الرئيسية » خالد الحروب »   07 حزيران 2016

| | |
سنغافورة ... لماذا نجحت وفشل العرب؟
خالد الحروب

زيارة هذا البلد الجميل الذي قدم لدول العالم النامية نموذجاً مُعجزاً في التقدم والقيادة الرشيدة تولد في الحلق مرارة إن كان الزائر عربياً وتأمل في قصة النجاح بعض الشيء. هنا تكاتف الإصرار على الاستقلال والاعتماد على النفس مع روح جماعية مُدهشة وقيادات سياسية مخلصة لوطنها قدمت مصلحته على أية أنانيات فردية، فأخرج هذه المدينة التي كانت مجرد ميناء خدمات استعمارية طيلة ثلاثة قرون من قيود التبعية، وحولها إلى شعلة من الوهج المُبهر. لم يدر بخلد السير ستامفورد رافلز الذي بنى معبر السفن سنة 1826 كجزء من النشاط الاستعماري لشركة الهند الشرقية ان تتحول هذه النقطة القصية إلى دولة ناجزة كما هي عليه الآن. ولم يتوقع احد ان يطوي ذلك الميناء الرث، ليفربول الشرق كما كان يُسمى، ماضياً مر به البرتغاليون والهولنديون واحتله البريطانيون واليابانيون واشتغل فيه السكان الأصليون المختلفون إثنيا ودينيا عمالاً سخرة للأجانب، ثم يتحول إلى طاقة جماعية مُذهلة من العمل والإنجاز.
عندما استقلت سنغافورة عن بريطانيا عام 1963 كان العديد من الاستقلالات العربية قد أُنجزت ومضى عليها بضعة عقود. بل إن دولا مثل مصر والعراق وسورية والمغرب والأردن كانت قد ترسخت أنظمتها واقتصاداتها، ومصر تحديدا من بينها كانت تقوم فيها جوانب نهضة واعدة من الصناعات الثقيلة إلى صناعة السينما. اليوم يصل الناتج القومي العام لهذا البلد الصغير بملايينه الخمسة والنصف (ومنهم 40% أجانب) الى 308 بليون دولار متجاوزا نظيره المصري حيث عدد السكان يفوق سنغافورة بـ 15 ضعفاً. وتتقدم دول العالم في معايير التنمية الإنسانية سواء في التعليم او الصحة الأولية او انخفاض نسبة البطالة. كما تتصدر المدن الأكثر جذبا للاستثمار والكفاءات، والمستقبلة للتكنولوجيا الحديثة، إضافة إلى امتلاك الغالبية الكاسحة من السكان بيوتهم. الكفاءة والنظام والنشاط هي بعض من العناوين التي يراها الزائر، مُضافا إليها لطف الناس وتواضعهم وترحابهم. لا تتوقف قصة النجاح السنغافوري عند الاقتصاد وإن كان هو عنوانها. فهناك أيضا عبقرية السيطرة على التنوع الإثني والديني الذي كان يحبل بكل أنواع الانفجارات عشية الاستقلال، ويهدد بمواصلة انفجاراته ليشل البلد وسكانه عقودا طويلة. عوض ذلك تحول هذا التنوع الى مصدر قوة وقُلمت أظافر الشوفينيات القومية والدينية وصهرت في مشروع المواطنة السنغافورية. يتوزع الناس هنا إلى من هم من أصول صينية 74% من السكان، ومالاوية (مسلمة) 14% وهندية 9%إضافة الى مجموعات اخرى اقل عدداً. في وسط المدينة القديمة تتجاور الجوامع والمعابد الهندوسية والبوذية بشكل أخاذ. قائد الاستقلال وباني نهضتها لي كوان يو كان من الأغلبية الصينية لكنه رفض سيطرة الأغلبية على الأقليات وصمم على تأسيس مواطنة سنغافورية تساوي بين الأفراد. نحى أيضا إغراء التبعية والولاء للصين الكبرى الوطن الأصلي له ولغالبيته. رفض منطق الغالبية والأقلية وانهمك مع حكوماته في محاربة ذلك المنطق، بل وفي الانخراط في شكل من أشكال "الهندسة الاجتماعية" التي استهدفت تأسيس هوية سنغافورية وطنية جامعة. لم يكن ذلك من دون أكلاف طبعا، ذلك ان الالتزام المتشدد ولد اتهامات بالدكتاتورية والسلطوية الابوية. لكن الماضي الطويل للسيطرة الكولونيالية البريطانية على جنوب شرق آسيا والتي كان من ضمنها ثلاث سنوات ماحقة من الاحتلال الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، من 1942 إلى 1945، عزز توليد نزعة استقلالية عميقة وراديكالية عند نخبة الاستقلال، وعلى رأسها كوان يو نفسه، في الإصرار على تخليق ولاء وطني يهمش كل الولاءات الأخرى.
الترسخ التدريجي للمواطنة والإيمان الجمعي بالولاء للدولة الناشئة ودحر الولاءات المنافسة، إثنية كانت أم دينية أم أممية بعيدا عن المقدمة هو الأساس المتين الذي وفر لقصة النجاح السنغافوري ان تستمر. وفي الآن ذاته اشتغل التقدم الاقتصادي والوفرة المالية، التي لم تستند إلى موارد طبيعية بل إلى نشاط الأفراد ويقظة الحكومات وتشجيعها للاستثمار واتباع سياسات منصفة وغير محابية لأية شريحة في المجتمع، على تعميق الانتماء عند الناس وإحساسهم بالمساواة. اعتماد الكفاءة والمساواة في الفرص meritocracy خلق مناخاً تنافسيا قاعدته الأهلية والتحصيل، وليس الزبائنية والقرابة او الانتماء الطائفي او الإثني. ليست الصورة مثالية بطبيعة الحال، وكان ثمة دوماً احتقانات هنا او هناك، وفشل نسبي في قطاع ما او مرحلة معينة، لكن الصورة العامة للنجاح المتواصل هي التي تشد المرء، خاصة عندما يقارنها بصور الفشل المرير الذي تقلبت فيه دولنا ومجتمعاتنا العربية.
ربما لم يكن لسنغافورة ان تنجح لو لم تمنحها الأقدار قيادة فريدة ممثلة بـ لي كوان يو ورفاقه. كوان يو الذي كان رئيس وزرائها الأول واستمر في المنصب خلال عقود التأسيس الحساسة والهامة، من أواخر خمسينيات القرن الماضي (اي خلال السيطرة البريطانية) إلى أواخر تسعينياته، يُعتبر الأب الروحي لسنغافورة الحديثة. هو من أسس وقاد حزب العمل الشعبي الذي قاد الاستقلال، ووقف في وجه الصين واندونيسيا، ثم قاد تنمية البلد. بعد تخليه عن رئاسة الوزراء سنة 1990 اشتغل كوزير ومستشار للحكومات التالية حتى وفاته سنة 2015. قراءة إرثه السياسي والفكري الذي سجله في عدة كتب اهمها مذكراته: "من العالم الثالث إلى الأول: قصة سنغافورة 1965ـ2000" (From Third World to First: The Singapore Story 1965 2000) يجب ان يكون واجباً مدرسيا على كل مسؤول عربي يريد ان يتلمس مدارك القيادة الرشيدة والناجحة. يحتاج الكتاب إلى اكثر من مراجعة مطولة لكن ربما يكفي هنا الإشارة إلى بعض الإطلالات السريعة الدالة. أولها ان مذكراته التي كتبها على مدار عدة سنوات أشاد بها اكثر من 28 رئيس دولة او وزير او سياسي من العالم، كما هو مدرج في الصفحات الأولى من الكتاب، ليس منهم اي مسؤول عربي! الثانية هي ان صفحة الشكر التي تصدرت الكتاب تضمنت 32 اسماً امتدت من اصغر باحث او سكرتيرة ساهمت في تقديم اي معلومة للمؤلف وصولا إلى اكبر واهم الأرشيفات العالمية.

 ومن ضمن المشكورين عدة أشخاص قرؤوا المسودة الأولى للمذكرات وعلقوا عليها إما إضافة او اقتراحاً بتعديل او شطب، ومنهم عدة مالاويين ثقات أراد منهم ان يراجعوا ما كتبه عن ماليزيا نظرا لحساسية الموضوع خاصة خلال فترة الاندماج مع ماليزيا في الستينات ثم الانفصال عنها. ثم هناك الإقرار المتواضع بأن كوان نفسه ما كان بإمكانه إنجاز ما انجز لولا العمل الجماعي والعمل مع رفاق الدرب، وهم الذين يصفهم بـ "الرفاق القدامى الذين من دونهم ما كان بالإمكان ان نصنع قصة سنغافورة" وإليهم اهدى الكتاب وهم: غو كينغ سوي، س. راجاراتنام، هون سوي سن، ليم كيم سان، ايدي باركر، تو شن شي، اونغ بانغ بون وعثمان ووك. في مكان ما في الكتاب يقول كوان: لم اكن يوما ما حبيس اي نظرية من النظريات. النظرية التي كنت أتبناها هي التي تخدم سنغافورة وتساهم في بنائها. هوسه في التعليم جعل سنغافورة في مقدمة البلدان في التحصيل المدرسي والجامعي والعملي.
كيف نتعلم من القصة السنغافورية إذن؟ هناك بدايات عديدة، ومنها ربما قد تكون استعادة قصة التاجر اليمني الناجح والشهير سيد عمر الجنيد ابن حضرموت الذي وصل إلى سنغافورة سنة 1816. قصة الجنيد، وكما تعرضها جداريات المتحف الوطني هنا، تقول بأنه كان واحدا من اهم التجار الذي جابوا البحر الأحمر والمحيط الهندي وصولا إلى أرخبيل الجزر المالاوية، وممن تمتعوا بثقة الجميع استناداً إلى نسبه النبوي وحمله لقب "سيد". استقر الجنيد في سنغافورة وهناك ازدهرت تجارته الأمينة وعلاقاته الجيدة واحبه الناس، وبنى اول جامع في سنغافورة "مسجد عمر كامبونغ ملكا" سنة 1820. إلى جانب ذلك تبرع بالأرض التي بُنيت عليها كاثدرائية سانت اندروز ومستشفى شهير إلى جوارها. الجنيد ساهم في تأسيس التعايش والمواطنة السنغافورية التي خلقت تاريخاً من الوئام ووفرت جزءا من الأرضية التي تقوم عليها سنغافورة اليوم. عندما يتبرع احد أغنياء المسلمين اليوم لبناء كنيسة نكون قد بدأنا المشوار الحقيقي في المواطنة!

مشاركة: