الرئيسية » أوراق وتقارير » صلاح عبد العاطي »  

| | |
التحرك أمام محكمة الجنائيات الدولية بين الجدية والتسويف

مقدمة

تواصل القيادة الفلسطينية والسلطة الوطنية الالتزام بخيار دعم الفحص الأولي في المحكمة الجنائية الدولية، الذي مضى على البدء فيه أكثر من عامين ونصف، منذ إعلان مكتب المدعية العامة للمحكمة شروعها في إجراء فحص أولي للحالة الفلسطينية، الأمر الذي أدى إلى تنامي الشكوك، وبخاصة لدى المعنيين وضحايا الجرائم والانتهاكات الإسرائيلية حول جدية القيادة الفلسطينية في الشروع بإجراءات فعلية لمحاسبة قادة الاحتلال أمام المحكمة.

وشهدت هذه الفترة تصاعدًا في وتيرة الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية على كافة المستويات في الأراضي الفلسطينية، وبخاصة فيما يتعلق بالتوسع غير المسبوق في مخططات الاستيطان والتهويد، وارتكاب جرائم العقاب الجماعي والإعدام الميداني وحملات الاعتقال الواسعة، لا سيما بحق الأطفال، والانتهاكات اليومية في مدينة القدس، بما يشمل محاولات إحكام السيطرة على المسجد الأقصى، وانتهاك حق المصلين في الوصول إلى أماكن العبادة، وكذلك فرض القيود على الوصول إلى البلدة القديمة والإغلاق المتكرر للمحال التجارية فيها، واستمرار اقتراف المزيد من الانتهاكات الجسيمة بحق الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، فضلًا عن مواصلة فرض الحصار الخانق على قطاع غزة للعام الحادي عشر على التوالي.

ومنذ إعلان الإدارة الأميركية اعترافها بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى تصعيد إجراءاتها لقمع الهبة الشعبية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بما في ذلك استخدام القوة المفرطة والرصاص الحي بهدف القتل أو التسبب بإعاقات دائمة للمتظاهرين، بالتزامن مع الإعلان عن مخططات استيطانية ضخمة، وغيرها من الإجراءات والجرائم والانتهاكات التي ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

في المقابل، شكلت ردود الأفعال المحلية والعربية والدولية المنددة بالموقف الأميركي حيال القدس، والانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة، فرصة لتعزيز فرصة تحول القيادة الفلسطينية باتجاه تبني مسارات ومقاربات سياسية وقانونية وحقوقية جديدة، وبخاصة في ضوء عزلة موقف إدارة دونالد ترامب وإسرائيل، التي تجلت في مجلس الأمن بتصويت 14 دولة ضد الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وكذلك تصويت 129 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح مشروع القرار الخاص بالقدس، رغم التهديدات الأميركية والإسرائيلية، الأمر الذي يعطي دولة فلسطين دعمًا إضافيًا لاعتماد خيار إحالة مجرمي الحرب الإسرائيليين المشاركين في جريمة الاستيطان إلى المحكمة الجنائية الدولية.

تأخير وقرارات دون تنفيذ

لقد مضى أكثر من عامين على حصول فلسطين على عضوية الدولة المراقب في الأمم المتحدة، قبل أن تقرر القيادة الفلسطينية الانضمام إلى نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، حيث صدر القرار بتاريخ 31/12/2014، الذي بني عليه قرار مكتب الادعاء العام الشروع في إجراء دراسة أولية للوضع في فلسطين، على أساس الإعلان الفلسطيني المودع لدى المحكمة بتاريخ 2/1/2015، بموجب المادة 12 فقرة (3)، والقاضية بقبول اختصاص المحكمة الجنائية بأثر رجعي يعود لتاريخ 13/6/2014، فيما دخل نظام روما الأساسي حيز النفاذ لدولة فلسطين في1 /4/2015. وقد اعتبرت هذه الخطوة أولى الخطوات لضمان وقف سياسة الإفلات من العقاب والحصانة التي طالما تمتع بها قادة دولة الاحتلال الإسرائيلي.

ولم يخف بعض المسؤولين والمحللين الفلسطينيين حذرهم وتخوفهم من قرار الانضمام للمحكمة لأسباب متعددة، من بينها الخشية من إمكانية تسييس عمل المحكمة وتوظيفها فقط لمحاسبة المقاومة الفلسطينية، إلى جانب مخاوف أخرى مردها الشعور بإمكانية تأخر إنفاذ العدالة من خلال التأخير الفلسطيني أولًا في الانضمام للمحكمة، وثانيًا الخشية من استخدام الانضمام للمحكمة كورقة مساومة سياسية لتحسين شروط العودة إلى المفاوضات.

ولعل ما يدعم ذلك، تصريحات بعض المسؤولين الفلسطينيين في أعقاب الإعلان الأول، والانضمام إلى المحكمة الجنائية بأن الطلب المقدم إلى المحكمة الجنائية سيُسحَب لو جمَّدت إسرائيل بناء المستوطنات"[1]، إضافة إلى غياب إستراتيجية قانونية فلسطينية ونقص المعرفة لدى القيادات الفلسطينية بآليات توظيف القانون الدولي، وميل السلطة إلى إبقاء قدم في المفاوضات وعملية التسوية، وأخرى في الآليات الدولية.[2] فعلى الرغم من توصية اللجنة الوطنية العليا لمتابعة المحكمة الجنائية القاضي باتخاذ إجراءات الإحالة إلى المحكمة في نهاية العام 2016، ومن ثم قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 24/9/2017 بإحالة ملف الاستيطان إلى المحكمة الجنائية باعتباره جريمة حرب، وملفي التطهير العرقي والتمييز والفصل العنصري ضد الفلسطينيين كدعوة مستعجلة لفتح تحقيق قضائي[3]، إلا أنه لم يتم تنفيذ هذا القرار حتى الآن بحجج مختلفة وغير مقنعة.

لذلك، يسلط هذا التقرير الضوء على مسار وحصاد التحرك الفلسطيني أمام المحكمة الجنائية الدولية، والخطوات الإسرائيلية المتخذة منذ إعلان مكتب الادعاء العام بدء الفحص الأولي، إضافة إلى الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين بشأن التعامل مع الملفات المقدمة إلى المحكمة.

أولًا: الفحص الأولي

جاء قرار الدراسة الأولية على النقيض من قرار المدعي العام الأسبق لويس مورينو أوكامبو، الذي تملص من إجراء الدراسة الأولية اللازمة بذريعة عدم تمتع فلسطين بمكانة "دولة"، وذلك في أعقاب إيداع السلطة الفلسطينية في العام 2009 إعلان الانضمام لعضوية المحكمة الجنائية، بموجب المادة 12 من نظام روما الأساسي، وقبولها لممارسة المحكمة ولايتها القضائية للتحقيق بالجرائم التي ارتكبتها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية.

اختارت القيادة الفلسطينية دعم الفحص الأولي على أساس المادة 12 فقرة (3) بتقديم إعلان قبول اختصاص المحكمة، الأمر الذي يتطلب من القيادة الفلسطينية واللجنة الوطنية العليا لمتابعة المحكمة بيان الأسباب القانونية والمنطقية التي دفعتها للجوء إلى هذه المادة [4]، وخاصة بعد انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة، ووجود خيارات أكثر نجاعة من جانب، ولما يحتويه هذا الخيار من مقامرة من جانب آخر.

  فالفحص الأولي يعني: قيام المدعي العام للمحكمة بتحليل ما إذا كانت الجرائم المذكورة في نظام روما، المنشئ للمحكمة الجنائية، قد وقعت، وما إذا كانت الجرائم التي حدثت تكفي لاستحقاق نظرها من طرف المحكمة، وفق ما تنص عليه المادة 53 من نظام روما الأساسي[5]، التي يُفتح التحقيق بموجبها. فالمدعي العام للمحكمة ينظر في البلاغات والمعلومات المتوفرة، إضافة إلى دراسة مسائل الاختصاص والمقبولية قبل أن يقرر البت فيما إذا كان ينبغي إجراء تحقيق وملاحقة قضائية.

 ومن أخطر الملاحظات على آلية الدراسة الأولية ما يأتي:

  • اقتصارها على فحص الشكاوى والبلاغات، ومدى تطابقها مع ولايتها القضائية للمحكمة من جهة، والتقرير بشأن البدء في إجراءات التحقيق والملاحقة من عدمه من جهة أخرى.
  • لا توجد ضمانات تلزم مكتب المدعي العام بالانتقال إلى مرحلة التحقيق والملاحقة بعد الانتهاء من الدراسة  الأولية.
  • عدم وضوح وتحديد الإطار الزمني لمرحلة الدراسة الأولية، وبخاصة أن لائحة الإجراءات أمام المحكمة ومدونة عمل الادعاء العام، لم تعالج الفترة الزمنية التي يجب على مكتب المدعي العام الانتهاء خلالها من الفحص الأولي، ولذا يعتمد تحديد الفترة الزمنية على الوقائع وظروف كل حالة على حدة.
  • التجارب السابقة بشأن طول فترة مسار الدراسة الأولية في كل من أفغانستان وكولومبيا، حيث استغرقت 8 و10 أعوام على التوالي.

لذا يمكن التبوّء بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تستغرق سنوات قبل أن تفتح تحقيقًا تعقبه تحقيقات قضائية أمام الدائرة الابتدائية لدى المحكمة من أجل إصدار قرارات. وما دام لا يوجد لمسار الدراسة الأولية إطار محدد، ولا يوفر ضمانات للانتقال إلى التحقيق والملاحقة، فمن حق الجميع أن يتساءل: لماذا لجأت السلطة إلى خيار الفحص الأولي؟ والإجابة عن السؤال السابق تفترض احتمالين:

الأول: قلة المعرفة والخبرة بآليات وإجراءات عمل المحكمة الجنائية.

الثاني: إبقاء مسار العودة إلى المفاوضات مفتوحًا أمام السلطة، خاصة في ضوء الضغوطات الإسرائيلية والأميركية، التي وصلت حد التهديد بوقف المساعدات وفرض عقوبات على السلطة.

وتبقى الإشارة أخيرًا إلى ضرورة التنبه إلى أنه فيما لو افترضنا أنّ الدراسة الأولية أفضت إلى إصدار مكتب المدعية العامة قرارًا بفتح تحقيق جدي، سيبقى قائمًا خطر أن يقوم مجلس الأمن[6] بتأجيل أي تحرك للمحكمة الجنائية الدولية إلى أجلٍ غير مسمى بغية إنعاش المفاوضات أو ما يسمي "عملية السلام"، ما يتطلب توافر الجاهزية الفلسطينية لهذا الاحتمال.

ثانيًا: الخطوات والإجراءات التي قام بها مكتب الادعاء العام منذ بدء الدراسة الأولية

يتبين من خلال التقرير الخامس الصادر عن مكتب الادعاء العام الصادر بتاريخ 12/11/2015 [7]، والتقرير السادس[8] الصادر بتاريخ 14/11/2016، أن المكتب مستمر في تقييم ما إذا كانت هناك أسانيد مقبولة للاعتقاد بارتكاب جرائم تدخل ضمن ولاية المحكمة في فلسطين، وأنه عاكفٌ على استعراض المعلومات المتعلقة بالجرائم المزعومة المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية، بما فيها القدس، على يد "الجيش الإسرائيلي" و"الجماعات الفلسطينية المسلحة" على حدٍ سواء.

واستنادًا إلى المعلومات الواردة في تقارير مكتب الادعاء العام، دخلت الدراسة الأولية مرحلتها الثانية، التي يتعين فيها على المكتب أن يبين فيما إذا كانت هناك جرائم تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الموضوعي، وتحديدًا الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية التي تنص عليها المادتان السابعة والثامنة من نظام روما الأساسي. وبمراجعة التقريرين الخامس والسادس، يمكن إجمال أهم الخطوات التي قام بها مكتب المدعية العامة لدراسة الوضع في فلسطين بالآتي:

  • تلقى المكتب (86) بلاغاً وفقا للمادة 15 فيما يتعلق بجرائم مزعومة ارتكبت منذ 13/6/2014.
  • واصل المكتب عملية جمع واستعراض المعلومات المتاحة من مجموعة من المصادر الموثوق بها بشأن الجرائم التي ارتكبها كلا الطرفين في "نزاع غزة" العام2014 ، علاوة على بعض الجرائم التي يزعم أنها ارتكبت في الضفة الغربية و"القدس الشرقية" منذ 13/6/2014.
  • تابع عن كثب التطورات والأحداث ذات الصلة التي وقعت في المنطقة.
  • استعرض وراجع ما يربو على 320 تقريرًا، إضافةً إلى الوثائق ذات الصلة والمواد الداعمة.
  • أنشأ المكتب قاعدة بيانات شاملة تحتوي على ما يفوق 3000 من الحوادث المبلغ عنها والجرائم التي زُعِم ارتكابها خلال "نزاع غزة" العام 2014.
  • واصل العمل مع السلطات والمنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية من أجل معالجة طائفة من المسائل ذات الصلة بالدراسة الأولية، علاوةً على التماس معلومات إضافية على وجه التحديد لمواصلة تقييم جدية المعلومات التي في حوزته، وغير ذلك من المسائل ذات الصلة.
  • عقد اجتماعات عديدة مع مجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك الفلسطينية، وكذلك المنظمات الدولية.
  • اجتمع مع مسؤولين كبار وممثلين عن الحكومة الفلسطينية في مناسبات عدة، في تشرين الثاني 2015، وحزيران وأيلول 2016.
  • خلال الفترة المشمولة بالتقارير، بدأت حكومة فلسطين أيضًا في إرسال تقارير شهرية إلى المكتب تتضمن معلومات متعلقة بجرائم جرى ارتكابها حسب ما تفيد التقارير.
  • إرسال المكتب في آذار  2016بعثة إلى العاصمة الأردنية، عمان، حيث عقدت جولة من الاجتماعات على مستوى العمل مع ممثلي الحكومة الفلسطينية ومنظمات غير حكومية فلسطينية بشأن مختلف المسائل المتصلة بالدراسة الأولية الجارية.
  • قام خلال الفترة 5-10 تشرين الأول 2016 بزيارة إلى كل من إسرائيل والأراضي الفلسطينية، ويسرت السلطات الإسرائيلية والفلسطينية الزيارة، وأُجريت بدعم لوجستي من منسق الأمم المتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط. وكان الغرض من الزيارة هو الاضطلاع بأنشطة توعية وتثقيف بهدف التعريف بالمحكمة الجنائية، وخصوصًا أعمال المكتب، وذلك للتصدي لأي "تصورات خاطئة" بشأن المحكمة، إضافة إلى تقديم شرح عن عملية الدراسة الأولية.

ويدلل العرض السابق على أن مكتب الادعاء العام لم يتخذ طوال الفترة السابقة قرارات مهمة فيما يتعلق بالجرائم، ومدى اندراجها في اختصاص المحكمة الموضوعي، ومدى مقبولية التحقيقات التي قام بها الطرفان، الأمر الذي يشير إلى أن إحراز التقدم في هذا المجال موضع نظر، فانشغال مكتب الادعاء العام كما يظهر في التقريرين الخامس والسادس بالظهور في مظهر النزيه المحايد لم يُسفر عنه سوى تأخير الدراسة الأولية والتسبب في خروجه عن اختصاصاته فيما يتعلق بمسألة الدولة الفلسطينية، وهي مسألة استحوذت على تركيز المدعي العام أوكامبو السابق.

 وقد جاء إجراء عملية الفحص التمهيدي من مكتب الادعاء العام نتيجة سياسة المدعية العامة فاتو بنسودا، فيما يخص الرد على إعلانات قبول ولاية المحكمة، خاصة أن هذا التحرك جاء بشكل استثنائي، وقام على جواز قبول الدول اختصاص المحكمة، عن طريق تقديم إعلان بموجب المادة 12 فقرة (3) من نظام روما الأساسي. كما أن الإجراءات التي تمت حتى اللحظة، تظهر المحكمة كأنها منظمة دولية أخرى تخيب أمل الفلسطينيين بإحقاق العدالة[9] بسبب فشلها في اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل ومحاسبتها.

ولعل ما يعزز ما سبق ازدحام أجندة عمل مكتب الادعاء العام، حيث يشير تقرير عن الفترة المشمولة بالتقرير بين (1/11/2015 -31/10/2016)، بأنه قد افتتح فحصين أوليين حول الأوضاع في بوروندي والجابون. كما لا تزال ثماني حالات تخضع للفحص في كل من أفغانستان، وكولومبيا، وغينيا، العراق/المملكة المتحدة، فلسطين، نيجيريا، أوكرانيا، والوضع حول احترام السفن المسجلة في جزر القمر واليونان وكمبوديا.[10] الأمر الذي يعطي مؤشرًا على أن زمنًا طويلًا ينتظر الفلسطينيين قبل الانتهاء من الفحص الأولي، من دون ضمان فتح تحقيق جدي في جرائم الاحتلال.

ثالثا: التحركات والخطوات الفلسطينية في أعقاب الانضمام إلى المحكمة

يمكن إجمال أهم الخطوات الفلسطينية بالآتي:

إصدار مرسوم رئاسي بتاريخ 7/2/2015، يقضي بتشكيل اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية.[11] ووفقًا للمادة الثانية من هذا المرسوم، فإن اللجنة تتولى القيام بمهام إعداد وتحضير الوثائق والملفات التي ستقوم دولة فلسطين بتقديمها وإحالتها إلى المحكمة الجنائية من خلال لجنة فنية تترأسها وزارة الخارجية. كما أعطى المرسوم للجنة أن تقرر أولوياتها بهذا الخصوص، وسمح لها بالاستعانة بمن تراه مناسبًا، وتشكيل اللجان الفنية والقانونية المتخصصة، بحيث تكون اللجنة الوطنية العليا مرجعية لها.
بتاريخ 3/8/2015، قام وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، بتسليم المدعية العامة، وأعضاء مكتبها في مقر المحكمة، مذكرة قانونية تتضمن الانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وتشمل الانتهاكات الجسيمة التي اقترفتها سلطات الاحتلال خلال العدوان على قطاع غزة العام 2014، وجريمة الاستيطان المستمر في الضفة الغربية، وملف الانتهاكات بحق الأسرى في سجون الاحتلال. وبتاريخ 30/10/2015، سلم المالكي مذكرة تكميلية للمذكرة القانونية السابقة. كما سلمت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية خلال العامين 2015 و2016 ثلاث مذكرات إلى المحكمة.
بدأت الحكومة الفلسطينية خلال العام 2016 إرسال تقارير شهرية إلى مكتب المدعي العام تتضمن معلومات متعلقة بجرائم جاري ارتكابها، علاوةً على تطورات أخرى ذات صلة بالدراسة الأولية.

التعاقد مع مكتب محاماة يمثل فريقًا من الخبراء على المستوى الدولي لمدة خمس سنوات لمتابعة الإجراءات القانونية أمام الادعاء العام، والترافع أمام المحكمة الجنائية بالنيابة عن دولة فلسطين. وبلغت التكلفة المالية للتعاقد 5 ملايين دولار، حيث استعدت دولة قطر لتغطية التكاليف المالية.[12]
تشكيل لجنة تحقيق وطنية للبحث في كل الادعاءات بارتكاب المقاومة الفلسطينية انتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لتحقيق العدالة، وتجنب أن يكون الضحايا موضع إدانة، كون الدراسة الأولية التي تجريها المدعية العامة تشمل البحث فيما إذا كانت السلطات الوطنية قد نفذت تحقيقات أو بدأت ملاحقات قضائية في قضايا تحت نظر المحكمة، وذلك لضمان تطبيق مبدأ التكامل بين القضاء الوطني والمحكمة الجنائية. وعلى الرغم من عمل اللجنة للتحقيق في الانتهاكات الداخلية، إلا أن البيان الصادر عن لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن حرب غزة العام 2014، يشير إلى أن "المساءلة من الجانب الفلسطيني أيضاً غير كافية بالمرة".[13]

وعند تقييم الخطوات الفلسطينية والإجراءات المتخذة، يمكن تسجيل العديد من الملاحظات النقدية، على رأسها افتقار اللجنة الوطنية المشكلة إلى الخبرة العميقة، وآليات صنع القرار الواضحة والشفافة، إضافة إلى أن عمل اللجان فيها لا يزال يفتقر إلى المأسسة والرؤية الواضحة لمسار ما بعد الانضمام إلى المحكمة، وإلى المهنية والشفافية والتكامل في الأداء، في حين أن خطوط التواصل مع المواطنين الفلسطينيين مقطوعة بما يحول دون وضعهم في صورة الجهود المبذولة وآخر المستجدات.

 ولعل أبرز الانتقادات يتمثل بأن عملية تنفيذ التزامات دولة فلسطين بعد الانضمام إلى نظام المحكمة تسير على نحو بطيء ومرتبك، وهو أمر من شأنه أن يؤثر على سلامة المسار والأداء، إذ كان من المفترض بموجب خطة عمل اللجنة الفنية أن تدمج الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة ضمن التشريع الفلسطيني، وهذا ما لم يتم إنجازه حتى الآن، إضافة إلى صمت أعضاء اللجنة عن حقيقة تغييب دورهم، والتباطؤ الرسمي الفلسطيني، واستمرار سياسة الانتظار والتردد من قبل القيادة الفلسطينية، وتعامل البعض من أعضاء اللجنة باعتبار عضوية اللجنة تشريفًا أكثر منها تكليفًا وطنيًا[14]، وغياب أي تحرك جدي من أعضاء اللجنة يكسر حالة الصمت والتردد القائمة بشأن إحالة ملفات الاستيطان والأسرى والعدوان على قطاع غزة للمحكمة لضمان إطلاق مسار أكثر فاعلية في محاسبة الاحتلال.

وبالرغم من توصية اللجنة في 17/2/2017 بإحالة الملفات إلى المحكمة الجنائية، إلا أن تنفيذ ذلك لا يزال بانتظار قرار الرئيس، الذي لا يبدو قريبًا من اتخاذ مثل هذا القرار ارتباطًا بالضغوط والحسابات السياسية. وهنا لا مفر أمام اللجنة الوطنية سوى ممارسة الضغوط على الرئيس لاتخاذ قرار الإحالة في أقرب فرصة، وإلا سيبقى الضحايا الفلسطينيون أبعد ما يكونون عن الوصول إلى العدالة، في وضع تجري فيه التضحية بقيم العدالة وقواعد القانون الدولي بما يكرس إفلات مجرمي الحرب من العقاب.

غير أنّ أشدّ الانتقادات التي يمكن الإشارة إليها تتمثل فيما ورد ضمن تقرير مكتب جمعية الدول الأطراف ﰲ لنظام روﻣﺎ اﻷﺳﺎﺳـﻲ، الصادر بتاريخ 10/11/2016 [15]، حيث يمكن للمرء أن يدرك بسهولة أن هناك مسارًا فلسطينيًا مفقودًا وغير فعال، فلم يرد أي نشاط قامت به هذه الجمعية أو دعت إليه جهة فلسطينية رسمية أو غير رسمية يتعلق بالشأن الفلسطيني[16]، خاصة أن عددًا من العاملين في المحكمة أكدوا أن كندا سعت بالنيابة عن إسرائيل، والولايات المتحدة، لإطلاق حملة في جمعية الدول الأطراف لمنع انضمام فلسطين، ومع ذلك لم تذكر فلسطين إلا في إطار الحديث عن مصادقتها على تعديلات نظام روما الأساسي المتعلقة بجريمة العدوان، وعلى التعديلات التي أدخلت على المادة الثامنة من نظام روما.

والخلاصة أن السلطة الوطنية وطوال السنوات السابقة، اكتفت بالتعاطي مع مسار الدراسة الأولية، ولم تلجأ إلى فتح مسارات جديدة، على رأسها إحالة الملفات إلى المحكمة لضمان الفعالية والسرعة والإنجاز في مسار محاسبة قادة الاحتلال. 

رابعًا: الخطوات الإسرائيلية منذ إعلان بدء الفحص الأولي

 من المعروف أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لم تبد أية رغبة للتعاون مع المحكمة، ومع ذلك قامت بجملة من الإجراءات، منها: فتح تحقيقات بهدف حماية قادتها وجنودها من تحقيق محتمل للمحكمة، إدراكًا منها لكون القضاء الدولي قضاء مكملًا.

وبناء عليه، قرَّر مراقب الدولة في إسرائيل، القاضي يوسف شابيرا، في آب 2014 فتحَ تحقيق في عملية صنع القرار على المستويين العسكري والسياسي إبان العدوان على قطاع غزة صيف العام 2014، والذي يسمى إسرائيليًا عملية "الجرف الصامد"، مشيرًا  إلى "جوانب في القانون الدولي" و"آليات التحقيق التي تتبعها إسرائيل في الشكاوى والمطالبات المتعلقة بانتهاكات النزاع المسلح وفقًا للقانون الدولي والمبادئ التوجيهية المحددة لإجراءات التحقيق ."وفي 2/2/2015، أفادت وسائل الإعلام أن فريقًا قانونيًا من مكتب رئيس الوزراء، والجيش الإسرائيلي، ووزارات العدل والشؤون الخارجية والدفاع، يعكف على إعداد تقرير مشترك حول عملية "الجرف الصامد".

وقد أشارت الإحاطة الإعلامية الصادرة في جنيف بتاريخ 22/6/2015 عن لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن "النزاع في غزة" في العام 2014، إلى أنه يسود الإفلات من العقاب على كل المستويات عن الانتهاكات التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية في كل من الضفة والقطاع. كما عبرت لجنة التحقيق عن انزعاجها من قرار إسرائيل بغلق تحقيقها الجنائي في قضية قتل أربعة أطفال على الشاطئ في غزة يوم 16/7/2014. وأشار تقرير نشره المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل (مركز عدالة) ومركز الميزان لحقوق الإنسان في غزّة[17]، بتاريخ 30/8/2016، لمناسبة مرور عامين على عدوان 2014، إلى أنهما قدما 27 حالة بعد العدوان تتعلق باشتباه بالقيام بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي، ولكن لم يتم توجيه أية لائحة اتهام، وأن إسرائيل لم تقم بفحص أي من الحالات وفقًا للمعايير الدولية.

إن أية قراءة سريعة للأحكام القضائية الإسرائيلية تظهر مدى استهتار إسرائيل وقضائها بالقانون الدولي، فعلى سبيل المثال أصدرت محكمة إسرائيلية بتاريخ 12/8/2012 حكماً بالحبس لمدة 45 يومًا فقط بحق جندي إسرائيلي متهم بقتل أم وابنتها خلال العدوان على قطاع غزة نهاية العام 2008، وذلك بعد تعديل لائحة الاتهام بحق الجندي من القتل غير العمد إلى سوء استخدام السلاح بشكل غير مشروع! كما حاكمت إسرائيل وأدانت أربعةَ جنودٍ فقط في قضية سرقة بطاقات ائتمان.

وتظهر الأمثلة السابقة وغيرها الكثير هشاشة وتسييس القضاء الإسرائيلي، بما يعطي عشرات المبررات القانونية والمنطقية لمكتب المدعية العامة، لكي تصل إلى نتيجة واضحة بأن إسرائيل غير راغبة في تنفيذ تحقيقات موثوقة وحقيقية بشأن الحالة أو الحالات أو الوضع المعروض أمامها. وهذا أيضًا ما أكدته منظمة "هيومن رايتس ووتش"[18]، بقولها إن تاريخ المحاسبة على انتهاكات القوات الإسرائيلية ضعيف ومتواضع، وذات الأمر ذكرته المنظمات الحقوقية العاملة في فلسطين.

وفي نهاية المطاف، إذا أخفقت السلطات الإسرائيلية في إجراء تحقيقات تتطابق مع المعايير الدولية، يصبح الادعاء الدولي هو الفرصة الوحيدة للضحايا المدنيين في النزاع المسلح للحصول على حقوقهم. وفي مثل هذه الحالة، على مكتب المدعية العامة السير في التحقيق، أو على مجلس الأمن بالأمم المتحدة أن يحيل النزاع إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي[19].

في ضوء ما سبق، يجدر بالقيادة الفلسطينية والسلطة العمل السريع والجاد على تقديم كل الإثباتات المتوفرة لإظهار عدم جدية ومصداقية ونزاهة القضاء الإسرائيلي، الأمر الذي يبرهن عليه استمرار تنكر دولة الاحتلال لمعايير العدالة، إضافة إلى تقويض فرص وصول الضحايا وذويهم إلى إنصاف فعال، بما يضمن قناعة مكتب المدعية العامة بأن التحقيقات والإجراءات القضائية التي قامت بها دولة الاحتلال غير كافية لاستبعاد اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. 

خامسًا: الخيارات الراهنة أمام الفلسطينيين في محكمة الجنائيات الدولية

اختارت اللجنة الوطنية دعم الدراسة الأولية التي فتحتها المدعية العامة "من تلقاء ذاتها" في 16/1/2015 للحالة في فلسطين اعتبارًا من تاريخ 13/6/2014 وفقًا للإعلان المودع. وبناء على ذلك، قام الجانب الرسمي الفلسطيني بإيداع معلومات لمكتب الادعاء العام بالاستناد إلى المادة (15) من نظام المحكمة في ملفات ثلاثة أساسية هي: العدوان العسكري الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، وملف الاستيطان، وملف الأسرى.

 وهنا تثار مجموعة من الأسئلة أهمها: هل كان تصرف القيادة الفلسطينية باعتماد مسار الإجراءات الذي يختاره مكتب الادعاء العام بموجب المادة 12 فقرة (3) تصرفًا إجباريًا؟ وهل راعت القيادة ازدحام جدول مكتب المدعية العامة وعدم وجود إطار زمني يحكم عملية الفحص الأولي في ضوء السوابق التي رفض فيها فتح تحقيق بناء على الفحص الأولي؟ أم أنه كان من الأفضل الانتظار إلى حين اكتساب العضوية والسير بموجب المادة 14 من نظام روما؟

تنص المادة (14) على أنه يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب من المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.[20] هذا الأمر يتطلب من دولة فلسطين بموجب هذه المادة[21] بوصفها دولةً طرفًا في نظام روما، أن تحيل "وضعًا" دون اختيار حالات محددة، ويمكن أن يكون المضمون المُحال جديدًا، أو أن يحتوي على الإعلان الصادر في كانون الثاني 2015 بموجب المادة 12 فقرة (3).

ويعنى ذلك أنه يمكن للمدعي العام فتح تحقيق جدي بموجب المادة 14، بالتوازي مع الفحص الأولي الذي يقوم به بموجب المادة 12 فقرة (3) بحيث يصبح مسار الفحص الأولي منفصلًا عن أي إحالة قد تتقدم بها فلسطين كدولةٍ طرف. وفي هذه الحالة فإن التحقيق سيُفتح تلقائيًا وستكون الموافقة التمهيدية مطلوبة من أجل المضي قدمًا في التحقيق. وهذه واحدة من أهم الخطوات المتاحة أمام القيادة الفلسطينية لكسر رتابة التباطؤ والتأخير المتوقع لعملية الفحص الأولي التي قد تطول لسنوات، وربما تكون نتيجته رفض فتح التحقيق الجدي.

من غير المفهوم أو المقبول الاستمرار في دعم مسار الدراسة الأولية بعد أكثر من عامين ونصف دون أن يحصد الشعب الفلسطيني شيئاً ملموساً في مجال محاسبة قادة وجنود الاحتلال، أو تحقيق العدالة للضحايا. ورغم تفهم مبرر دعم السلطة لخيار الدراسة الأولية، باعتبار أن المدعية العامة هي من قامت به، لكن هذا المسار لا ينبغي أن يغلق مسار الإحالة، بل بالإمكان المضي في المسارين معًا.

سادسًا: خاتمة وتوصيات

تظهر الدراسة الموضوعية لمسار التعامل الفلسطيني مع المحكمة الجنائية بأن توجه القيادة الفلسطينية للمحكمة قبل الحصول على عضويتها يعد مسلكًا متسرعًا، إذ كان الأجدر انتظار اكتساب العضوية والسير بموجب المادة 14 من نظام روما. وكان يمكن لهذا الخيار أن يقلص المدى الزمني للفحص والدراسة الأولية التي يشرع فيها المدعي العام في كل الحالات، وفقا لشواهد دولية متعددة.

إن المسار الذي اعتمد فلسطينيًا عن طريق الدراسة التمهيدية، يعد طويلًا ومعقدًا جدًا، ولم تثبت الحياة والتطورات نجاعته، وقد لا يفضي إلى إجراء تحقيق جدي ومساءلة ومحاكمة قادة الاحتلال. كما لا تزال هناك مجموعة من التحديات التي تعيق التحقيق الجنائي في الجرائم التي وقعت في الأراضي الفلسطينية من قبل المحكمة، من أهمها:

  • سعي دولة الاحتلال الإسرائيلي والدول التي تدعمها لمنع المدعية العامة من استمرار التحقيق في الجرائم الإسرائيلية، عبر التلاعب بمعطيات التحقيقات الأولية، أو من خلال عمل محاكمات صورية، ومحاولة إسرائيل وحلفائها تركيز الفحص الأولي على قضية إطلاق المقاومة الفلسطينية صواريخ أصابت منشآت مدنية أو أشخاص مدنيين، إضافة إلى رفض التعاون مع المحكمة، وإعاقة ومنع وصول المحققين التابعين للمحكمة إلى مسرح الجريمة ومقابلة الشهود والضحايا، وعدم تسليم المستندات والتسجيلات المطلوبة، وعدم السماح للمحققين بمقابلة عسكريين وضباط وأشخاص محددين.
  • استمرار تداعيات الانقسام الداخلي الفلسطيني الذي يعيق قدرة النظام القانوني على التدخل وإجراء تحقيقات في جرائم دولية مزعوم ارتكابها على أراضي السلطة من قبل مواطنيها أو من قبل الغير، إذ أثر الانقسام سلبًا على وحدة الجهاز القضائي، وعطل عمل المجلس التشريعي، وأضعف القدرة القانونية والقضائية، سواء من حيث إدماج اتفاقيات جنيف الأربعة ونظام روما في القانون المحلي، أو غياب قانون موحد لملاحقة الجرائم الدولية، وعدم توفير الموازنات الكافية.
  • عدم التحلل من التزامات اتفاق أوسلو، وخاصة فيما يفرضه من عدم قدرة القضاء الفلسطيني على محاكمة الإسرائيليين، رغم التطور في مكانة دولة فلسطين في الأمم المتحدة وانضمامها إلى الاتفاقيات الدولية التي تعد أسمى من الاتفاقيات الثنائية، واستمرار الخلط بين المنظمة والسلطة، وعدم مراعاة أن المنظمة تمثل الشعب الفلسطيني خارجيًا، وأن قادتها يمثلون الدولة في علاقاتها الدولية[22]، في حين أن السلطة أُنشئت بموجب اتفاق أوسلو، وتخضع للإكراه السياسي والظرفي من جانب الاحتلال الإسرائيلي.
  • عدم التريث والفحص الجيد قبل تشكيل اللجنة الوطنية العليا، حيث طغى على تشكيلها البعد السياسي، بدلاً من القانوني والحقوقي.
  • استمرار نقص المعرفة فيما يتعلق بوضع وسيرورة الدراسة الأولية والإجراءات الواجب اتباعها أمام المحكمة الجنائية، وضعف العلاقة وتداول المعلومات بين اللجنة الوطنية العليا وعموم المواطنين، وبخاصة الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وعدم تنظيم آليات للتواصل وتداول المعلومات، وضعف متابعة وعمل اللجنة الوطنية المشكلة والحكومة لتجنيد حلفاء دوليين لحمل المحكمة على القيام بدورها في إطارات زمنية معقولة.

وعلى الرغم من كافة التحديات التي سبقت الإشارة إليها، لا يزال الأمل معقودًا على المحكمة في أن تحاسب مرتكبي الجرائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، دون تجاهل المؤشرات الكثيرة والتحديات المتعددة التي تؤكد أن الوصول إلى ذلك قد يستغرق سنوات عديدة حتى يتحقق على أرض الواقع. لذلك بات من الضروري أن تعمل القيادة الفلسطينية على: 

  • التحرك القانوني والديبلوماسي الجاد بموجب المادة 14 من نظام روما الأساسي، بوصفها دولةً طرفًا فيه، وأن تحيل "وضعًا" دون اختيار حالات محددة، بالتوازي مع تقديم المزيد من المعلومات الإضافية والنوعية، واستكمال إجراء التحقيقات الوطنية، وتقديم دراسة قانونية كاملة حول صورية القضاء والتحقيقات القضائية الإسرائيلية، وذلك لضمان الانتهاء السريع من الدراسة التمهيدية التي يجريها مكتب المدعية العامة، وهذا يعود لكون دولة فلسطين ليس من حقها التراجع عن مضمون الإعلان الأول المؤسس بموجب المادة 12 فقرة (3).
  • السعي القانوني والديبلوماسي للحصول على قرار من المدعية العامة بمعاملة الإعلان الفلسطيني الأول الصادر بموجب المادة 12 فقرة (3) على أنه منفصل عن أي إحالة قد تحيلها فلسطين كدولةٍ طرف بعد الأول من نيسان 2015، وبالتالي فإن التحقيق سيُفتح تلقائيًا وستكون موافقة الدائرة التمهيدية مطلوبة من أجل المضي قدمًا في التحقيق.  
  • بناء توجهات إستراتيجية تتكامل فيها الأدوار لضمان الوصول إلى مستوى مميز من العمل مع كل الفاعلين في ملف المحكمة الجنائية الدولية، وتطوير مسار العمل مع جمعية الدول الأطراف ﰲ لنظام روﻣﺎ اﻷﺳﺎﺳـﻲ، والتحالفات الدولية غير الحكومية المعنية بعمل المحكمة الجنائية الدولية، وتفعيل اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية ورفدها بكفاءات قانونية فلسطينية في مجال القانون الدولي، لتعزيز الفرص أمام وصول الضحايا إلى الإنصاف القانوني والقضائي.
  • بناء إستراتيجية وطنية متكاملة لمسار محاسبة الاحتلال الإسرائيلي مستندة بشكل رئيسي إلى الحقوق، ومن دون تسييس للعدالة المستحقة لضحايا الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، أو مساومة عليها، لأن تحقيق العدالة يجب أن يكون غاية في حد ذاته، على أن تشمل هذه الإستراتيجية تفعيل كافة مسارات المحاسبة باستخدام مبدأ الولاية القضائية الدولية في الدول الذي يتيح قضاؤها ذلك، بما في ذلك تهيئة القضاء الفلسطيني لهذا المسار باعتبار فلسطين باتت طرفًا تعاقديًا في أحكام اتفاقيات جنيف، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية بصفتها محكمة ذات اختصاصين، استشاري وقضائي، استفادة من سابقة إقليم كسوفو، وتفعيل كافة الآليات الدولية الأخرى لضمان تشجيع، وتخفيف العبء عن كاهل المدعية العامة والمحكمة.
  • حشد كل الطاقات والخبرات الوطنية الدولية والمؤسسية والشعبية من أجل التحرك بصورة مستقلة على صعيد المحكمة، مع تطوير التدخلات غير الرسمية والأهلية، الفلسطينية والدولية، وبخاصة عبر الأجسام غير الحكومية المعنية بالمحكمة، ومع كل الفاعلين لضمان الوصول إلى هدف محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحكمة تحقيقًا للعدالة وإنصافًا للضحايا.
  • تفعيل دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني الحقوقية في مراقبة عمل اللجنة الوطنية والسلطة، من أجل الضغط لتحسين الامتثال الفلسطيني وفقًا للالتزامات المرتبة على دولة فلسطين بموجب ميثاق روما والاتفاقات الدولية، من خلال إدماج الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة ضمن قانون العقوبات الفلسطيني، وإنهاء حالة الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، بما يضمن تفعيل عمل المجلس التشريعي ووحدة واستقلالية القضاء وفاعلية منظومة العدالة الفلسطينية. 

الهوامش

[1] فالنتينا أزاروف، فلسطين في المحكمة؟ التداعيات غير المتوقعة للتقاضي أمام المحكمة الجنائية الدولية، شبكة السياسات الفلسطينية، 1/4/2015. https://goo.gl/jLZWpE

[2] أنيس فوزي قاسم، الخيارات التي يتيحها القانون الدولي لفلسطين، مؤتمر القانون والسياسية، معهد الحقوق في جامعة بيرزيت، 2013.

 http://lawcenter.birzeit.edu/lawcenter/files/45.pdf

[3] القرار بإحالة ملف الاستيطان الإسرائيلي لـ"الجنائية الدولية"،جريدة "الأيام" الفلسطينية، 25/9/2017،

http://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=1249ace5y306818277Y1249ace5

[4] تنص الفقرة (3) من المادة 12 من نظام روما على "إذا كان قبول دولة غير طرف في هذا النظام الأساسي لازمًا بموجب الفقرة 2، جاز لتلك الدولة، بموجب إعلان يودع لدى مسجل المحكمة، أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث. وتتعاون الدولة القابلة مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقًا للباب التاسع.

[5] تنص المادة 53: أن يشرع المدعي العام في التحقيق، بعد تقييم المعلومات المتاحة له، ما لم يقرر عدم وجود أساس معقول لمباشرة إجراء بموجب هذا النظام الأساسي، ولدى اتخاذ قرار الشروع في التحقيق ينظر المدعي العام في: (أ) ما إذا كانت المعلومات المتاحة للمدعي العام توفر أساسًا معقولًا للاعتقاد بأن جريمة تدخل في اختصاص المحكمة قد ارتكبت أو يجري ارتكابها؛ (ب) ما إذا كانت القضية مقبولة أو يمكن أن تكون مقبولة بموجب المادة 17؛ (ج) ما إذا كان يرى، آخذًا في اعتباره خطورة الجريمة ومصالح المجني عليهم، أن هناك مع ذلك أسبابًا جوهرية تدعو للاعتقاد بأن إجراء تحقيق لن يخدم مصالح العدالة. فإذا قرر المدعي العام عدم وجود أساس معقول لمباشرة إجراء وأن قراره يستند فحسب إلى الفقرة الفرعية (ج) أعلاه، كان عليه أن يبلغ الدائرة التمهيدية بذلك.

[6] قرابة ثلاثة أشهر من الزمان، كانت كافية لأخذ المدعي العام قراره بفتح تحقيق في قضية دارفور في السودان.

[7] للاطلاع على نسخة كاملة من التقرير، اضغط على الرابط https://www.icc-cpi.int/iccdocs/otp/OTP-PE-rep-2015-Eng.pdf

[8] للاطلاع على نسخة من التقرير، أضغط على الرابط https://www.icc-cpi.int//Pages/item.aspx?name=pr1252

[9] ساره قنبر، المحكمة الجنائية الدولية وفلسطين ... عدالة مشكوك في إحقاقها، مقال منشور على موقع شبكة السياسات الفلسطينية، 1/7/2016.

https://goo.gl/PgowPJ

[10] للمزيد من التفاصيل، اضغط على الرابط https://www.icc-cpi.int

[11] مرسوم رئاسي بتشكيل اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن المتابعة مع 'الجنائية، وكالةالانباء الفلسطينية (وفا)، 7/2/2015.

 http://www.wafa.ps/ar_page.aspx?id=E6745da658887180864aE6745d

[12] موقع مدنية رام الله الإخباري مقابلة مع د. عصام عابدين، مؤسسة الحق. http://ramallah.news/post/24787

[13] للاطلاع على الإحاطة الإعلامية عبر هذا الرابط

http://www.ohchr.org/AR/NewsEvents/Pages/DisplayNews.aspx?NewsID=16119&LangID=A

[14] زهير الشاعر، اللجنة الوطنية وملف محكمة الجنائيات الدولية، موقع فلسطين، 18/1/2016.

http://www.falasteen.com/spip.php?article826

[15] تبنت الجمعية في العام 2006 خطة عمل لتحقيق الشمولية والتنفيذ الكامل لنظام روما الأساسي .. القرار ICC-ASP/5/Res.3

[16] يشارك الوفد الفلسطيني وممثلون من المجتمع المدني في اجتماعات الجمعية العامة، وقد ذكر الوفد في واحد من الاجتماعات الأخيرة إن تعامل المحكمة مع قضية فلسطين سيشكِّلُ اختبارًا مهمًا لها، خاصة في ضوء فشل المفاوضات، واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان الموثقة في تقارير المنظمات غير الحكومية الدورية.

[17] للمزيد من الإيضاحات http://www.mezan.org/

[18] الإفلات من العقاب على انتھاكات قوانين الحرب أثناء حرب غزة، موقع هيومن رايتس ووتش ، 11/4/2010.

https://www.hrw.org/ar/report/2010/04/11/256059

[19] على المحكمة الجنائية الدولية التحقيق رسميا في الجرائم في فلسطين، موقع هيومن رايتس ووتش، 5/6/2016.

https://www.hrw.org/ar/news/2016/06/05/290636

[20] مع العلم أنه يمكن لمدعية المحكمة الجنائية الدولية – دون طلب من دولة عضو بالمحكمة أو من مجلس الأمن – أن تسعى لفتح تحقيق بمبادرة منها، لكن تحتاج إلى تصريح من الدائرة التمهيدية بالمحكمة، وعلى سبيل المثال فقد تحرك الادعاء بمبادرة منه في قضايا في كل من كينيا وكوت ديفوار وجورجيا.

[22] فالنتينا أزاروف، مصدر سابق.

مشاركة: