الرئيسية » جميل هلال »   04 نيسان 2017

| | |
سؤال الهوية والشباب في فلسطين التاريخية والشتات
جميل هلال

"والهويَّةُ؟ قُلْتُ

فقال: دفاعٌ عن الذات...

إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها

في النهاية إبداعُ صاحبها، لا

وراثةَ ماضٍ. أنا المتعدِّدَ..."

 

(درويش)

"أنا فلسطيني ولكني طردت منها منذ الطفولة، وأقمت في مصر دون أن أصبح مصرياً، وأنا عربي ولكني لست مسلماً، وأنا مسيحي ولكن بروتستانتي, واسمي الأول "إدوارد" رغم أن كنيتي "سعيد" !"

)ادوارد سعيد(

سؤال الهوية والشباب في فلسطين التاريخية والشتات

جميل هلال

 

 مدخل

يستحق المسح الذي أشرف عليه مركز دراسات التنمية  في جامعة بيرزيت، ونفّذه في الأسبوع الأخير من شباط/فبراير 2016 حول المواقف والتوجهات لأربع تجمعات فلسطينية (ثلاثة منها في فلسطين التاريخية والرابع  في لبنان) إزاء قضايا عامة مختلفة، تناول جزءا من قضايا  ذات صلة بالشباب  وفئات عمرية أكبر، وذات  صلة بالهوية الوطنية، يستحق الاهتمام لأكثر من اعتبار:

أولها،  أنه لم يحصر البحث  قي الضفة الغربية وقطاع غزة، كما جرت عليه العادة في الكثير من الأبحاث والمسوح واستطلاعات الرأي التي تختزل فلسطين، بوعي أو بدونه، بتمويل أجنبي أو محلي أو بدونهما، في حدود الضفة والقطاع (إطاعة لاتفاق أوسلو)، فقد شمل البحث بالإضافة للضفة الغربية وقطاع غزة، فلسطينيي 1948 وفلسطينيي لبنان، وسعى لأن يشمل فلسطينيي الأردن دون أن يتمكن من ذلك.

وثانيها، أنه لم يقصر المسح على فئة الشباب (محددا إياها  من سن 18 وحتى 29)، بل شمل فئات عمرية أخرى (من 30 إلى 44، و 45 إلى 55)، ما يتيح المقارنة بين آراء فئات عمرية غير شبابية، دون افتراض أن  فئة الشباب تنفرد بآراء ومفاهيم  ورؤى تختلف عن الفئات التي تجاوزتها عمرا (وكان يمكن أن يعطى نتائج أعمق لو شمل الفئة العمرية لما فوق 55 عاما). كما شمل تمييزا بين مواقف الذكور عن الإناث، مما يتيح المقارنة بين المواقف والآراء  والتقييمات وفق النوع الاجتماعي (الجندر).

وثالثها أن البحث تطرق، كما سنرى،  إلى موضوعات واستفسر عن قضايا سياسية وغير سياسية ذات أهمية، لا تتطرق لها المسوح الفلسطينية في العادة (وإن أغفل مسائل ذات أهمية سآتي على ذكرها لاحقا). كما أنه  فتح المجال  أمام مناقشة نتائج المسح من خلال تنظيم لقاءات حوارية مع مجموعات شبابية من المواقع المختلفة، ما منح الشباب الفرصة لإبداء الرأي  وإثراء البحث بآرائهم و بحضورهم وصوتهم المباشرين.

  هذه الورقة بعد مداخلة قصيرة حول مفهومي الشباب والهوية، تسعى للإجابة  على الأسئلة التالية استنادا إلى نتائج  المسح في التجمعات الفلسطينية الأربع والحوارات التي تله:

هل تمايزت فئة الشباب عن جيل غير الشباب؟ وفي أية مجالات، وإن أمكن لماذا؟

أين تتوافق وأين تتمايز الآراء والمواقف وفق النوع الاجتماعي (الجندر)؟

أين تتوافق وأين  تتمايز التجمعات الفلسطينية في الرؤية السياسية والاجتماعية عن بعضها البعض، ولماذا؟

وتقدم الورقة ملاحظات ختامية من مراجعة معطيات المسح  ومن قراءة محاضر الجلسات الحوارية.

 

حول مفهوميّ الشباب والهوية

أرى حاجة للانتباه إلى إشكالية كل من مفهومي الشباب، و الهوية. فالاهتمام الواسع في السنوات الأخيرة بموضوعة الشباب ليس بريئا تماما، وبخاصة أمام كثافة استطلاعات الرأي والمسوح والأبحاث (بما فيها البحث الحالي)، بالإضافة إلى كثرة مقالات الرأي حول الشباب بما فيها الفلسطيني. يطرح سؤال الشباب ثلاث مسائل، الأولى، أن معظم الأبحاث (وإن ليس جميعها)، كما استطلاعات الرأي الفلسطينية تموّل خارجيا، وتتبع، من حيث ما تتضمنه استفسارات، اهتمامات الأطراف الممولة. ولذا لا بد من  وضع  سؤال "الشباب" في سياقه السياسي والاجتماعي المحلي والإقليمي والدولي. فهو يُطرح في سياق  هيمنة توجهات وسياسات الليبرالية الجديدة عالميا وفي المنطقة،  وفي سياق  تنامي دور الحركات  السلفية والأصولية  الدينية التي  تنشد بالأساس استقطاب وتجنيد فئات شبابية قبل غيرهم، مستغلة أجواء الخواء الثقافي-الفكري  لفئات واسعة من الشباب وما يعانونه من معدلات بطالة عالية وما يتعرضون له من قمع واستثناء، ومن هيمنة خطاب عام يستثني  الدولة من ممارسة الإرهاب ويخصه  لفاعلين غير "دولانيين"، ويختزل  عملية التغيير  الاجتماعي والسياسي في صناعة  تدابير غامضة المضمون الملموس،  مثل "الحوكمة" و"الدمقرطة" (بمفهوم الانتخابات الدورية) و "مكافحة الفساد" (مع استثناء القطاع الخاص ومعظم مكونات ما يسمى بالمجتمع المدني)، وفي "التمكين" مُجسدا في تعظيم  قدرة الفرد على المنافسة في أطر النظام الرأسمالي المتوحش. المسألة الثانية،  تخص مفهوم الشباب  نفسه، فليس هناك تحديد متفق عليه لفترة الشباب، إذ تتوفر في الأدبيات تعريفات متعددة لسنوات الشباب، فهي في هذا البحث تعتمد سن 18 وحتى 29 وهو أمر لا يحظى بالإجماع.  المسألة الثالثة  تخص مفهوم الشباب نفسه كمفهوم مشيّد اجتماعيا للإشارة لمرحلة انتقالية يمر بها الفرد وتحدد  حقوقه وواجباته وفق قوانين وأنظمة الدولة أو السلطة المركزية التي يقيم فيها، وتقاليد المجتمع المهيمنة في لحظتها. مرحلة الشباب  تبدأ في العادة  بالعمر الذي يتيح الزواج والمشاركة في الانتخابات العامة ودخول سوق العمل أو إكمال الدراسة الجامعية،  وتنتهي  فترة  الشباب وفق رؤى مختلفة تحددها جهات لها مصالح واستخدامات واعتبارات قد تتباين، منها: الأحزاب السياسية، المؤسسات التجارية (الملابس والالكترونيات والأغاني والتجميل..)، والدولة (لصياغة سياسات  خاصة بالشباب بما فيها اعتبارات تجنيد وصياغة سياسة أمنية...) ومراكز الإحصاء والأبحاث، وغيرها. هي مرحلة انتقالية  وجمهورها  ليس جمهورا ثابتا (فهو دائم الاستقبال والتوديع).  لذا ينبغي الحذر من منح الشباب هوية تحجب رؤية التباين في تكوينهم السياسي والأيديولوجي والاجتماعي والمهني والثقافي، والذي لا يختلف عادة عن تكوين مجتمعاتهم.

لا يخلو الاهتمام بالشباب الفلسطيني (والشباب بشكل عام) من اعتبارين متعارضين: الأول، ارتباط الانتفاضات العربية (أو ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي) بدور خاص للشباب حيث  ظهروا كثوار لإسقاط أنظمة مستبدة وفاسدة ورافعين لشعارات تطالب بالحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية. والثاني،  حقيقة أن القاعدة الأوسع  للتنظيمات الأصولية والسلفية التكفيرية والعنصرية  والحركات الإرهابية (بمعنى القتل من أجل القتل والترهيب) في المنطقة  وخارجها هي من الشباب.

فلسطينيا، اخذ الشباب مكانة متقدمة في منظمات المقاومة الفلسطينية وفي التنظيمات السياسية  والشعبية والمهنية  الفلسطينية، تحديدا في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وبقي الشباب الفلسطيني حاضرا بقوة في مجرى النضال الوطني الفلسطيني منذ ظهور المقاومة الفلسطينية وهيمنتها على منظمة التحرير.  ولم يفقد الشباب هذه المكانة المرئية إلا، ربما،  بعد أن تحوّلت مسيرة الحركة السياسية الفلسطينية من حركة تحرر إلى مؤسسات بناء سلطة حكم ذاتي  تقيم على مناطق من الضفة والقطاع.  لكن الشباب بقوا حاضرين  بقوة كلما ارتفعت حدة الصراع مع المستعمر المحتل، كما في الانتفاضة الأولى وفي الانتفاضة الثانية (كتائب القسام، وسرايا القدس، وشهداء الأقصى، وغيرهم). وعادوا للتذكير باستعدادهم النضالي العالي في الهبة الشبابية الأخيرة في الضفة الغربية.

من الضروري تجنب الوقوع في مطب وضع "الشباب" في سلة واحدة  كشريحة اجتماعية متماثلة المصالح والاهتمامات والرؤى، بديلا عن واقع  انتمائهم إلى  فئات تتباين في حيازة الرأسمال الاقتصادي (المادي) والثقافي والاجتماعي والرمزي.  وأحد المآخذ على المسح  موضع القراءة أنه لم يأخذ بعين الاعتبار هذه التباينات، وساهم بالتالي، وعلى الأغلب بدون وعي، في النظر إلى الشباب ككتلة متجانسة، بعيدا عن حقيقة كونها متباينة الهموم والرؤى والمصالح، التي  تتقاطع وتتباين مع هموم ورؤى وتطلعات فئات وشرائح أخرى من الناس، فمنهم الطالب الثانوي والجامعي، ومنهم العامل والموظف ( في القطاع العام أو الخاص أو المنظمات الأهلية أو الدولية)، ومنهم العاطل عن العمل، وآخر يبحث عن عمل أو هجرة، ومنهم الذكور والإناث، والمتزوج/ة  والأعزب/ العزباء، ومنهم من يسكن في قرى، وآخرون في مدن  أو مخيمات، كما أنهم موزعون على تجمعات متباينة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والقانونية.  وهم ينتمون إلى تنظيمات سياسية مختلفة، ونسبة غير قليلة لا تنتمي سياسيا لحزب معين. هذا لا يعني أن شرائح منهم لا تواجه هموم ومشكلات، وربما تطلعات مشتركة، لكنهم لا يملكون فرص حياة متساوية، مثلهم مثل التجمعات أو المجتمعات التي ينتمون إليها. ففرص الحياة (التعليمية والوظيفية والصحية والسكنية..) أمام الشباب (ولغير الشباب) ليست متساوية، بل تخضع لمحددات أبرزها الوضع الطبقي والمستوى التعليمي والنوع الاجتماعي والانتماء السياسي ومكان السكن (مدينة، قرية، مخيم)، كما تتأثر بالاهتمامات والمواهب والتجارب الذاتية.

ملاحظة أخيرة تخص الميل للتعامل مع الشباب إما كملحق للمجتمع أو كفئة خارجة عنه أو طارئة عليه، وليس جزءا عضويا فيه ومنه (إذ يشكل الشباب  في الضفة والقطاع نحو ثلث السكان)، أو منحهم قدرة خارقة "مسيانية" تؤهلهم لتولي مهمة إنقاذ الشعب الفلسطيني من مأزقه المركب. ولذا نرى من ينظر إلى الشباب باعتبارهم فئة تحتاج إلى رعاية  واهتمام خاصين من "المجتمع"،  أو من ينظر إليهم باعتبار أنهم من يملك عصا سحرية  قادرة على إخراج الحركة السياسية الفلسطينية من أزمتها الراهنة.

يتشارك مفهوميّ الشباب والهوية، بكونهما مشيّدان اجتماعيا، وقد يجيّران لغايات عدة من قبل أطراف مختلفة (سياسية واقتصادية وحزبية واجتماعية ودينية)، خدمة لمصالح ورؤى هذه الأطراف.  والمقصود في هذا البحث هو  الهويات الجماعية وليس الهويات الفردية، المعرّفة بمقاييس وسمات محددة خاصة وموضوعية مثل تاريخ ومكان الولادة، اسم ألأب والأم والعائلة، الطول ولون العينيين وبصمة الإبهام أو العينيّن،  والجنس، وغير ذلك.  فالهوية كمشيّد اجتماعي تعني أنها مركب تعددي الأبعاد، ولا تملك ماهية  جوهرانية ثابتة، وهي مركب تعددي ومتغير وفق  تغيّر الشروط  السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويتم إبراز  بعد معين للهوية على غيره، وفق ما يريد قوله  أو تأكيده لآخر يخاطبه. فلا معنى للهوية إن لم  تعبر عن  انتماء، وإن لم تتضمن المطالبة أو التأكيد على حقوق ما (وبالتالي عن علاقة مع آخر أو آخرين).  أنها  تحمل  قولا سياسيا أو اجتماعيا أو تاريخيا، أوكلها معا، وسيتضح هذا عند مناقشة معطيات المسح ذات الصلة.

لكن مفهومي الهوية و الشباب  قد يستخدمان، وقد استخدما، للتعتيم على  واقع اللامساواة  وآليات إنتاجها ولتشتيت الانتباه عن الفروق القائمة بيت الناس في الثروة والسلطة والمعرفة، وفي فرص الحياة، إن على الأفراد، وبين المجموعات (الإثنية والطائفية والقومية ووفق النوع الاجتماعي) أو بين المجتمعات والدول المختلفة.

الورقة  ستتولى قراءة مواقف الشباب بالعلاقة مع الفئات العمرية الأخرى، وبالمقارنة مع مواقف  التجمعات الفلسطينية، ومواقف الذكور والإناث (النوع الاجتماعي)، وصلا لملاحظات واستخلاصات عامة. 

أرى أنه من المفيد قبل مناقشة  نتائج المسح التمييز بين مفهوم الحقل السياسي بما هو مجال فعل قوى سياسية متفقة على قواعد الممارسة السياسية  (أو تتفاوض أو تتصارع على ذلك)، وتحكمه مؤسسات وطنية جامعة (متعددة الوظائف) وهو ما تشكله دولة وطنية أو حركة تحرر وطني، كما كان حال منظمة التحرير الفلسطينية، وبين الحقل الثقافي (بالمعنى الواسع للثقافة) حيث يتم إنتاج  وتداول ثقافة (بمختلف تعبيراتها من أدب وفن وأداء تعبيري وبصري، و "شعبية" (من أزياء و أكلات شعبية، وفلكلور وحكايات وأغاني شعبية) وفكر ومناقشة وتحاور حول بنية المجتمع وقيمه وتاريخه ومستقبله وعلاقاته. 

 في الحقل الثقافي يجري تشييد وإعادة تشييد الهوية الوطنية يجري لتحاور حولها وحول معانيها وسبل سرد تاريخ الشعب وروايته التاريخية (ولعل ما أراده محمود درويش بالقول؛ "من يكتب حكايته يرثْ/ أرض الكلام، ويملك المعنى تماما!").

الفرضية المقترحة هنا أن الحقلين (السياسي والثقافي)  يعملان باستقلال نسبي واسع عن بعضهما البعض.  ما جرى منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي هو تداعي ومن ثم تفكك الحقل السياسي الفلسطيني إلى حقول سياسية محلية أو شبه محلية، لكن الحقل الثقافي الفلسطيني حافظ على حيويته في صيانة وإثراء الرواية التاريخية الفلسطينية، ومن هنا  حافظت الثقافة السياسية الفلسطينية على مرتكزات أساسية رغم تفكك الحقل السياسي و التأثير المتواصل للأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية والقانونية، التي خضعت وتخضع لها التجمعات الفلسطينية المختلفة،  في الضفة وغزة و فلسطين 48 و في لبنان. هذه الملاحظة مهمة لأنني أجادل في هذه الورقة أن ما تشظى وتجزأ ليس الهوية الوطنية الفلسطينية كما يطرح البعض، بل الحقل السياسي بعد تداعي مؤسسات منظمة التحرير ومنظماتها الشعبية والمهنية،  وبعد انقسام السلطة الفلسطينية إلى سلطتين على إقليميهما، لكن تحت سيطرة مستعمر محتل، هذا بالإضافة إلى ما تفرضه الجغرافيا السياسية من قيود على التواصل بين التجمعات الفلسطينية.

 

ملاحظات على نتائج المسح والحوارات الشبابية

ما يلي ملاحظات أولية من قراءة  نتائج المسح للتجمعات الأربع، الذي قام به مركز دراسات التنمية في جامعة بيرزيت وللحوارات الشبابية التي أعقبت المسح في هذه التجمعات:

 

الملاحظة الأولى: تأخذ صيغة اقتراح بتوثيق ما ورد في محاضر جلسات الحوار والتأمل فيما ورد فيها من آراء حول قضايا متنوعة بشكل منهجي، من قبل مجموعات متنوعة من الشباب والشابات، ومعظمها دار بلغة الحديث اليومي الأقرب إلى نبض الحياة اليومي، ومشاغل الشباب والناس  في التجمعات الأربع.  ولأنها تظهر التنوع في الرؤى والتجربة  والتطلعات، فهي الأقدر على تقديم الشباب كذوات فردية تنتمي للأسر ومجتمعات محلية تتنوع في تشددها أو تسامحها الديني، وفي مواقفها السياسية، ومن قضايا التحرر الوطني والاجتماعي ومن قضية المرأة، وفي علاقتها بالمكان (كمدن وقرى ومخيمات)،  وبالعالمين الافتراضي والواقعي  وبسوق العمل والهجرة. هذا ضروري للتعويض، ولو نسبيا، عن  قصور الاستمارة في استكشاف  "المبحوث" كذات تواجه يوميا في كل موقع ومكون فلسطيني، مئات الأسئلة والتحديات والمشاغل والهموم (ليس أقلها الحصار القاتل، الاحتلال العنصري الطارد لأهل البلاد، والتمييز النافي للإنسانية والمغلف بالحرص على الحقوق التاريخية)، وأشكال جمة من مصادرة الحريات الفردية والجماعية، ومن بطالة وفقر وغياب الرعاية الاجتماعية، ومن تشييد لعراقيل وجدران لحرمان طبقات وفئات وشرائح (منها المرأة والأطفال وشباب وفقراء ومهمشين) من أبسط أشكال التكافؤ في فرص الحياة.

 

الملاحظة الثانية: هي استكمال للملاحظة السابقة وترى أن المسح لم يعتن  بمظاهر عدم المساواة (أو اللامساواة) في توزيع الثروة والسلطة والمعرفة، وفي الوصول إلى الخدمات العامة (صحية وتعليمية وعناية اجتماعية ، و ثقافية ورياضية...) داخل كل تجمع، وبين التجمع  ومحيطه. وكان يمكن الاستغناء عن عدد من الأسئلة قليلة الدلالة ( منها على سبيل المثال الأسئلة الخاصة  بمقارنة الوضع الراهن بوضع الأجداد والآباء وجيل المستقبل) بأسئلة تخص رؤية الناس لمظاهر وأشكال عدم المساواة في ظل نظام الليبرالية الجديدة، الذي يحوّل بشكل بنيوي جزءا غير قليل من ناس المجتمع فائضين عن حاجته، بوضعه خارج سوق العمل والرعاية الاجتماعية. هذه الخطوة كانت ضرورية، لأن الكثير من الدراسات والأبحاث والمقاربات تستخدم مفهومي الشباب والهوية  كأدوات  تحجب مظاهر عدم المساواة وآليات إنتاجها وإعادة إنتاجها وتوسيعها  محليا وإقليميا ودوليا.

 

الملاحظة الثالثة تخص مفهوم الحقل السياسي الوطني الذي تشكله دولة وطنية، أو حركة تحرر وطني  عبر القوى والمؤسسات  السياسية الفاعلة فيهما، والهوية الوطنية التي تتشكل، بالأساس، من خلال فعاليات الحقل الثقافي الوطني  وما يرويه من حكاية وطنية تاريخية. ما حدث فلسطينيا هو تفكك الحقل السياسي الوطني إلى حقول محلية وفق مكوناته  الجغرافية، بعد أن همشت إلى درجة  تلاشي المؤسسات الوطنية الجامعة  (التي لم  يبق منها سوى الاسم). بتعبير آخر  لم يعد  لدى الشعب الفلسطيني حركة تحرر وطني  ذات حضور فاعل  (بعد تلاشي منظمة تحرير واتحاداتها الشعبية والمهنية)،  و لا دولة وطنية مستقلة، إذ فشل  مشروع  بناء الدولة، بل حدث أن انشطرت السلطة الفلسطينية الوطنية التي تشكلت في العام 1994  إلى سلطتين متنافستين، وعلى إقليمين مفصولين جغرافيا. ومن هنا  برز في المسح أن أقلية صغيرة من التجمعات الفلسطينية الأربعة اعتبرت منظمة التحرير أو السلطة الفلسطينية أو الحركات الإسلامية  ممثلا لها. ما هو مهم هنا هو إبراز أن تفكك الحقل السياسي الفلسطيني إلى مكوناته الجغرافية، لا يعني  اختفاء أو تفكك الهوية الوطنية، وهذا ما يمكن قراءته من نتائج المسح ومن جلسات الحوار. وشبيه هذا حدث في النكبة عام 1948 حيث دمر الحقل السياسي الوطني، لكن الهوية الوطنية  وجدت سبلا لإعادة تجديد نفسها والتهيئة إعادة بناء حقل سياسي وطني جديد.

 

 الملاحظة الرابعة  تخص موضوع الهوية الفلسطينية، كهوية وطنية ذات بعد نضالي. نتائج المسح تشير بوضوح، وهذا ما أبرزه استعراض نتائج المسح،  إلى غياب أدلة حضور الهوية الوطنية بقوة في التجمعات الأربع، لكنها تحضر بتعددية الهويات الجماعية واستخدام هذه التعددية في خدمة نضالها الوطني، وللتأكيد على حقوقها التاريخية. برز ذلك في تأكيد فلسطينيي الأرض المحتلة عام 48 على هويتهم القومية (العربية)، جنبا إلى جنب مع هويتهم الوطنية (الفلسطينية) في مواجهة الدولة والأيديولوجية الصهيونية، التي سعت وما تزال، لطمس الهوية العربية (المعبر عنها بالثقافة العربية). وبرز أيضا في لبنان، لأن التأكيد  العالي الوتيرة على الهوية الفلسطينية (رغم التمييز العنصري ضد الفلسطينيين)، هو تأكيد على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، وبخاصة حق العودة. هناك  مؤشرات مهمة عدة، عن حضور الهوية الفلسطينية ليس بمفهوم  جوهراني، بل بمفهوم سياسي ثقافي تاريخي،  ولكنه غير معزول عن هويات أخرى.

 إن من اعتبروا أنفسهم فلسطينيون،  بالدرجة الأولى والثانية،  تفوق نسبتهم أي تعريف آخر في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتأتي في الدرجة الثانية من  التعريف بالهوية العربية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 ( 63% فلسطيني،  و68% عربي) . وهذا ما لا يحصل في التجمعات الأخرى، فقط غزة يقترب من نسبة الهوية الفلسطينية كخيار أول، والثاني خيار الهوية الدينية (87% للهوية الفلسطينية، 81% للهوية الدينية)، وفي لبنان (94% فلسطيني، و 62% ديني)، وفي الضفة الغربية (92% فلسطيني، و 63% ديني).  فالهوية الفلسطينية حاضرة ضمن مركب هوياتي (فلسطيني، عربي،  ديني، عالمي (إنسان)، وهو مركب يتسع لهويات عدة، بما فيها هويات محلية، ففي التجمعات الأربع، اعتبرت الأسرة/العائلة كانتماء أول  بنسب عالية جدا (الضفة 67%؛ غزة 78%، الأرض المحتلة  48 ما يعادل 79%، ولبنان 70%).    
 وتجلى البعد ألتعددي للهوية من الافتخار بنسب عالية بكون الفرد قي الوقت نفسه فلسطيني، وعربي ومتدين وعالمي (إنسان)، وأن "فلسطيني" حصلت على النسبة الأعلى كتحديد أول وثاني في التجمعات الأربع، وفي الوقت نفسه حصل الانتماء للأسرة في التجمعات الأربع على نسب عالية أيضا، ما يشير أن مكونات الهوية ليست بعلاقة تراتبية مع بعضها البعض، بل يجري إبراز البعد الذي تتطلبه اللحظة والموقع والآخر المخاطب أو المواجه. (محمود درويش كان يرفض إلقاء قصيدته "سجل أنا عربي" في العواصم العربية، إذ أنها لها معنى أن تلقى في مواجهة الإسرائيلي الرافض للتعاطي معها كهوية قومية) بتعبير آخر ليست الهوية الوطنية  ما تفكك بل  الحقل السياسي هو الذي تفكك.

 

الملاحظة الخامسة: تشير نتائج المسح وجلسات الحوار لحضور ثقافة سياسية وطنية تتمثل في توافق واسع في الآراء في التجمعات الأربع إزاء تحديد جغرافيا وديموغرافيا الشعب الفلسطيني، وفي تشخيص  الواقع السياسي  الفلسطيني، وفي التفكير في وسائل  وشروط الخروج من المأزق الوطني. فالنسبة الأعلى من فلسطيني التجمعات الفلسطينية الأربع عرّفت فلسطين بحدودها التاريخية، وعرّفت الشعب الفلسطيني بالشعب المقيم  (راهنا وسابقا) على أرض فلسطين  التاريخية. صحيح أن النسبة الأدنى بين  التجمعات الأربع التي حددت فلسطين بحدودها التاريخية والشعب الفلسطيني بالشعب الذي ينتمي  لأرض فلسطين التاريخية، جاءت من بين فلسطينيّ 48،  لكن الصحيح كذلك أن أغلبيتهم (50% حدودها بفلسطين التاريخية ، و33% بالضفة والقطاع، و17% حسب قرار 181)  انسجمت مع موقف أغلبية التجمعات الأخرى.

انخفاض النسبة بين صفوف فلسطيني 48 يفسّره أولا ما تعرض له الفلسطينيون هناك من "أسرلة"، وثانيا وقع اتفاق أوسلو الذي  حدد الدولة الفلسطينية العتيدة بالضفة والقطاع ، وبالتالي فإن "السلطة الفلسطينية" غير معنية بهم وبمصيرهم.

الأغلبية  في التجمعات الأربع، وعلى صعيد الشباب والفئات العمرية الثلاث، وعلى صعيد النوع الاجتماعي، لم تجد لا في المنظمة ولا في السلطة ولا في الحركات الإسلامية ممثلا لها، ما يؤكد تفكك الحقل السياسي الوطني إلى حقول محلية  بعد أن فقد هيئة تمثيلية جامعة معترف بها من الناس، وفي هذا تأكيد على غياب المؤسسات الوطنية التمثيلية الجامعة.

بين التجمعات الفلسطينية، كما بين الفئات العمرية  وبين الإناث والذكور، توافق بنسب عالية على مساهمة ما يلي في "حالة الشرذمة والتجزئة بين الفلسطينيين": تراجع دور الحركة الوطنية الفلسطينية،   ضعف منظمة التحرير الفلسطينية، توقيع اتفاق أوسلو، تنامي ظاهرة التدين السياسي، ساهم في حالة الشرذمة والتجزئة الفلسطينية، الأوضاع الاقتصادية الصعبة، انتشار الواسطة والمحسوبية، سياسات الممولين الدوليين.    كما نجد توافقاً عالٍ بين التجمعات والفئات العمرية وبين الإناث والذكور على أن "الصراع بين الفصائل الفلسطينية ساهم في حالة الشرذمة والتجزئة القائمة بين الفلسطينيين"، على اعتبار "الاستقطاب ضمن حالة الصراع في الواقع العربي الحالي"، ساهم في حالة الشرذمة والتجزئة القائمة بين الفلسطينيين.  هذا التوافق العالي بين  الفئات العمرية الثلاث المنتشرة بين التجمعات الفلسطينية الأربع، يشير إلى فعل ثقافة سياسية فلسطينية متماسكة، وإلى تفاهمات باتت مهيمنة بين مكونات الشعب الفلسطيني، والتي كانت حصيلة عقود طويلة من الصراع ضد التهجير والاستلاب والتمييز والظلم التاريخي المتواصل.

وشخّص الأحداث التي شهدتها الضفة الغربية (أساسا) في المواجهات الدامية بين شباب وقوات الاحتلال  كتعبير "عن رفض ومقاومة للاحتلال من مصادرة أراضي وقتل وتشريد للفلسطينيين" نسبة عالية جدا من الفئات العمرية الثلاث ( تجاوزت 94%)، والتجمعات الفلسطينية الأربعة  (كانت النسبة الأدنى 88%)، وبين الإناث (94.5%) والذكور (94%). وهذا مؤشر آخر على تماسك الثقافة السياسية الفلسطينية وحيويتها رغم تفكك الحقل السياسي.

وفي السياق ذاته، نجد لدى مقارنة الواقع الراهن بواقع الأجداد والآباء، رفض غالبية في  التجمعات الأربع  لحاضرها السياسي. ورفضها لواقعها الراهن هو رفض لما آل إليه الوضع  الفلسطيني بقيادة النخب السياسية التي فرطت بالحركة السياسية الفلسطينية كحركة تحرر وطني  لصالح حكم ذاتي إداري محدود، وانقسام مزمن، وهزمت محاولاتها تشييد دولة وطنية ذات سيادة. 

في الوقت ذاته نجد في البحث (المسح والحوارات)  أكثر من مؤشر ودليل على انشداد لحالة نضالية ولاستراتيجيات مقاومة بمفهومها التعددي.

كما تجدر ملاحظة أن نسبة عالية جدا شخّصت الأحداث (الهبة الشبابية)  كتعبير عن "رفض ومقاومة للاحتلال من مصادرة أراضي وقتل وتشريد للفلسطينيين".  وشمل هذا التشخيص الفئات العمرية الثلاث (94%، 94%، 95% من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى)، ومن التجمعات الفلسطينية الأربعة  (88% ، وهي الأدنى، في الأرض المحتلة عام 1948، و98% (وهي الأعلى) في لبنان)، ونال نسبة عالية جدا من الإناث (94.5%) والذكور (94%). وهذا مؤشر آخر على تماسك وحيوية الثقافة السياسية الفلسطينية، وهي تظهر في أن أغلبية في التجمعات ومن الجنسيّن  ومن الفئات العمرية الثلاث  (67%، 69%/ 67.5% من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى)  رفضت تأييد "تصريح الرئيس الفلسطيني عباس بدعم وانضمام فلسطين للتحالف الذي تقوده السعودية في محاربة ما يسمى بالإرهاب".

وحازت  إستراتيجية "إجراء مصالحة سياسية بين فتح وحماس" على نسبة عالية من التوافق (86% في الأراضي المحتلة عام 48،  وهي الأدنى و  97% في غزة وهي الأعلى  وحاز لبنان والضفة الغربية على نسبة 90%)، وهي نسب تقارب إلى حد لكبير إستراتيجية "إجراء مصالحة مجتمعية بين مختلف مكونات الفلسطينيين"، وهذا يسري على إستراتيجية "القضاء على الفساد والواسطة والمحسوبية" (حيث كان الحد الأدنى 86% في الأرض المحتلة عام 48، والأعلى 97% في غزة ولبنان، و93% في الضفة الغربية). 

ظهرت حيوية الثقافة الوطنية،  في ترتيب الخيارات حول ما يجمع الشعب الفلسطيني؛ فقد جاء ترتيب الأولويات  كالتالي: حصل "الأرض والوطن" على أعلى النسب من الفئات العمرية الثلاث.  وجاء في المرتبة الثانية (مع فرق واسع بين الخيارين) "الدين"،  وجاء في المرتبة الثالثة وليس بعيدا عن الثانية  "الشعور الجمعي"، وجاء "التاريخ" في المرتبة الأخيرة.  

تصدُّر قائمة خيارات ما يجمع الشعب الفلسطيني "الأرض والوطن" ليس اعتباطيا بل يأتي كإدراك، عفوي ربما،  بأن الصراع الفلسطيني مع الحركة الصهيونية ومع إسرائيل كان وما زال على استعادة أرض الوطن هو هدف الشعب الفلسطيني للتحرر الوطني.

 

الملاحظة السادسة، للموقع الجغرافي-السياسي والنوع الاجتماعي والفئة العمرية دور في تفسير السلوك الاجتماعي.  يُلحظ ذلك من التمايز بين الفئات العمرية فيما يخص ظاهرة التفكير بالهجرة للخارج، فنسبة من يفكر بالهجرة ترتفع مع الفئة العمرية،  فهي ترتفع إلى 40%   بين الشباب (18-29)، وتنخفض إلى27 % لدى الفئة  العمرية الوسطى (30-44)، وإلى 18.5% لدى الفئة العمرية الأعلى عمرا (45-55).  هذا التباين في التفكير بالهجرة  حسب الفئة العمرية يقابله تباين واسع بين التجمعات الفلسطينية من حيث نسب من يفكر منها بالهجرة. فالتجمع  الفلسطيني في لبنان هو صاحب النسبة الأعلى (69%) في التفكير بالهجرة، ولا يخفى أن  سبب ذلك هو سوء الأوضاع المعيشية للفلسطينيين في البلد، ولما تتعرض له المخيمات من قيود ومضايقات ومن تمييز. وتلا لبنان قطاع غزة حيث سجل 41% من  العينة هناك رغبة في الهجرة للخارج،  نظرا  لحالة الحصار المفروضة على القطاع، وسلسلة الحروب التدميرية التي تعرض لها، وما يفرضه الانقسام من  توتر داخلي ومن إحباط.  وسجل فلسطينيو الضفة الغربية  رغبة بنسبة 28% من العينة في الهجرة ، وكانت النسبة الأدنى بين فلسطينيي  الأراضي المحتلة  عام 48 إذ بلغت 14%.وأظهر الذكور نسبة أعلى من الرغبة في الهجرة من الإناث (37.5% للذكور مقابل 25.5% للإناث)، فالقيود على حركة الذكور أقل من الإناث، رغم أن نسبة التفكير بالهجرة بين الإناث ليست بالمتدنية.

كما يلحظ ذلك عند الاستفسار عن أسباب نقل السكن  في التجمعات الأربع، (في السنوات الثلاث التي سبقت المسح) إذ يظهر هنا بوضوح تأثير الواقع السياسي (وبخاصة في غزة ولبنان) والاقتصادي والاجتماعي في تحديد سلوك أبناء التجمع الفلسطيني.  كما  يظهر النوع الاجتماعي  كمحدد للسلوك؛ فقد أعادت الإناث سبب الانتقال إلى ارتباطات اجتماعية (الانتقال مع الزوج أو بسبب الزواج) بنسبة أعلى من الذكور (30.5%   مقارنة  بأقل من 18% للذكور)، وتلا ذلك الحروب والابتعاد عن مناطق حدودية (29% للإناث و 32% للذكور). وسجلت الفئة الشابة نسبة أعلى قليلا من الذين انتقلوا بالسكن من منطقة لأخرى خلال الفترة ذاتها، لكن لم يميّز  سبب معين انتقال سكن الشباب عن الفئة الأكبر عمرا.

والأمثلة متنوعة على تأثر النوع الاجتماعي على السلوك الاجتماعي، حيث  أن نسبة أعلى من الإناث سجلن ارتباطا اجتماعيا بالحي أعلى من الذكور،  ونسبة أعلى من الذكور  من الإناث ذكرت أنها تقييم علاقات اجتماعية متوازنة بين الحي والمحيط الأكبر، وهو ما يعكس القيود الأشد على حركة الإناث في الحيز العام  للإناث مقارنة بالذكور. على صعيد التجمعات الأربعة يظهر فلسطينيو لبنان النسبة الأعلى (43.5%) من الارتباط بعلاقات اجتماعية بالحي مقارنة مع  التجمعات الأخرى (الضفة؛ 31%؛ غزة 33%؛ وفلسطيني 48 نحو 30%)، وهو أمر يعكس تمحور حياة فلسطينيي  لبنان في المخيمات.

كما أشارت نتائج المسح أن فئة الشباب أقل تفضيلا للزواج من الحي، من الفئات العمرية الأخرى، وإن بفارق بسيط. وتميل الإناث لتفضيل الزواج من الحي بنسبة أعلى من الذكور، وإن كانت الفوارق بين الجنسيّن في تفضيل الزواج من المحيط الأكبر ليس بذي شأن.  بالنسبة للتجمعات الأربع، يبرز فلسطينيو قطاع غزة الأعلى نسبة في تفضيل الزواج من المحيط الأكبر،  في حين يظهر  لبنان كصاحب النسبة الأعلى في تفضيل الزواج من الحي، وتقع الضفة  و فلسطينيو 48  في المرتبة الوسط بين لبنان وغزة.

نسبة أعلى من فئة الشباب، مقارنة مع الفئات العمرية الأخرى، تفضل إقامة علاقات اجتماعية مع محيطها العالمي، بغض النظر عن الدين.  كما تتمايز في تأييد اليسار وفي تدني  (نسبيا) تأييدها  للتنظيمات السياسية الدينية، وأظهر الشباب نسبة أعلى قليلا  من الفئات الأخرى في الثقة بالأحزاب اليسارية، وقد يشير هذا إلى تراجع تأثير الإسلام السلفي والسياسي على الجيل الشاب، وربما على نطاق أوسع.  وسجلت فئة الشباب النسبة الأقل من حيث تفضيل علاقات اجتماعية مع  أبناء بلدها. كما برز تمايز واضح  بين الذكور والإناث،  فنسبة أعلى من الذكور  فضلت علاقات اجتماعية مع المحيط العالمي، بعض النظر عن الدين. وسجلت الإناث  نسبة أعلى من الذكور في تفضيل  علاقات اجتماعية مع أبناء بلدها.

تفوق الذكور في الثقة بالأحزاب السياسية على الإناث (30% مقابل21.5 %)، وفي تأييد الأحزاب اليسارية (25% مقابل 20% من الإناث)، وتفوقت الإناث على الذكور في تأييد الأحزاب الدينية (44% مقابل 37% للذكور)، وتعادل الجنسان في نسبة تأييد الأحزاب العلمانية-الوسطية الفلسطينية. تصنف الفئة الشابة نفسها بنسبة أعلى (وإن بنسبة محدودة) من الفئات العمرية الأخرى، بأنها غير متدّينة (13%، 8%، 5% على التوالي من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى)، كما أنها الأعلى في تصنيف نفسها بمتوسطة التدّين (53%، 47%، 38% من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى)، والأدنى في  تصنيف نفسها بالمتدّينة (34%، 45%، 56%، من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى). ولعل هذا مؤشر على تراجع تأثير الإسلام السياسي على الشباب.  وتصنف الإناث أنفسهن كأكثر تديّنا من الذكور (48% مقارنة بـ 37% للذكور) والأقل تصنيفا بمتوسطي التدين (46% للإناث و51% للذكور)، وأدنى في وصف الذات بغير متدين (13% للذكور و 7% للإناث)

هناك مؤشرات أخرى لنظرة اجتماعية أكثر تحررا  لفئة الشباب من الفئات الأكبر سنا. فنسبة تفضيل إقامة علاقة صداقة مع الجنسيّن، كانت الأعلى بشكل ملحوظ بين فئة الشباب (41%، مقارنة مع 28% للفئة العمرية الوسطى،  و 23% للفئة العمرية الأعلى). هذا يشير إلى تحول، وإن نسبي، في المفاهيم الاجتماعية للشباب، وتحديدا لدى الذكور. فنسبة أعلى من الذكور (43%) بالمقارنة مع الإناث (23.5%) فضلت إقامة علاقة صداقة مع الجنسين.

التباين الأوسع بين الذكور والإناث برز تجاه الموقف من  مقولة "الديمقراطية والحرية مرتبطة بدرجة تحرر المرأة"، فقد اتفق معها نسبة ملحوظة أعلى من الإناث. كما برز تباين  في نسب الاتفاق مع مقولة  "الواقع السياسي للفلسطينيين له تأثير سلبي أكبر على حركة وحرية المرأة مقارنة بالرجل"، إذ وافق عليها نسبة أقل من الذكور، كما أيد "وصول النساء للمناصب كافة، في القرار السياسي الفلسطيني"  نسبة أدنى من الذكور   وبنسبة ملموسة.  لكن نسبة أعلى من الإناث اتفقت مع مقولة "أصبحت العلاقات داخل الأسرة الفلسطينية أكثر منصفة للنساء حاليا"، وليس من الواضح لماذا تشعر نسبة أعلى من النساء بأن  العلاقات الأسرية  باتت أكثر إنصافا للمرأة من السابق.

 

الملاحظة السابعة، تمايز الشباب في التوجهات الاجتماعية لا يقابله، بشكل موازٍ،  تمايزا في الموقف السياسي. فنسبة الشباب (78%) الذي حددوا فلسطين  بحدودها التاريخية (الانتدابية) كانت مماثلة للفئة العمرية الأعلى وأقل من الفئة الأعلى عمرا ( 78% للفئة العمرية الوسطى، و 81% للفئة الأعلى). وكانت نسبة  الشباب الذين اختزلوا فلسطين بحدود الضفة وغزة، لا تختلف عن الفئة العمرية الوسطى والأعلى، (وإن بنسبة ضيقة جدا في  اعتبار  حدود فلسطين وفق قرار التقسيم (9%، 8%، و 7% على التوالي). كما لم تتمايز فئة الشباب عن الفئتين الأخريين في تعريفها للشعب الفلسطيني  بما هو المقيم حاليا وسابقا في فلسطين التاريخية،  وعرّفت الشعب الفلسطيني كالشعب المقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة بنسبة متقاربة جدا مع الفئتين الأكبر.

تمايزت فئة الشباب قليلا عن الفئتين الأكبر سنا من  حيث أن نسبة أعلى منها  اعتبرت أن لا أحد يمثلها (48%، مقابل 45% و 43% من الفئة الأدنى عمرا إلى الفئة الأعلى). ونسبة أقل منها (بنسبة ضئيلة جدا) اعتبرت أن منظمة التحرير تمثلها (15%، مقابل 16.5% للفئة العمرية الوسطية، و 16%  للفئة الأعلى)، ولم تتمايز في اعتبار أن السلطة الفلسطينية تمثلها (21.5%، 23%،  و 22% على التوالي). جزء من تمايزات مواقف فئة الشباب السياسية، حين تبرز، يمكن تفسيرها جزئيا، انطلاقا من أنها الفئة العمرية التي لمست، ربما أكثر من غيرها مباشرة وقع تفكك الحقل السياسي الوطني (تداعي مؤسسات واتحادات منظمة التحريرـ وتفكك السلطة الفلسطينية إلى سلطتين) على واقعها الوطني والمعيشي.

لا يظهر أي فرق بين الشباب  والفئات العمرية الأخرى فيما يخص افتخار الشخص لكونه فلسطينيا (نحو 95% للفئات الثلاث)، ولا فرق يذكر فيما يخص الافتخار لكون عربيا (ما بين 88% و 91.5%)، ولا لكونه متدينا (نحو 91.5% للفئات الثلاث)، ولا لكونه عالميا (93%  فأعلى).

 لا يُظهر المسح تمايزا واضحا لفئة الشباب على الفئات العمرية الأخرى، فيما يخص "الإستراتيجية المناسبة لتحرير الوطن وإقامة الدولة" سوى بتميزهم بنسبة ضئيلة جدا عن  الفئات الأخرى في تأييد المقاومة المسلحة،(39%، 36%، 37%، على التوالي) من جانب، و بتأييد أقل ( أيضا بنسبة صغيرة جدا) للمفاوضات من الفئتين الأخريين (18%، 20%، 19%، على التوالي). كما كان التقارب الشديد في الآراء بين  الشباب والفئات العمرية الأكبر السمة  الطاغية في تحديد "العوامل الأكثر فعالية في تصويب المسار". ولم تتجاور الفروق بين الذكور والإناث في أي من البنود الواردة أعلاه 5%، وكانت  أقل من ذلك في عدد منها، بل متعادلة في أكثر من بند.

المعطيات التي يوفرها المسح  تشير إلى: أولا، أهمية رؤية الشباب كجزء  ومكون من مكونات المجتمع  وليس كفئة خارجة عنه، فالمعطيات تكشف بوضوح تام أن مواقف وآراء الشباب لا تختلف  كثيرا عن الفئات العمرية الأخرى.  ويشير ثانيا: إلى حيوية الثقافة السياسية الفلسطينية، كون التباينات في الآراء والمواقف  والتوجهات السياسية بين التجمعات وحسب الجنس والفئة العمرية لا تخرج عن سياق تعددية الآراء المتداولة  داخل وبين  مكونات الشعب الفلسطيني.

 

الملاحظة الثامنة، القول بحضور ثقافة سياسية وطنية  جامعة، لا يقلل من حقيقة خصوصية كل تجمع  وتداعيات هذه الخصوصية، وهذه الخصوصية  تبرز أكثر ما تبرز عند مقارنة  التجمعات مع بعضها البعض إزاء موضوعات وقضايا واحدة، فالتوافق الأعلى  بين التجمعات الأربع،  برز في ربط الصراع بين الفصائل السياسية وحال الشرذمة والتجزئة، حيث فاقت نسبة من رأوا هذا الربط 98% في غزة، وكان حده الأدنى في الأرض المحتلة عام 48 (86%). كما برزت درجة عالية من التوافق فيما يخص العلاقة بين الاستقطاب  في الوضع العربي والشرذمة في الوضع الفلسطيني، (النسبة الأدنى سجلها فلسطينيو الأرض المحتلة عام 48  (70%)،  والأعلى في لبنان (82%)، حيث يبرز بشكل أوضح وقع التجاذبات الإقليمية والعربية.

تباين دعم الاستراتيجيات المختلفة، وفق خصوصية وتجربة كل تجمع: فنسبة التأييد الأعلى للمقاومة المسلحة جاءت من فلسطينيي لبنان، تبعهم قطاع غزة، ثم  الضفة الغربية، و كان الأدنى في تأييد هذه الإستراتيجية فلسطينيّو الأرض المحتلة عام 1948، وهم الأعلى في تأييد إستراتيجية المفاوضات، كما كانوا هم وفلسطينيو الضفة الغربية الأعلى في تأييد المقاطعة الشاملة لإسرائيل.

النسبة الأعلى  من الثقة في الأحزاب السياسية (والثقة لا تعني العضوية الحزبية بالضرورة) منحها فلسطينيو 48،  والأدنى كانت في الضفة الغربية (بلغت 20.5% في الضفة الغربية، و 21% في قطاع غزة، 42% في الأراضي المحتلة عام 48%، و25% بين فلسطيني لبنان). ولعل سبب تدني الثقة في التنظيمات السياسية في الضفة والقطاع سببها الانقسام المستمر منذ أكثر من عشر سنوات  والتصارع بين الحزبين الكبيرين، رغم أن كليهما تحت الاحتلال والحصار.

وعلى صعيد التجمعات تظهر غزة  الأعلى نسبة في وصف النفس بالتدين،  ولبنان بالأدنى، وتتقارب الضفة الغربية مع الأراضي المحتلة عام 48  بالتدين .  لكن النسبة الأعلى في من  وصفوا أنفسهم بغير المتدينين كانت  في الأرض المحتلة عام 48 (23%)، تلاها لبنان (11%) ثم الضفة (6%)، وأخيرا قطاع غزة (4%).  وسجل لبنان النسبة الأعلى لمتوسطي التدين (66%) تلاه الضفة الغربية (45%) فقطاع غزة (41%)، فالأراضي المحتلة عام 48.   وعلاقة التجمعات الفلسطينية بالتديّن تحتاج إلى بحث بمنهجية مختلفة.

اعتمدت التجمعات الأربع، الترتيب نفسه وإن بنسب متباينة، إذ حاز خيار "الأرض والوطن" على النسبة الأعلى في ترتيب الخيارات. لكن لم يأت "الدين" في المرتبة  الثانية بين خيارات فلسطينيي الأرض المحتلة عام 48 ، بل جاء في المرتبة الثانية "الشعور الجمعي" (الهوية)، وجاء في المرتبة الثالثة "التاريخ"، وفي المرتبة الأخيرة "الدين".  كما لم يأت الدين في المرتبة  الثانية في خيارات  فلسطينيي لبنان، بل جاء  "الشعور "الجمعي"، وجاء "الدين" في المرتبة الثالثة، تبعه مباشرة "التاريخ". ويستحق هذا الترتيب طرح السؤال لماذا أخذ "الدين" المرتبة الثانية (وإن بمسافة واسعة عن "الأرض والوطن" في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ ولم يأخذ ذلك بين فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، وفلسطينيي لبنان؟  وهل لهذا علاقة بالمنهاج التدريسي في مدارس السلطة الفلسطينية التي منحت الدين مكانة بارزة في المنهاج، أم له علاقة بتأثير جماعة الإخوان المسلمين في الضفة (منذ فترة الحكم الأردني) والقطاع (حركة الإخوان في مصر)؟

فيما يخص مواقف التجمعات الفلسطينية الأربع من حرية ومساواة المرأة، فقد جاءت النتائج ملفتة للانتباه، فالنسبة الأعلى التي وافقت على مقولة " الديمقراطية والحرية مرتبطة بدرجة تحرر المرأة" جاءت من فلسطينيي لبنان،  وتبعه مباشرة قطاع غزة،  والنسبة الأدنى من الأرض المحتلة عام 48، ومن الضفة الغربية (بنسبة أعلى قليلا من  الأرض المحتلة عام 48)، هل ينبغي قراءة النسبة العالية في قطاع غزة ولبنان الداعمة لحقوق المرأة  قراءة سياسية أي في سياق حضور سياسي قوي لتنظيمات دينية سياسية في الحالتين، أم  تقرأ كردة فعل على هذا الحضور القوي؟ أم أن التجربة في التجمعين هي التي قادت إلى هذا الاستخلاص كتوجه، وليس كتوصيف للحالة الراهنة؟ والجواب بحاجة، ربما، إلى بحث بمنهجية جديدة.

 

(فصل من كناب: "الشباب الفلسطيني: دراسات عن الخوية والمكان والمشاركة المجتمعية" الذي صدر مركز دراسات التنمية-جامعة بيرزيت، 2017).

 


 

مشاركة: