الرئيسية » هاني المصري »   12 كانون الثاني 2014

| | |
صفقة كيري المسمومة
هاني المصري
 
أنهى جون كيري جولته العاشرة منذ تسلمه منصبه، بعد أن تحدث عن إحراز "تقدم" وأنه سيعود مجدداً إلى المنطقة في القريب العاجل . لم يحدث الاختراق الجاري الحديث عنه بكثافة منذ أسابيع، ولكنّ كيري مصممٌ على مواصلة جهوده، وسيذهب إلى الأردن والسعوديّة، وسيلتقي بلجنة "المتابعة العربيّة"، في مواصلة لمساعيه المستمرة لزجّ العرب للضغط على الفلسطينيين لقبول ما يرفضونه حتى الآن .

لا أحد يعرف الحقيقة حول ما يجري في المفاوضات إلا ثلاثة أشخاص هم: كيري، وأبو مازن، ونتنياهو، وقلة صغيرة جداً من المساعدين المقربين، لأن اللقاءات التي يجريها مع الزعيمين الفلسطيني و"الإسرائيلي"، سواء هنا في المنطقة، أم في مناطق أخرى، كانت في معظمها تقتصر على لقاءات ثنائيّة بينه وبين أبو مازن، أو بينه وبين نتنياهو .
إن ما تسرّب عن هذه اللقاءات في معظمه تسريباتٌ إعلاميّةٌ غير مؤكدة، لأنّ كيري حَرِصَ منذ البداية على سريّة المفاوضات، وعلى أنه هو الوحيد المخوّل له بالتصريح عما يجري فيها .

بعد أن فشل بالتوصل إلى اتفاق نهائي من جرّاء التعنت "الإسرائيلي"، صرح كيري مؤخراً بأنه يهدف إلى التوصل إلى "اتفاق إطار" يضم جميع القضايا: الحدود، والقدس، واللاجئين، والاستيطان، والأمن، ويحدد النقاط المتفق عليها وتلك المختلف عليها، بحيث يعرف الجميع الهدف النهائي الذي تسعى المفاوضات إلى تحقيقه .

وبدأ كيري بالتركيز على الترتيبات الأمنيّة نزولاً عند المقاربة "الإسرائيليّة"، وطرح أفكاراً تتضمن استمرار الوجود العسكري "الإسرائيلي" على الحدود والمعابر، وعلى نقاط استراتيجيّة في الأغوار وأخرى في الضفة، وأحدث تعديلات على هذه الخطة تتعلق بأن تكون هناك دوريات مشتركة فلسطينيّة - "إسرائيليّة"، مع وجود "إسرائيلي" غير مرئي على المعابر الحدوديّة، وتخفيض مدة وجود القوات "الإسرائيليّة" في غور الأردن، على أساس تأهيل قوات الأمن الفلسطينيّة للقيام بالمهمة من دون التزام بموعد نهائي، بالتعاون مع قوات أمريكيّة، ونصب أجهزة مراقبة متطورة .
كما تتضمن أفكار كيري نقطة تتحدث عن اعتبار حدود 67 أساساً لرسم الحدود مع تبادل أراضٍ من دون الالتزام بنسبة، وترك هذا الأمر ليُحسم في المفاوضات اللاحقة، على أن يؤخذ في الحسبان الحقائق التي أقامها الاحتلال، خصوصاً المستوطنات التي يريد كيري أن يضم 85% منها إلى "إسرائيل" في أي حل نهائي .

بالنسبة للقدس، يحاول كيري أن يستعير ما طرحه الرئيس السابق بيل كلينتون عن اعتبار القدس عاصمة موحدة ل"إسرائيل" والدولة الفلسطينيّة، من دون تحديد حدود كل منهما، ما يسمح ل"إسرائيل" في المفاوضات اللاحقة عرض منطقتي "أبو ديس" و"العيزريّة" لتكونا العاصمة الفلسطينيّة، وبما يسمح باحتفاظ "إسرائيل" بأغلبيّة مساحة ما تسمّيها "القدس الكبرى"، مع تطبيق جزئي لضم الأحياء العربيّة في القدس إلى الدولة الفلسطينيّة، على أن تضم "الأحياء اليهوديّة" (أي المستوطنات المقامة على أراضي القدس) إلى "إسرائيل" . أما القدس القديمة فتقع تحت سيادة دوليّة .

أما قضيّة اللاجئين، فيتم حلها من خلال عودتهم إلى الدولة الفلسطينيّة مع تعويضهم وتسهيل هجرة من يريد الهجرة إلى بلد ثالث، والمساعدة على توطين من تبقى في الأماكن التي يقيمون فيها . 

وفي نقطة أخرى تعتبرها حكومة نتنياهو قضيّة القضايا، يحاول كيري إقناع الفلسطينيين بها، وهي قبول "إسرائيل" دولة "يهوديّة" في إطار يعترف فيه "الإسرائيليون" بالدولة الفلسطينيّة وطناً قومياً للشعب الفلسطيني، على أن يعترف الفلسطينيون ب"إسرائيل" وطناً قومياً للشعب اليهودي، وهناك أنباء عن تداول اقتراح بأن يشمل "اتفاق الإطار" عبارة تتحدث عن حق كل طرف في أن يسمي دولته كما يشاء، للالتفاف على الخلاف على قبول الدولة اليهوديّة . وقدم كيري الاعتراف بالدولة اليهوديّة باعتبارها تمثل موقفاً أمريكياً وليس "إسرائيلياً" فقط .
أي تقييم موضوعي لما يطرحه كيري يصل إلى أنه يتبنى جوهر الموقف "الإسرائيلي" القائم على اللاءات المعروفة: لا انسحاب إلى حدود ،67 ولا انسحاب من القدس، ولا عودة للاجئين إلى ديارهم وأراضيهم التي هجروا منها، كما ينص القرار الدولي ،194 ولا تفكيك المستوطنات، ولا التخلي عن الأغوار، لأن بقاء القوات "الإسرائيليّة" ضروري جداً للحفاظ على الأمن ضد أي تهديدات راهنة أو مستقبليّة، وكذلك لضمان سيطرة "إسرائيل" على الكيان الفلسطيني، وليس تجسيداً لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم . وقيام هذا الكيان يشكل مصلحة "إسرائيليّة" لمنع تحوّل "إسرائيل" إلى دولة ثنائيّة القوميّة تضم فلسطينيين عددهم يساوي عدد اليهود حالياً، ويمكن أن يصبحوا أغلبيّة خلال سنوات قليلة، شرط أن يبقى هذا الكيان "حكماً ذاتياً" حتى لو سمّى نفسه "دولة" فلسطينيّة .

مأزق كيري يكمن في أنّ الهوّةَ شاسعةٌ جداً بين الموقفين الفلسطيني و"الإسرائيلي"، وأن إجبار القيادة الفلسطينيّة على التخلي عن مطلبها بتسوية نهائيّة تسمح بقيام دولة فلسطينيّة ذات سيادة، والموافقة على "اتفاق إطار" لا يحل شيئاً، وإنما يسمح بتمديد المفاوضات لمدة تتراوح بين (6 -12) شهراً بعد انتهاء المدة الحاليّة التي ستنتهي في إبريل/ نيسان المقبل، وما يعنيه ذلك من قبول الموقف "الإسرائيلي" من حيث الجوهر، الذي سيؤدي إلى تقويض ما تبقى من شرعيّة ومصداقيّة للقيادة الفلسطينيّة، ما يجعل مثل هذا الاتفاق استمراراً لما سبقه وللمرحلة الانتقاليّة . لذا سيكون غير قادر على الصمود، حتى لو سلمنا جدلاً بأن القيادة الفلسطينيّة يمكن أن توافق عليه، لذلك يحاول كيري إقناع نتنياهو بإبداء بعض المرونة، خصوصاً بقبول اعتبار حدود 67 أساساً لرسم الحدود، وتخفيف مطالب "إسرائيل" الأمنيّة فيما يتعلق بالسيطرة الأمنيّة المفتوحة على الأغوار .

ويظهر مأزق كيري بشكل أوضح إذا لاحظنا أن الحكومة "الإسرائيليّة" منقسمة ولا تُجْمِعُ على أهميّة التوصل إلى اتفاق مرحلي أو نهائي، بل يفضل الكثير من الوزراء بقاء الوضع على ما هو عليه مع استمرار المفاوضات، حتى يوحي ذلك بأن هنالك عمليّة سياسيّة تمنع أي محاولة لعزل "إسرائيل" وبروز خيارات وبدائل أخرى، فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة .

إذا لم تقرر الإدارة الأمريكيّة الضغط على "إسرائيل"، ولم يحسم نتنياهو الموقف لمصلحة تمرير "اتفاق الإطار"، ولو اقتضى الأمر تغيير الائتلاف الحاكم، فإن الفشل يخيم على جهود كيري، وأن أقصى ما يمكن التوصل إليه هو "اتفاق إطار" عام فضفاض يفسّره كل طرف كما يريد، وليس له قيمة عمليّة كما صرح نتنياهو، ولكنه يسمح باستمرار المفاوضات لمدة جديدة .
 
ولإظهار مدى صعوبة مهمة كيري، نشير إلى ما قامت به الحكومة "الإسرائيليّة" مجتمعة أو وزراء منها من خطوات من شأنها جعل المفاوضات دائماً على حافة الانهيار، الأمر الذي حثّ كيري على إبقاء قوة الدفع مستمرة، حيث قام بعشر زيارات للمنطقة، والتقى بكل من أبو مازن ونتنياهو كلا على حدة خارج المنطقة عشر مرات على الأقل، ويواصل مساعدوه، خصوصاً مارتن أنديك والجنرال المتقاعد جون ألن، العمل في غيابه .

يكفي أن نقول إنه منذ بداية المفاوضات في العام الماضي، أقرّت "إسرائيل" إقامة نحو 6000 وحدة استيطانيّة، وستقر 1400 وحدة جديدة أخّرت إقرارها إلى ما بعد زيارة كيري، وقتلت قوات الاحتلال 13 فلسطينياً، واعتقلت مئات المواطنين، وقام نواب ووزراء وآلاف المتطرفين والمستوطنين بتكثيف الاعتداءات على المقدسات، وخصوصاً على الأقصى، وسط إعلانات تتراوح بين ضرورة هدمه وبناء الهيكل بدلاً منه وتقسيمه كما حدث للحرم الإبراهيمي في الخليل . 

ومؤخراً، قامت لجنة وزاريّة تضم ثمانية وزراء باعتماد توصية تطالب بضم الأغوار التي تشكل 29% من مساحة الضفة المحتلة لـ"إسرائيل"، وذلك لقطع الطريق على نجاح كيري وعلى جميع الخطط التي تطالب بانسحاب كلي أو جزئي من الأغوار . وأيضاً، يقوم نتنياهو وأركان حكومته بالتحريض على الرئيس أبو مازن وعلى القيادة الفلسطينيّة، والزعم بأنها ليست شريكاً في صنع السلام، في محاولة استباقيّة للضغط عليها لابتزازها ودفعها لقبول الشروط والإملاءات "الإسرائيليّة"، ولتحميلها المسؤوليّة عن فشل المفاوضات .

إن الاعتراف بـ"إسرائيل" دولة يهوديّة يعني إسقاط الضحيّة لروايتها التاريخيّة، والاعتراف بأنها كانت على خطأ منذ البداية، وبالتالي نزع الشرعيّة عن النضال الفلسطيني، وإسقاط حقوق اللاجئين بالعودة والتعويض، وإسقاط حق فلسطينيي الداخل أصحاب البلاد الأصليين، الأمر الذي يفتح الباب لتطبيق أحد الاقتراحات "الإسرائيليّة" التي قدمت لكيري، الذي يقضي بأن يشمل "تبادلُ الأراضي" تبادلَ السكان، من خلال ضم المثلث الذي يقطنه 300 ألف فلسطيني إلى الدولة الفلسطينيّة، مقابل ضم المستوطنات والأراضي التي تعتبرها "إسرائيل" حيويّة إليها .

إن كل ما سبق يوضح أن ما يجري في الحقيقة ليست مفاوضات، وإنما شروط وإملاءات "إسرائيليّة" بعد الموافقة الأمريكيّة عليها، وهي لن تفضي إلى سلام وإقامة دولة، وإنما إلى بقاء الأمر الواقع كما هو، أو بتغييره بصورة شكليّة، حيث تسمى السلطة الفلسطينيّة "دولة" فلسطينيّة . فهذا هو الاستنتاج الوحيد من سعي كيري للتوصل إلى "اتفاق إطار"، يهبط مجدداً بالمرجعيات الدوليّة وإعطاء الشرعيّة لتمديد المفاوضات، ويُمَكِّنُ "إسرائيل" من تطبيق مخططاتها الاستعماريّة والتوسعيّة والاستيطانيّة والعدوانيّة التي تقضي على أي أمل بتحقيق السلام وعلى إقامة دولة فلسطينيّة حقيقيّة .

إن تكلفة الانسحاب من المفاوضات والدعوة إلى مفاوضات في إطار "مؤتمر دولي"، وعلى أساس القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة أقل بكثير من تكلفة المفاوضات، التي أقصى ما يمكن أن تقود إليه "اتفاق إطار" يؤجّل كل القضايا، ويعطي "إسرائيل" المزيد من التنازلات والقدرة على تنفيذ مخططاتها الاحتلاليّة .

* كاتب وباحث فلسطيني
Hanimasri267@hotmail.com

*********************

نقلًا عن جريدة الخليج

مشاركة: