الرئيسية » هادي عبد الهادي العجله »   12 تموز 2016

| | |
تجلّي النيوليبرالية في إسرائيل.. ففلسطين: طبقةٌ مستجدّة يسّرها عدم تسييس الاحتلال
هادي عبد الهادي العجله

قلّ لي مَن يستعمرك، أقل لك كيف ستتصرّف. قد لا تنطبق هذه المقولة على الكلّ الفلسطيني أو على كافة أماكن الاستعمار، ولكنها تحفّز العقل على البحث عن أجوبة لأسئلة صعبة. يقول الفيلسوف الفرنسي فرانتز فانون إن عالم الاستعمار ينقسم إلى قسمين: المُستَعمِر الذي تُهذّبه الرأسمالية، والمُستعمَر الذي يهذّبه المُستعْمِر[1]. في المُستعمرات، الضابط هو الممثل الشرعي للمُستعمِر والنظام القمعي. وفي المجتمعات الرأسمالية، تُغرس في عقل المسلوب حقّه كافّة أشكال الاحترام للوضع الراهن، ويُرسّخ فيه الشعور بسلب إرادته والتثبيط والهوان، ما يسهّل عملية الاستعمار.
في فلسطين، وخصوصًا في الضفّة المحتلّة، يبزغ شيءٌ مشابه لذلك تماماً، قوامه قوّةٌ مبنيّة على مفهوم السلام الاقتصادي بطريقةٍ مركّبة ومعقّدة للحفاظ على الوضع الراهن. فمن ناحية، تعمل هذه القوّة على تعزيز قوّة الجنديّ المُستعمِر من جهة، ومن جهة أخرى تعمل على تعزيز قوة الرأسمالية. ذلك كله يأتي في سياق خَلق طبقة فلسطينية مجتمعية تدافع عن الوضع الراهن بدلاً من مقاومته للتخلّص من الجندي المُستعمِر. من الجدير بالذكر أن أحد أضخم تلك المشاريع هو مشروع "مدينة روابي" الفلسطينية، المقام على بعد عشرة كيلومترات من مدينة رام الله المحتلة.


"الفيّاضية": الصمود/السلام الاقتصادي
في العام 2008، عقد الفلسطينيون "مؤتمر الاستثمار الفلسطيني"[2] لجذب رؤوس الأموال الخارجية بهدف دعم البنية التحتية الاقتصادية الفلسطينية. وعقد المؤتمر برعاية رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض، الذي روّج، هو ومجموعة من السياسيين والاقتصاديين، لمفهوم النضال الجديد، أيّ تعزيز الصمود الفلسطيني من خلال تقوية الاقتصاد وجلب الاستثمارات الخارجية. أُطلق في ذلك الحين على هذا المفهوم "الفيّاضية"، وهو مفهوم مبني على أساس الصمود الاقتصادي وتوفير حياة رفاهية أعلى للفلسطينيين في مقابل تخفيف حدّة الصراع مع الاحتلال. وقد تزامن ذلك مع عروضٍ إسرائيلية لما يُسمّى بالسلام الاقتصادي، أيّ تعزيز الروابط الاقتصادية الفلسطينية عبر الاستثمار في البنية التحتية في الضفّة الفلسطينية وتعزيز نمو الدخل الاقتصادي للفرد[3].
بعد التدقيق بالمستثمرين والمُشترين وموقع "مدينة روابي" وتصميم المدينة في أدقّ تفاصيله، نستنتج أن النهج يهدف بشكلٍ مباشر إلى خلق طبقةٍ مجتمعية جديدة تحمل وجهات نظر نيوليبرالية رأسمالية واستهلاكية كرمزٍ من رموز التحضّر والتقدّم، وكرسالة منهجية جديدة في المقاومة حسبما يعتقد البعض. ولكن، في حقيقة الأمر، إن "روابي" تعمل على "عدم تسييس" التنمية الاقتصادية تحت الاحتلال، بهدف جعل الاحتلال أقلّ تكلفة، بل بحيث يحقّق أرباحاً اقتصادية وتطبيعًا بين الطبقتين الاقتصاديتين الفلسطينية والإسرائيلية، بالإضافة إلى خلق تشابهٍ كبير بين الطبقة الوسطى في الجانبين: المُستعْمِر والمُستعْمَر.

لمّا تحوّلت إسرائيل إلى النيوليبرالية..
تعتبر مدينة روابي نتاج شراكة قطاعَيْن: القطاع العام ممثلاً بالسلطة الفلسطينية، والقطاع الخاص المتمثل في شركة "بيتي"، بدعمٍ قطريّ رسميّ.
يقول أندرو كلارنو: "عملية إعادة ترتيب الاحتلال وإعادة رسم النيوليبرالية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي هي عملية واحدة في منهج التحوّل"[4]. وعليه، تجب دراسة "مدينة روابي" في سياقها السياسيّ والاقتصاديّ الإسرائيليين، حيث تحلّ كعمليةٍ تكتيكيةٍ هدفها إعادة تصنيع الاحتلال بطرقٍ جديدة تتناسب مع التحوّل الاقتصاديّ العالميّ الذي بدأ منذ أواخر القرن الماضي.
في العام 1985، بدأت إسرائيل في التحوّل إلى النيوليبرالية، حين وقّعت اتفاقية التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة. وبدأت بتقليص سياسات دولة الرفاهية، وتقليص الرواتب والمصروفات، لتتمكّن من السيطرة على اقتصادها. ولكن، عملية الاندماج الكامل في التحوّل إلى النيوليبرالية كانت تشوبها شوكة احتلال شعبٍ آخر في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، ما كان ليمنع إسرائيل في ذلك الوقت من الاندماج الكامل في السوق العالميّ، مع استمرارية مقاطعة الدول العربية لإسرائيل. اشتدّت الانتفاضة الأولى حينها، وأصبح الصوت الفلسطينيّ مسموعاً في الأروقة الدولية، ما زاد التخوّف لدى إسرائيل من أن نموذج جنوب إفريقيا آتٍ في الطريق عبر مقاطعةٍ اقتصادية وسياسية.
استراتيجة إسرائيل الجديدة أتت على مستوى إدارة تلك المناطق المحتلّة، بحيث تتخلّص من عبئها عبر تلزيمها أو تفويض طرفٍ آخر بإداراتها. كان حينها الوقت المناسب لذلك، خاصةً مع عجز "منظمة التحرير الفلسطينية" عن الاستمرارية في ظلّ مقاطعة دول الخليج، وازدياد الضغط عليها ماليًا. قبلت المنظمة الحوار المباشر مع إسرائيل، تحت مسمّى "هجوم السلام". وأتت عملية السلام نتيجة إرادة إسرائيلية أميركية متوافقة على مبدأ النيوليبرالية الاقتصادية وأهمية الاندماج الكامل وتفويض طرف ثالث بالإدارة. فرسمت "اتفاقية أوسلو" بدايات عملية إعادة تموضع القوات الإسرائيلية والانسحاب من شوارع غزة ورام الله والخليل إلى الحواجز والمستوطنات حول مدن الضفّة وغزّة.

هندسة سلطةٍ تضمن استمرارية الاحتلال
اليوم، لا تمتلك السلطة الفلسطينية أيّ سيادةٍ حقيقية على الأرض، وهي محدودة الصلاحيات والقدرة على تنفيذ السياسات بعدما تم تقطيع الضفّة الفلسطينية إلى كانتونات جغرافية، وتمّ عزل قطاع غزّة بالكامل عن المحيط. وانتهى المطاف بالسلطة الفلسطينية وسيطاً معلوماً في الاستراتيجية الإسرائيلية الماضية في التحوّل من الاحتلال العسكريّ المباشر إلى السيطرة العسكرية غير المباشرة. وبعد الانقسام الفلسطيني في العام 2007، أضافت إسرائيل إلى استراتيجيتها عنوان "عدم مقدرة الفلسطينيين على بناء دولتهم"، ما ساعد في عملية تعزيز استراتيجية إسرائيل الاقتصادية أو تمرير ما يُعرف بالسلام الاقتصادي.
منذ العام 2007، تحاول إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الأطراف الفلسطينية بناء مؤسسات دولة، ولكن من دون دولة فلسطينية على أرض الواقع. تهدف هذه السياسة إلى التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى خلق طبقة اجتماعية وسطى جديدة وإنتاج طبقة رجال أعمال تتلاقى مصالحها مع مصالح الطبقة الوسطى في المجتمع الإسرائيلي، وتتلاقى مع المصالح الاقتصادية لرجال الأعمال الإسرائيليين. هذه السياسة ستوفر دعمًا كبيرًا لإسرائيل من المؤسسات المالية الدولية والولايات المتحدة وبعض الدول التي تعوّل على الأموال كأداةٍ سياسية لتحقيق دورٍ إقليمي أوسع وأشمل.
منذ البداية، أقيمت السلطة الفلسطينية وأساسها الاقتصادي من خلال مجموعة من الأثرياء والنخبة السياسية والاقتصادية الفلسطينية، كان معظم أفرادها في المهجر. في حالات عدّة، كانت هذه النخب تمثّل تداخل السياسة والاقتصاد معًا. فكبرى الشركات الفلسطينية مملوكة من الأشخاص ذاتهم، أو يديرها أشخاص لهم ولاء سياسي معين، أو أفراد عائلات سياسيون يعملون في السلطة[5].
ومن الجدير ذكره أن السياسات الإسرائيلية واستراتيجية ما بعد أوسلو صمّمت على أساس عدم السماح للفلسطينيين بالمناورة الاقتصادية، وإحكام السيطرة على قدرة الفلسطينيين على تطوير اقتصادهم خارج إطار تلك الاستراتيجية. فإلى جانب تركّز رؤوس الأموال في بعض العائلات أو النخب السياسية، لا يوجد مصرف مركزيّ فلسطينيّ، وتمّ تعويض غيابه بسلطة النقد الفلسطينية، التي تؤدي دوراً بيروقراطياً تنسيقياً بين المصارف ولا سلطة مالية لها سواءً على المصارف أو على السوق الاقتصادي الفلسطيني. وأبقت استراتيجية إسرائيل السيطرة الإسرائيلية على الحيز المكانيّ الفلسطيني قائمة. إن تركّز الإدارة السياسية للسلطة الفلسطينية في أيدي مجموعة صغيرة من الفلسطينيين، وتركّز رؤوس الأموال في أيدي مجموعة من العائلات أو الأشخاص من أصحاب الشراكة أو ذوي الارتباط الوثيق برؤوس الأموال الإسرائيلية، أوجد ديناميّة سياسيّة اقتصادية مبنية على قصر نظرٍ، وعلى مبدأ تحقيق الأرباح.
يقول غسان الخطيب عن تلك الدينامية: "كلما تحسّنت العلاقات مع إسرائيل، استفادت هذه المجموعة الضيقة وخُدمت مصالحها، وإسرائيل تستخدم هذا النفوذ لتحقيق تنازلات من هذه المجموعة"[6]. جعل ذلك الفلسطينيين يبنون دولتهم ومؤسساتهم واقتصادهم على القواعد التي أسّسها الاحتلال، وجعل من هذه الأساسات ضمانًا لاستمرارية الاحتلال بشكلٍ أو بآخر. تضمن استمراريته بتحقيق أهدافٍ ربحية له، عبر توكيل طرفٍ آخر هو السلطة الفلسطينية بمهامٍ أمنية واقتصادية وإدارية، ليس فقط لحماية الاحتلال وإنما - بوعي أو من دون وعي - لتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب الأهداف الوطنية.

طبقة فلسطينيّة وسطى وجديدة
تجمّعت هذه العناصر في قالبٍ معقّد أدّى إلى بروز طبقةٍ فلسطينية جديدة هي طبقة اجتماعية وسطى، لتكون دليلًا على التطوّر الحضريّ السريع في المناطق الفلسطينية، المرتبط بعودة النخب الاقتصادية والسياسية الفلسطينية إلى الأراضي المحتلة منذ العام 1993. ونظراً لحاجة تلك النخبة إلى مناطق ومساكن تختلف عمّا اعتاد عليه سكّان الأراضي المحتلة في مشهدهم الحضريّ الذي تطوّر بترابطٍ تاريخيّ، سواءً في القرى أو المدن أو المخيمات. لذلك، قرّرت النخبة الاقتصادية الفلسطينية إنشاء مدينة على أرض الضفّة الغربية، على بعد بضعة كيلومترات من رام الله.
"مدينة روابي" هي رمز من رموز "الفيّاضية"، تدلّ على تداخل العملية الاقتصادية والسياسية لعدم تسييس الاقتصاد الفلسطيني أو التنمية الاقتصادية الفلسطينية، وربط هذه الأخيرة بالاقتصاد الإسرائيلي، وتعزيز العلاقات بين النخب الاقتصادية الفلسطينية والإسرائيلية بطريقة ملتوية أو تحت شعار التنمية. وإلى كونها رمزاً لـ "الفيّاضية"، فإن "روابي" تمتلك مغزىً آخر يشير إلى الطبقة الوسطى الجديدة في المجتمع الفلسطيني، التي ظهرت بشكلٍ لافت للنظر بعد العام 2007، ومع بدايات الانقسام الفلسطيني.
سهّلت السلطة الفلسطينية ظهور هذه الطبقة الوسطى الجديدة في رام الله، حيث أغلب موظفي السلطة الفلسطينية الكبار ورجال الأعمال، بالإضافة إلى موظّفي المؤسسات الدولية الأجانب وموظّفي مؤسسات المجتمع المدني التي تمتلئ رام الله بهم. ما جعل رام الله تبتعد بشكل كبير عن المظهر العام والمشهد الحضري الذي لا يبعد عن رام الله بضعة كيلومترات في قراها ومخيماتها.
يشار إلى أن التمدّد السكانيّ والازدياد الكبير في أعداد الطبقة الوسطى ظهّرا الحاجة إلى أماكن جديدة، أو بكلمات أخرى، فإن هؤلاء فضّلوا الانعزال عن حياة المدينة في حيّ أو مدينة أخرى على الأطراف، وهو ما تفضله الطبقة الوسطى في كلٍ من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، وهو ما يعني أن هناك تماثلًا في إعادة إنتاج الطبقة الوسطى، وتفضيلاتها على مستوى المنتوجات الاقتصادية والمجتمعية.

نموذجٌ تجريبي عن مشروع "عدم تسييس الاحتلال"
جاءت "روابي" لتلبّي نداء حاجة هذه الطبقة المستجدّة، وليس كاستثمارٍ لرؤوس الأموال الأجنبية في فلسطين. ولكن، أيّ معانٍ تلوح من خلف هذه المدينة، أو كيف يمكن ترجمة وجودها؟ لا شك في أن هناك تفاعلًا عميقًا بين الجغرافيا والدولة ورأس المال والحركات الاجتماعية والحياة اليومية في خلق المجال[7]. ففي فلسطين، المجال هو عنصر هام جدًا، لا بل يكاد يكون أهمّ عنصر في الصراع بين الاحتلال والفلسطينيين. لذلك، يكون للمجال أو الحيّز معنى سياسي، ويرمز إلى صراع بين الاستعمار والمقاومة.
بُنيت "روابي" على أراضي ثلاث قرى: عجول، وعطارة، وعبوين. وصُمّمت المدينة بناءً على حاجات وتطلّعات الطبقة الوسطى، علماً أن المدينة وتصميمها والبيئة المحيطة تبني على هوية الأفراد وسلوكهم وتؤثر فيهما[8].
الجدير بالذكر أن رام الله تشهد تزاوج الاحتلال الإمبريالي مع التنمية الاقتصادية الجديدة التي أدّت إلى ظهور تلك الطبقة الوسطى التي تؤمن بالسلام الاقتصادي، أو ربما تؤمن بوجه آخر من المقاومة، لأسبابٍ تتعلق بنوعية الحياة أو المستقبل الذي يريده أفرادها. وبغض النظر عن بقية طبقات الشعب الفلسطيني، "يعكس ذلك الانقسام الأعمق في الشعب الفلسطيني، وهو انقسام الطبقات وليس انقسامًا سياسيًا أو أيديولوجيًا". عبر تلك الديناميّة، يتغيّر التركيب المجتمعي الفلسطينيّ ليكون نتاجه سياسةً أكثر اعتدالًا بالنسبة إلى المحتلّ.
أشير هنا إلى أن الطبقة الوسطى الجديدة تُنتج وأُنتجت بالاستناد إلى أخلاقياتٍ وصِفاتٍ عالمية متطوّرة استهلاكيّة، بعكس الطبقة الوسطى التي تشكّلت في الانتفاضة الأولى والتي كانت أكثر اقترابًا من طبقة النضال الوطني الجماعي التي ترفض الثراء والامتيازات، وتمقت الثقافة الداعية لعيش حياةٍ طبيعية في كنف الاحتلال. فكانت حياة الانتفاضة والطوارئ جزءًا من الثقافة العامة للعمل الجماعيّ. أضف إلى ذلك أن الطبقة الوسطى الجديدة في رام الله تعكس أنانيّةً فرديّةً استهلاكيّة، ما يعكس حاجتها إلى فصل السياسة والاحتلال عن حياة أفرادها اليومية، ما يعني أيضاً مسح كلمة "صمود" بما تحمله من معانٍ سياسية واجتماعية ذات صلة بالاحتلال.
عند وضع "مدينة روابي" تحت المجهر، يظهر أنها تهدف إلى، أولًا: تمييز الطبقة الوسطى الجديدة التي تتمتع بسياسة تجاه الاحتلال تختلف عن سياسة بقية الفلسطينيين تجاهه، وثانيًا: الخدمة كنموذج تجريبيّ عن مشروع عدم تسييس الاحتلال في وقت كان الحديث السياسي يحكي عن سلام اقتصادي طويل الأمد يهدف إلى رفع مستوى دخل الفرد وتحسين معيشته والتسريع في التنمية الاقتصادية للفلسطينيين، وثالثاً: توفير حيّز مكانيّ للطبقة الوسطى، بعيداً عن الاحتلال الإجرائي والمكاني[9].
أشير هنا إلى أن "مدينة روابي" تعكس حيزًا مكانيًا مهندساً بأسلوبٍ غربيّ أو مشابه لبيوت الطبقة الوسطى في إسرائيل. فترمّز التجمّعات الرياضية والتعليمية والترفيهية لمجموع فلسطينيين يتشاركون المستوى المالي والمجتمعي ذاته، وفي الوقت ذاته، هم تواقون لتطوّر تكنولوجيّ وتربية أطفالهم بعيدًا عن الاحتكاكات مع الاحتلال وإجراءاته اليومية. البيوت ذاتها زيّنت وصمّمت على طرازٍ غربيّ بعيدًا عن الفقراء والضوضاء. يقول أحد المتحدثين في الفيلم التعريفي عن المدينة الذي أنتجته شركة هولندية: "إنها مدينة لن تجد عليها براميل المياه السوداء"، التي تعتبر علامة فارقة في البيوت والمدن والمخيمات الفلسطينية، بل جزءاً أساسياً من المشهد العام للمدن والقرى الفلسطينية.
على موقع الشركة، وفي التعريف عن المدينة واتجاهاتها، لا تحضر أيّ إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من أن الاحتلال "يقع" على بعد كيلومترات من المدينة[10]. بل يذكر الموقع اتجاهات تل أبيب ويافا بالنسبة إلى "مدينة روابي" على نحو جغرافي، ما يعكس أن للمدينة أو الشركة أجندة مستقبلية لإسكان الطبقة الوسطى على جانبي جدار الفصل العنصريّ. على الرغم من أن أغلب سكّان الضفّة الغربية غير قادرين على الوصول إلى القدس أو يافا أو تل أبيب، فإن الشركة تضع تلك الاتجاهات في تعريفها، وتحدّد طرق الوصول إليها. كذلك، ترفض إسرائيل منح "روابي" التصاريح اللازمة لإقامة شبكة طرق تسهّل الوصول إليها. أضف إلى ذلك أنه، في بدايات العام الحالي، منح الجيش الإسرائيلي التصاريح اللازمة لمدّ المدينة بشبكة المياه اللازمة[11].

الفرديّة، بدلاً من عادة "الجماعية" الفلسطينية
تعكس "مدينة روابي" الرأسمالية التفتيتية الاستهلاكية، فهي صمّمت على أساس "الفردية" وليس "الجماعية" التي تعوّد عليها المجتمع الفلسطينيّ. إن العنصر الأول في الرأسمالية هو تفتيت الجماعة كمستهلك، ما يجعل الطبقة الوسطى متعدّدة الطبقات، بالتزامن مع بدء مشوار صراع الاستهلاك بين القاطنين. وتعدّى المفهوم الرأسماليّ والاستهلاكيّ ذلك ليصل إلى المواد الأساسية التي تُبنى منها المدينة ذاتها. فقد اتهمت العديد من المجموعات المناهضة للعنصرية الإسرائيلية والاحتلال الشركة باستيراد مواد البناء والتعاون مع مقاولين ومورّدين إسرائيليين في بناء المدينة[12]. عشرات الملايين من الدولارات تذهب إلى الاقتصاد الإسرائيلي، بشكلٍ أسبوعيّ. ما يعكس المنهج النيوليبرالي الاستهلاكي الذي تتبناه الشركة والمستثمرون، بعيدًا عن الحسابات الوطنية ونداءات المقاطعة العالمية.
وتحاول هذه الطبقة الدفاع عن نفسها بالقول إن الهدف ليس التخلّي عن المقاومة بل تعزيز الصمود بعيدًا عن العنف والمقاومة المسلحة. تنظر هذه الطبقة إلى وسائل المقاومة الحالية نظرةً دنيوية، وتحاول تغيير مفاهيم الصمود عبر التنمية الاقتصادية، وتعزيز الإنتاج المحلي، وإظهار التحضّر والتقدّم أمام العالم والمجتمع الدولي. يقول بشار المصري، المستثمر الأول في "روابي": "يحتاج الفلسطينيون إلى طرق ذكيّة للمقاومة"[13]. وهنا، تستغل الشركة العقبات الإسرائيلية التي تواجهها لتبرهن أن "روابي" هي رمزٌ للصمود[14] . وقد دَعا المصري نخبةً من رجال الأعمال الإسرائيليين للمشاركة في المؤتمر السنويّ للصناعات التكنولوجية الإسرائيلية، بدعمٍ من غرفة التجارة الأميركية الإسرائيلية، للحديث عن "روابي" وسبل التعاون بين النخب الاقتصادية من الجانبين من أجل السلام.
ولكن، على الرغم من محاولات إظهار "روابي" كمدينة صمود في خضم الصراع على الأرض والحيّز الجغرافيّ، وفي ظلّ تمدد المستعمرات الإسرائيلية على تلال الضفّة الغربية، تبقى عملية التحضّر الذاتيّ هي العملية الأكثر إظهاراً للتطوّر الاجتماعي والحضري في فلسطين، كوسيلة لتعزيز النضال السياسي. "روابي" ليست تطورًا حضريًا ذاتيًا، بل تطورًا مستوردًا جاء نتيجة حاجة ماسّة لجماعة النخب السياسية والاقتصادية الفلسطينية إلى الانعزال عن المدن والقرى الفلسطينية التي لا يرون فيها مكانًا مناسباً لهم.
ختاماً، يجدر التذكير بأن "روابي"، كمدينة، جاءت بقرارٍ سياسيّ اقتصاديّ، وبمشروعٍ تجريبيّ للسلام الاقتصادي أو "الفيّاضية"، ولن تكون مفتاحًا لتعزيز فرص السلام. تبقى "روابي" عاملاً مهمًا في زيادة التشقّق المجتمعيّ الفلسطينيّ، عبر عزل الطبقة الوسطى الجديدة عن مظاهر الاحتلال الطاغية على القرى والمدن والمخيمات بينها. فالاحتلال يسعى بشكلٍ يوميّ إلى السيطرة على الحيّز العام والخاص للفلسطينيين. إن محاولة إظهار "روابي" كمثالٍ للصمود تجافي الحقيقة، وتأتي مُسيّرة بقوة استهلاكية ورأسمالية تتداخل مع نيات سياسية واقتصادية.
لن ينجح الفلسطينيون بالتخلّص من الاحتلال ومقارعته بمفاهيم نيوليبرالية وفردية استهلاكية أو انعزالية، من خلال الطبقة الوسطى أو النخب الجديدة، بل بالبناء على الكفاح والنضال الجماعيين المبنيين على أسس التكاتف السياسي والمجتمعي، بالترافق مع تطوّر وتوسّع حضريّ ذاتيّ لا تفرضه أدوات وأجندات رأسمالية.

مشاركة: