خلال تسع سنوات من الانقسام الفلسطيني الذي قادته ورسخته ببراعه وإبداع مُدهش حركتا فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة، تسابقت الحركتان في تقديم خدمتين لإسرائيل: الأولى تقويض أي كيانية فلسطينية موحدة وتعزيز الانقسام السياسي والجغرافي والديموغرافي ومأسسته، والثانية حماية أمن إسرائيل. إسرائيل لم تفعل الكثير من أجل الظفر بهاتين الخدمتين، كل ما قامت وتقوم به هو رفع عصاتها الغليظة فوق رأس سلطة رام الله وسلطة غزة وتبقي رسالة التهديد واضحة، إما إبداء حسن السلوك عن طريق حفظ أمن إسرائيل من طرفكم، وإما أن تهوي العصاة على رؤوسكم (عن التضييق المالي والإداري والإذلالي في الضفة الغربية، أو عن طريق الضربات العسكرية في قطاع غزة).
الاستجابة من الطرفين، الفتحاوي والحمساوي، مُدهشة ولسان حالها يقول مُقابل الإبقاء على سلطتين هشتين وتنعم قادتها بالكراسي ونعيمها وميزاتها فإننا على استعداد للقيام بكل شيء. بعض من الخلاصات جاء هذه الأيام على لسان نبيل شعث أحد قيادات فتح ليقول أن السلطة في رام الله تنفق على أمن إسرائيل أكثر مما تنفق على تعليم الفلسطينيين. في كل المجالات ذات العلاقة بالشعب الفلسطيني هناك فشل متراكم من قبل «السلطة الوطنية»، والنجاح الوحيد الذي لا يختلف على تقويمه اثنان يحدث ويتواصل في مجال التنسيق الأمني مع إسرائيل، وهو الاسم المخفف لوظيفة خدمة أمن إسرائيل.
أخرج الشعب وقواه المدنية والنضالية من أي احتكاك مباشر أو غير مباشر مع «العدو»، وأحيلت مناقصة التعامل مع إسرائيل، بالمفاوضات فقط، إلى السلطة المكبلة والتي تتحرك تحت ظل العصا الغليظة لإسرائيل. عند جانب حماس لا تخرج بعض الخلاصات في غزة عن ذات الدائرة، أي الحفاظ على أمن إسرائيل، مقابل بقاء حماس في السلطة. لكن خطاب حماس أكثر تعقيداً لأنه يدفع بلغة المقاومة إلى الأمام فتصبح المحافظة على الانقسام، وعلى أمن إسرائيل، من مكونات الأمن القومي الفلسطيني المقاوم. خلال السنوات الماضية، وتحت شعار المقاومة، أجهضت المقاومة عملياً وأخرج الشعب من ساحتها، وأحيلت المُناقصة إلى كتائب القسام فقط. بحسبة رياضية مباشرة وخلال السنوات التسع من سيطرة حماس على قطاع غزة تمت رعاية أمن إسرائيل على أكمل وجه، على رغم الحروب الثلاثة و «الصواريخ» آلاف الصواريخ التي بالكاد جرحت أحداً في إسرائيل، لم يتعد كل مجموع أيام وأسابيع المقاومة 11 أسبوعاً. أي ما لا يزيد على 3 في المئة من الأعوام التسعة. مقابل ذلك تنعمت إسرائيل بأمن وأمان على طول الحدود مع قطاع غزة في الزمن الأطول أي 97 في المئة. في المقابل، ماذا استفادت فلسطين والفلسطينيين من هذه المعادلة المُختلة؟ عملياً، لا شيء سوى تعزيز الانقسام، وتأمين رأس مال سياسي مقاومي ظاهر لحماس كي تواصل سيطرتها على قطاع غزة.
الخلاصة المشتركة هي أن سلطة الضفة وسلطة غزة فشلتا في تقديم أي مُنجز للشعب الفلسطيني، سواء عن طريق المفاوضات هنا، أو المقاومة هناك. بيد أن الاثنتين نجحتا في إنجاز ثلاث مهمات رئيسة وكل منهما أبدع فيها بطريقته الخاصة: إعفاء الاحتلال من مسؤولياته الاحتلالية، المحافظة على الانقسام وتكريسه، والمحافظة على أمن إسرائيل. لهذا يحق للقادة الإسرائيليين الاسترخاء على المقاعد ورفع أحذيتهم في وجوه الجميع، من دون حتى الاهتمام بشكر هؤلاء المتنافسين في تقديم الخدمات لهم، متمسكين دوماً بما تفرضه وقاحة الظافر وتبجحه من سلوكيات.
لنتوقف عند «المهمة الجليلة» الثانية التي أنجزتها سلطتا رام الله وغزة: أي تكريس الانقسام و «نحتفل» بعيد ميلاده التاسع هذه الأيام. بعد ما يُقارب من شهرين من ذلك الصيف البائس والدموي عام 2007 كتبت مقالة أتخوف فيها من تأبد ذلك الانقسام، لأنه أولاً وأخيراً سيحظى برعاية إسرائيل وخلق المناخات التي تمد في عمره. وبأمل دق نواقيس الخطر المبكر ضمنت المقالة تنبؤاً بشعاً يقول أن السماح للانقسام بالتكرس سيُفضي إلى خلق كيان مشوه في غزة على غرار «قبرص التركية»، لا يحظى بالسيادة ولا بالاعتراف الدولي، لكنه مخول من قبل دولة جارة للقيام بوظائف خدمية للسكان. سيناريو «قبرص التركية» هو الأكثر خدمة لإسرائيل لأنه يحقق لها كل الأهداف التي تريدها دفعة واحدة وأكثر: يخلصها من عبء الاحتلال والقيام بمسؤوليتها الاحتلالية، ويخفف من صورتها كمحتل عسكري كولونيالي بشع أمام العالم، ويحيل مهمة الحفاظ على أمنها إلى «قيادة» الشعب الواقع تحت الاحتلال ومن دون أية أكلاف حقيقية، ويقسم الشعب ذاته إلى نصفين بما يحطم وحدته العضوية والوطنية واحتمالات بروز أي كيانية وشرعية موحدة تهدد الاحتلال سواء سياسياً أو مقاومياً، وفي الوقت نفسه فإن «قبرص الغزاوية» لن تتمتع بأي شكل سيادي ولن تحلم بأن تكون دولة ولا دويلة، وستبقى مجرد «حكم ذاتي» خدماتي يتقاتل عليه الفلسطينيون بمنظماتهم وفصائلهم إلى أبد الآبدين.
خلال السنوات التسع الماضية تكرس سيناريو «قبرص الغزاوية» وأعدت الكتابة حول هذا السيناريو مرات عدة، متأملاً أن تُسمع الدقات على جدران الخزان، وهذه الأيام و «احتفاءً» بالذكرى السيئة نعاود الكتابة حول الموضوع. أستميح القارئ في اقتباس بعض ما تضمنته مقالات السنوات السابقة إزاء سيناريو قبرص التركية الذي بدا خطره كبيراً منذ الأشهر الأولى للانقسام، ثم ها هو يتحول إلى حقيقة مؤلمة وبشعة على أرض الواقع الفلسطيني:
“قطاع غزة ينفصل عن الجسم الفلسطيني يوماً بعد يوم وعلى مرأى ومتابعة القيادات الفلسطينية الأنانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى مرأى الدول العربية المجاورة التي ستدفع هي الأخرى ثمناً باهظاً بسبب تكرس الانفصال الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني. الوضع الراهن يسير حثيثا باتجاه تنفيذ رؤية أفيغدور ليبرمان العنصري الكبير في حكومة نتانياهو ووزير خارجيته. ليبرمان طرح فكرة التخلص من غزة نهائياً وتدريجاً ورفع يد إسرائيل عنها، والسماح للمجتمع الدولي بتوفير مقومات الحياة للقطاع وأهله من دون المرور بإسرائيل.
عملياً تدلل المؤشرات على أن السياسة الإسرائيلية تتحالف مع التعنت الفلسطيني الضفاوي الغزاوي في تحويل رؤية ليبرمان إلى واقع سياسي وجغرافي. وبكل الأحوال فإن فكرة التخلص من غزة وسكانها ليست جديدة بل نعرف أنها دغدغت أحلام وتخطيطات قادة إسرائيليين عديدين تمنوا أن يستيقظوا ويروها غارقة في البحر، كما تمنى اسحق رابين عام 1992. ومثل الانسحاب أحادي الجانب من القطاع والذي نفذه شارون عام 2005 التجسيد الأهم لتلك الأحلام وإن لم ينجح وفق ما تم التخطيط له: أي أن ترمي إسرائيل القطاع فتتلقفه مصر. فالذي حدث أن إسرائيل رمت لكن مصر رفضت أن تتلقف.
إذا استمر القصور الإستراتيجي الفلسطيني والعربي إزاء مسألة الانقسام كما هو فإن قطاع غزة سينتهي إلى حالة شبيهة بـ «قبرص التركية»، وهي حالة مثالية بالنسبة لإسرائيل. والخلاصة هنا هي أن القطاع سيأخذ شكلاً كيانياً لا تعريف له في القانون الدولي، لكن سيتم توفير شريان الحياة له، تماماً كما في حالة قبرص التركية، المُعلنة منذ عام 1985. ففي تلك الحالة هناك كيان أو دويلة لها حكومة وموازنة ووزارات وتدير السكان كما يحدث في أي دولة. لكن ليس هناك سيادة أو اعتراف دولي أو تمثيل خارجي. شؤون السكان واحتياجاتهم متحققة من خلال الحكومة المحلية. وفي حالة قطاع غزة تتوافر حكومة ووزارات الآن ونظام أمني ورعاية لشؤون السكان، وليس هناك حاجة لمنح الوضع القائم أي تمثيل قانوني أو سيادي ويمكن التعايش معه إلى أجل غير مسمى.
عندما أعلن القبارصة الأتراك عن «استقلال» دولتهم عام 1985، بعد سنوات من اجتياح الجيش التركي لشمال الجزيرة عام 1975 لم يتصور أحد أن يستمر الكيان الجديد الذي رفضت أن تعترف به أي دولة من دول العالم غير تركيا. لكن منطق السياسة المُدهش وجنونها أحياناً لا يخضعان لأي تقدير أو توقع عقلاني. فالأحداث وتسارع وتيرتها وما تخلقه من وقائع على الأرض تصبح هي من يقود السياسيين، وليس العكس. في حالة قطاع غزة وحماس لم يخطر ببال أحد أن الانقسام الذي أتم أكثر من ثلاث سنوات من عمره (المديد) سيتواصل حتى الآن. الشيء الأكثر مرارة هو أن هذا الانقسام سيستمر لسنوات أكثر مقبلة طالما استمرت العقلية الفصائلية الفلسطينية هي التي تتحكم بالسياسة الفلسطينية ومصائر الشعب الفلسطيني، على حساب المصلحة الوطنية العليا، وطالما استمرت السياسة العربية متحالفة عضوياً مع قصر النظر واللامبالاة وتراقب تدهور الوضع من دون تدخل أو مبادرات».