا عليها اليوم استخدام هذا الشكل لا في الضفة ولا في غزة، لا من قبل فتح ولا من قبل حماس!

عموما ليس الغرض هنا البحث في أسباب تعثّر مسيرة الكفاح المسلح، الذاتية والموضوعية، وإنما الغرض من ذلك مناقشة الفرضيات التي بررت له والتداعيات التي نجمت عنه. مثلا، فقد تم التبرير لإطلاق الكفاح المسلح باعتباره الشكل الذي يمكّن من استنهاض الشعب الفلسطيني وتوحيده، وفرض كيانه الوطني على الخريطتين السياسية والجغرافية.

طبعا من المغالطة هنا نفي هكذا فرضية، إذ ألهب الكفاح المسلح بعملياته الأولى، وبمشهد الفدائي "المخلّص" (كما برموزه وخطاباته وأناشيده وأزيائه وراياته وبطولاته وشهدائه ومعتقليه)، مخيّلة الفلسطينيين الجمعية، العاطفية، بامكان قرب تحرير الوطن، وسهّل عمليات إعادة انصهارهم كشعب، واستنهاضهم من واقع النكبة، وصياغة هويتهم الوطنية.

مع ذلك فإذا راجعنا هذه التجربة المريرة والصعبة فسنجد بأن الكفاح المسلح لم يكن كافيا، بحد ذاته، للحفاظ على قوة الدفع التي خلقها في سنواته الأولى، حيث لم تلبث هذه التجربة أن أجهضت، ليس بفعل عوامل خارجية فقط، وليس بسبب تفوق إسرائيل من الناحية العسكرية، فحسب، وإنما أيضا بفعل عوامل داخلية، ضمنها، مثلا، تخلف إدارة الوضع الفلسطيني، وعدم ارتباط المقاومة المسلحة بإستراتيجية سياسية وعسكرية واضحة، وسيادة الفوضى والمزاجية في انتهاج هذا الشكل.

فوق كل ذلك فقد كان من شأن المبالغة بهذا الشكل طغيانه على الحياة السياسية، إذ تحول العمل بين جماهير المخيمات، إلى نوع من الاستقطاب الزبائني (وليس السياسي)، وحلت الميليشيات محل الأطر التنظيمية/ الحزبية، ما أدى إلى تحول العمل المسلح إلى نوع من السلطة. وفي ذلك باتت مكانة المنظمات تتحدد بمدى حيازتها على قوة عسكرية (لا التنظيمية أو الفكرية أو الصدقية المسلكية). وباتت هذه القوة تستخدم في اتجاهين آخرين، غير مواجهة العدو، أي باتجاه تكريس السيطرة على التجمعات الفلسطينية، والحسم بشأن ترتيب المنظمات الفدائية.

الانحراف الآخر، في تجربة الكفاح المسلح كان في تحوله إلى نوع من "التجييش"، حيث بات للفصائل (فتح وبعدها قلدتها الفصائل الأخرى) قواعد عسكرية ثابتة (في الأردن ولبنان)، وبات لديها أسلحة "ثقيلة"، ما أخرج هذه التجربة عن مفهوم حرب الشعب، أو حرب العصابات. وبالصلة مع هذا التحول فقد أدى وجود قواعد عسكرية ثابتة إلى خلق حساسيات وصدامات مع البلد المعني (الأردن ثم لبنان)، حيث اعتبر ذلك مسا بالسيادة الوطنية، وإخلالا بالتوازنات الداخلية، الأمر الذي استنزف القوى الفلسطينية واضعف صدقيتها، وصرفها عن مواجهة عدوها.

طبعا، لايفيد هنا مجرد إلقاء اللوم على النظام الأردني أو اللبناني لأن الحركة الفلسطينية كانت تدرك حدود النظام الرسمي العربي، والسقف المسموح لها به، عدا عن أن هذه الحركة اشتطت كثيرا في تحدي السيادة والسياسة في هذين البلدين، في الأردن ربما بسبب ضعف التجربة والممارسة، وفي لبنان بسبب استدراجها للانخراط في الصراعات الداخلية.

وللمفارقة ها نحن نشرب من نفس الكأس، فهاهي حماس وفتح تمنعان أي شكل من المقاومة المسلحة بدعوى المصلحة الوطنية و"السيادة"!

بالنتيجة فقد أدت هذه التوترات إلى الإضرار بالفلسطينيين في عديد من البلدان العربية، بحيث وضعت قيود على حركتهم وأشكال عيشهم، وحيث تحولوا إلى مشكلة أمنية وديمغرافية وسياسية، إذ بات يتم التعامل مع الفلسطيني ليس من منظور إنساني (أو قومي)، وإنما من منظور امني؛ وتبع ذلك تقييد علاقة القيادة الفلسطينية بجماهيرها في مخيمات اللاجئين في الشتات.

ويستنتج من ذلك أن "عسكرة" الحركة الوطنية الفلسطينية لم تحدث مع الانتفاضة الثانية، وإنما هي حدثت قبل ذلك بكثير، فهي الشكل الذي تمظهرت به الحركة الفلسطينية.

ومعنى العسكرة، طغيان الأجهزة الأمنية، وأجهزة حيازة القوة، على بنيي العمل الفلسطيني، واستغراقها في خطاباته، دون صلة بمدى تأثيرها على إسرائيل. ومعنى العسكرة أيضا نبذ أشكال النضال الأخرى، أي الاستهتار بأشكال النضال السياسي (على الصعيد الدولي وعلى صعيد التأثير في المجتمع الإسرائيلي)، والاستخفاف بالتأطير الحزبي/الطوعي (والاكتفاء بنمط علاقات زبائنية وميليشياوية)، والتقليل من أهمية الوعي السياسي والنقد السياسي (وهي من أولى مهمات الحركات الثورية كونها حركات نقدية أو تغييرية). ومعنى العسكرة أخيرا، وهو ينتج عنها أيضا، تهميش المشاركة الشعبية، أو جعلها ملحقا أو ديكورا، حيث المشاركة في السياسة، والعملية الوطنية، حكرا على المنضوين في الفصائل المسلحة، وخصوصا المتفرغين فيها؛ ما همش علاقة التجمعات الفلسطينية بحركتها الوطنية.

بالمحصلة لم تستطع الحركة الفلسطينية المحافظة على قوة الدفع اللازمة لتعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، لأسباب خارجية، وأيضا لأسباب داخلية، نابعة من طريقتها في العمل وشكل صلتها بجماهيرها. هكذا ليس اليوم صلة أو توسطات بين الفلسطينيين وحركتهم الوطنية، لاسيما في تجمعات اللجوء والشتات، فقد تم تقويض المؤسسات الجامعة (التي نهضت مع إنشاء منظمة التحرير)، وحتى الاتحادات الشعبية (الطلاب والكتاب والصحفيين والعمال والمرأة وغيرها) باتت أثرا بعد عين!

أكثر من ذلك فإن وحدة الشعب تتعرض لتحديات كبيرة، ليس بسبب الانقسام السياسي (بين فتح وحماس)، وإنما أيضا بسبب تباين الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية التي يخضع لها الفلسطينيون، وبسبب اختزال الحركة الوطنية إلى مجرد سلطة في الضفة والقطاع، وتهميش منظمة التحرير، وأيضا، بسبب غياب الأهداف الوطنية الجامعة، وأفول العناصر المكونة للمخيلة الشعبية الجمعية.

أما كون هذه الحركة أعادت للشعب الفلسطيني عزته وكرامته، وحولت قضيته من قضية إنسانية إلى قضية سياسية وطنية، فنحن نعرف مآلات هذا الأمر للأسف، حيث عاد الوضع إلى المربع الأول، وباتت قضية فلسطين أقرب إلى قضية إنسانية، وقضية مساعدات خارجية، ومجرد أراض متنازع عليها (بحسب اتفاق أوسلو).

ليس ذلك فقط فثمة ما يوضح الأمر في واقع أن الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان انعكس سلبا، على الفلسطينيين، وشكل خطورة على حياتهم، ووجودهم، ليس فقط بسبب الاحتكاك مع القوى اللبنانية المتضررة، وليس في مواجهة اعتداءات إسرائيل فحسب، وإنما في تحول المخيمات إلى مكان للاقتتال الفلسطيني المدمر، مع ما لحق بذلك من خسائر باهظة (بالأرواح والممتلكات والقيم).

فوق ذلك فقد بات للسلاح في المخميات نوعا من وظيفة أمنية (داخلية) ووظيفة سياسية (إقليمية)، من دون أن يكون له أي دور في مواجهة إسرائيل. فوق ذلك فإن الحركة الفلسطينية إبان "عزها" في لبنان لم تحاول استثمار مكانتها لتغيير القوانين التمييزية بحق الفلسطينيين، في تعبير عن مبالغتها بالعمل العسكري، واستهتارها بالجوانب القانونية والسياسية والإنسانية للعمل الوطني. فلنتمعن في الثمن الذي دفعه فلسطينو لبنان.

المفارقة الآن أن ثمة دعوات (محقة ومشروعة وضرورية) لمراجعة نهج المفاوضة والتسوية، ولكن الأحرى بالفلسطينيين أن يراجعوا أيضا أشكالهم النضالية، وان يتفحصوا مليا تجربتهم (إن جاز التعبير) بالكفاح المسلح، أشكالها ومساراتها وجدواها؛ من خطف الطائرات والبواخر إلى امتشاق الطائرات الشراعية إلى العمليات التفجيرية والقصف الصاروخي.

ولعل الانتفاضة الأولى هي الشكل النضالي الأرقى والأنسب والأكثر جدوى الذي انتهجه الشعب الفلسطيني، ما يفرض المقارنة بين الوسائل النضالية التي اعتمدتها، والتجربة العسكرية. والمفارقة هنا، ايضا، ان الكيان الفلسطيني لم يقم كنتيجة للكفاح المسلح وإنما كثمرة للانتفاضة الأولى.

وربما يمكن ان نستنتج من كل ما تقدم بأن الفلسطينيين خسروا معركة الكفاح المسلح، ليس بسبب إسرائيل فقط، وإنما هم خسروه أكثر بسبب فوضاهم، وتخلف إدارتهم، وبناهم الهشة، أو بحسب تعبير إقبال أحمد: "لقد هزم الفلسطينيون أنفسهم أكثر مما هزمتهم إسرائيل". وهذا الكلام لايقلل من شرعية المقاومة الوطنية المسلحة، كما قد يدعي البعض، على العكس من ذلك، فهذا الكلام يستدعي ترشيد هذا الشكل، بمعنى تنظيمه وعقلنته، وربطه بإستراتيجية سياسية واضحة، وإدارته بشكل يخدم العملية الوطنية الفلسطينية، ولا يخرّبها.

 

مشاركة: