الرئيسية » هاني المصري »   06 آب 2013

| | |
نقد خيار المفاوضات إلى الأبد وبأي ثمن
هاني المصري

 

سأناقش في هذا المقال وجهات النظر التي تؤيد استئناف المفاوضات "إلى الأبد وبأي ثمن"، لدرجة أن بعضهم دعا علنًا صاحب القرار الأول إلى تجاوز المؤسسة والإجماع الوطني لأنها لا تزال تنتمي إلى الماضي ومأسورة بالتشدد وإطلاق الشعارات.

إذا دققنا بالحيثيّة الرئيسيّة التي يوردها هؤلاء نجد أنها تكمن في الرهان على الإدارة الأميركيّة، خصوصًا في عهد رئاسة باراك أوباما، وعلى جهود ومثابرة وجديّة جون كيري الذي أظهر إصرارًا عنيدًا، خلال الشهور الماضية، على استئناف المفاوضات، وسيظهر إصرارًا مماثلًا على نجاحها، لأنه لديه حلم ومؤمن بأنه قادر على تحقيق ما عجز أسلافه عن تحقيقه. والحجة المفحمة لأصحاب هذا الخيار أن الولايات المتحدة عقدت عزمها على إقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967 مع تعديلات، وأن أوروبا مضت أبعد من أميركا في هذا الاتجاه عندما أصدرت قرارها الأخير بخصوص الاستيطان.

ويواصلون تقديم براهينهم بالقول إن أميركا وأوروبا والعالم كله سئموا من استمرار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ويريدون التوصل إلى حل له لمصلحة الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وحفاظًا على نفوذهم ومصالحهم المتداعية في المنطقة في ظل زلزال المتغيّرات والثورات والفوضى الذي لا يعرف أحد ما هي تداعياتها النهائيّة.

لا يتوقف أصحاب الرهان على الأميركيين طويلًا أمام لماذا ستنجح الإدارة الأميركيّة هذه المرة بينما فشلت طوال أكثر من عشرين عامًا منذ عقد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 وحتى الآن، متجاهلين أنها ستفعل ذلك من أجل توظيف الفوضى العربيّة للضغط على الفلسطينيين للقبول بـ"تسوية تصفويّة"، واستكمال بناء حلف عربي أميركي إسرائيلي ضد إيران، وخشية من انفجار الوضع الفلسطيني الذي سيزيد الوضع العربي تفجرًا على تفجير، وسيجعله ينقلب ضد أميركا وإسرائيل، وورقة الانفجار هذه يجب أن تكون ورقة قوة في يدنا لا ضدنا، وبالتالي علينا إبقاؤها مفتوحة واللجوء إليها إذا احتاج الأمر، وليس إلقاءها على قارعة الطريق مثلما فعلنا بمعظم أوراق القوة التي كانت لدينا.

ولا يتوقفون أمام معنى النجاح الأميركي في التوصل إلى تسوية في ظل تبني إدارة أوباما للرواية الصهيونيّة كاملةً، وتعهدها بعدم الضغط على إسرائيل، وفي ظل الاختلال الفادح في ميزان القوى لصالح إسرائيل، وزيادة الدعم والاعتماد الأميركي عليها بعد أن أثبتت التغييرات العاصفة في المنطقة أن إسرائيل هي الحليف الوحيد الدائم والمستقر الذي يمكن الاعتماد عليه، فكل حلفاء أميركا الآخرين سقطوا أو معرضين للسقوط في أي لحظة. إن النجاح في الجهود الحاليّة يحمل معنى واحدًا يتجلى في قدرة المفاوض الإسرائيلي المدعوم من الراعي الأميركي على استمرار الوضع الحالي كما هو، أو من خلال فرض حل انتقالي (أسوأ من أوسلو) أو نهائي يصفي القضيّة الفلسطينيّة من جميع جوانبها.

يجهد منظرو المفاوضات أنفسهم للتدليل على أن الواقع الفلسطيني ضعيف وسيئ جدًا، ومدى تأثير الانقسام المدمر عليهـ، وأن الواقع العربي أسوأ، وأن العالم كله يدفعنا إلى المفاوضات، وأن عدم الانخراط فيها هو خضوع لمنطق الشعارات بدلًا من منطق الحسابات. فالشعارات تريد كل شيء ولا تحقق شيئًا، بينما الحسابات تنجز ما يمكن إنجازه، ويتناسون أن الواقع السيئ يقتضي التعامل معه من أجل تغييره وليس الخضوع له كما يطالبون.

يرددون أن المفاوضات تعني "المساومات" .. نعم، ولكنهم يتجاهلون أن الفلسطينيين بحكم قيادتهم "الرشيدة" قدّموا قسطهم من التنازلات منذ زمن بعيد، وعليهم أن يوقفوا مسلسل "التنازلات" ويبدؤوا بجمع أوراقهم من جديد.

لقد اعترفت القيادة الفلسطينيّة بإسرائيل من دون أن تعترف حتى بالدولة الفلسطينيّة، وتخلت عن الكفاح المسلح وتبنت المفاوضات الثنائيّة كطريق وحيد لحل الصراع من دون أن توقف إسرائيل مخططاتها العدوانيّة والتوسعيّة والاستيطانيّة والعنصريّة.

وحيّدت القانون الدولي وقرارات الشرعيّة الدوليّة والمجتمع الدولي، ووافقت عمليًا على مقايضة الدولة بحق العودة من خلال موافقتها على حل "عادل" متفق عليه لقضيّة اللاجئين، وعلى معايير كلينتون التي في جوهرها تعني حق عودة قسم من اللاجئين إلى الدولة الفلسطينيّة والتعويض، وليس حق العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها.

ووافقت على مبدأ تقسيم القدس الشرقيّة وضم الكتل الاستيطانيّة إلى إسرائيل في مفاوضات "كامب ديفيد" و"طابا" ومع حكومة أولمرت في العام 2008، عبر موافقتها على مبدأ "تبادل الأراضي"، واعتباره جزءًا من مرجعيّة المفاوضات. هذا المبدأ الذي يعطي الشرعيّة لما أقامته إسرائيل، وما يمكن أن تقيمه من حقائق احتلاليّة واستيطانيّة على الأرض، وبعد أن حافظت على التنسيق الأمني في كل الظروف والأحوال، بالرغم من تجاوز إسرائيل لالتزاماتها في اتفاق أوسلو وإصرارها على بدء المفاوضات من نقطة الصفر، ما يعطي الجانب الفلسطيني فرصة للتراجع عن هذا المسار المدمر.

لقد اعتمدت القيادة الفلسطينيّة في مرحلة ما بعد الرئيس الراحل المغتال ياسر عرفات خطة إثبات الجدارة وبناء المؤسسات وتطبيق الالتزامات الفلسطينيّة من جانب واحد لإحراج إسرائيل، ووضع أميركا والمجتمع الدولي أمام مسؤولياتهما وإثبات حسن النيّة كطريق لإقامة الدولة الفلسطينيّة، لتمر السنوات من دون أن يحصلوا على شيء يذكر رغم اعتراف العالم بجهوزيّة الفلسطينيين. فالعالم لم يتحمل مسؤولياته وطلب من الفلسطينيين مواصلة طريقهم وكأنه طريق إلى الأبد أو إثبات لا ينتهي للجدارة.

الدعوة للمساومة في ظل الواقع الفلسطيني والعربي والدولي البائس الذي يشيرون إليه لتبرير استئناف المفاوضات، وفي ظل ما تقوله وتفعله أسوأ حكومة بتاريخ إسرائيل يعني عمليًا دعوة للاستسلام والاعتراف بالهزيمة عبر الاستعداد لتقاسم الضفة الغربيّة مع إسرائيل وتصفية قضيّة اللاجئين مقابل دويلة تقام على الشظايا مقطعة الأوصال، على أساس أن هذا هو الممكن، والسياسة عند هؤلاء هي "فن الممكن"، والممكن هو ما تعرضه إسرائيل فليس، بالإمكان أبدع مما كان، بينما السياسة في الحقيقة هي "فن أفضل الممكنات".

ولا يفوّت بعض منظري المفاوضات نقد الأداء الفلسطيني مستلهمين ما قاله وكتبه الرئيس أبو مازن بُعيد توقيع اتفاق أوسلو بأن هذا الاتفاق يمكن أن يقود إلى دولة أو إلى كارثة، وهذا يتوقف على الأداء الفلسطيني. المشكلة ليست في الأداء فقط وإنما في الطريق الذي سلكته القيادة منذ عشيّة أوسلو وحتى الآن.

ولقد حمل هؤلاء - سابقًا - الرئيس ياسر عرفات وأداءه المسؤوليّة عن فشل أوسلو، لأنه لم يسر إلى النهاية في خط المفاوضات، ولم يترك كليًّا خط حركة التحرر الوطني والكفاح، وعاد إلى استخدام المقاومة المسلحة لتحسين شروط المفاوضات، وحمّلوا "حماس" والجهاد الإسلامي المسؤوليّة لأنهم نفّذوا العمليات الاستشهاديّة لإفشال أوسلو وإثبات جدارتهم بقيادة وتمثيل الفلسطينيين، في حين كان المطلوب من الفلسطينيين السير إلى النهاية في طريق إقناع إسرائيل وأميركا أن قيام دولة فلسطينيّة مصلحة لهما وإثبات أكثر وبصورة لا لبس فيها أنهم قادرون على المساهمة في الأمن والاستقرار بالمنطقة.

ينسى هولاء أن هذا الخط الذي ينادون به جرب بعد اغتيال ياسر عرفات وحتى الآن، ولم يؤد سوى إلى الضياع والانقسام وتعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والاستمرار به بعد كل ما جرى سيؤدي إلى الاستسلام.

نعم، إن الواقع الفلسطيني والعربي والدولي سيئ للقضيّة الفلسطينيّة وهذا يجعل السقف الفعلي للفلسطينيين منخفضًا، سواء إذا فاوضوا أم لم يفاوضوا، ولكنهم إذا فاوضوا وهم ضعفاء ومنقسمون ومن دون إستراتيجيّة تكفل إعادة بناء قدراتهم مهما طال الزمن سيسهل تصفية قضيتهم.

جذر الخلل عند أصحاب خيار المفاوضات إلى الأبد التصور الخاطئ بأن التسوية ممكنة وعلى الأبواب، وأنّ علينا الاكتفاء بالحصول على ما يعرض علينا لكي نحصل على ما تبقى في مرحلة لاحقة، تصور مدمر لأنه يفقدنا ما تبقى من عناصر قوة ووحدة، أهمها عدالة القضيّة الفلسطينيّة وتفوقها الأخلاقي وطابعها التحرري الوطني، وتصميم الشعب الفلسطيني على الكفاح لتحقيق حقوقه رغم كل الهزائم والمعاناة والتضحيات، وبعدها العربي واستمرار وجود حركة تضامن دولي فاعلة، فهناك مظاهر لاستمرار الحيويّة الوطنيّة نراها بكل أشكال المقاومة المثمرة والمقاطعة والحراك في داخل فلسطين والضفة وغزة والشتات، يضاف إلى ذلك أن ليس كل ما يجري في العالم العربي سيئًا، بل هو يفتح آفاقًا رحبة في المدى المتوسط والبعيد، وأن العالم لم يعد أحادي القطبيّة، وهناك تراجع نسبي ملحوظ للدور الأميركي المساند لإسرائيل، وصعود قوى جديدة يمكن أن ننسج العلاقات معها ونراهن عليها.

إذا كانت التسوية المتوازنة ولا أقول العادلة غير ممكنة فليس البديل أن نقبل أو نتعايش مع تسوية استسلاميّة تحقق جوهر الشروط والمصالح والأهداف الإسرائيليّة بحيث تصبح قيدًا على النضال اللاحق.

حتى نحافظ على القضيّة حيّة وعلى الحقوق والأهداف وعلى صمود الشعب الفلسطيني وتواجده على أرض وطنه، لا بد من اعتماد إستراتيجيّات جديدة يمكن أن تكون انتقالية تمهد لنقطة تحوّل حاسمة، إستراتيجّات تقوم في المرحلة الأولى على "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" والحفاظ على الحقوق والمكاسب والوحدة، ويمكن فيها الجمع بين المفاوضات والمقاومة مع التركيز على المقاومة، والتحلل التدريجي من قيود والتزامات أوسلو، مع السعي لتقليل الخسائر والأضرار، وعدم التوهم بإمكانيّة التوصل إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينيّة من دون تغيير حقيقي في ميزان القوى، فكيف من الحقوق الفلسطينيّة؟! فالمرحلة ليست مرحلة تسوية متوازنة وإنما مرحلة مجابهة.

Hanimasri267@hotmail.com

 

مشاركة: