الرئيسية » هاني المصري »   08 تشرين الأول 2014

| | |
التحديات والفرص بعد العدوان الإسرائيلي
هاني المصري

بعد أن وضع العدوان الإسرائيلي أوزاره، اتّضح أنّ المخاطر السياسيّة بعده لا تقل عن المخاطر أثناءه.  فالتنصل الإسرائيلي واضح من تطبيق اتفاق "وقف إطلاق النار" الذي كان مبدئياً وليس نهائياً، واقتصر على إعلان من وزارة الخارجيّة المصريّة من دون وثيقة رسميّة موقّع عليها، فهذا الاتفاق لم يحقق جميع المطالب الفلسطينيّة، لكنه تضمن جزءاً منها، وبخاصة وقف العدوان، والبدء في الإعمار، وتخفيف الحصار، وفتح المعابر ما بين غزة وإسرائيل.  أما رفع الحصار كلياً وفتح المعابر وإعادة بناء الميناء والمطار وتشغيلهما، وإطلاق سراح الأسرى، فقد تم تأجيلها إلى مفاوضات لاحقة، عقدت أولى جلساتها الثلاثاء الماضي على أن تستأنف أواخر الشهر القادم، من دون تحديد سقف زمني لنهايتها.

ماطلت إسرائيل –كعادتها دائماً- في تطبيق ما تم الاتفاق عليه، وقامت بانتهاكات لا حصر لها، وأعلنت على لسان عاموس جلعاد، عضو الوفد الإسرائيلي للمفاوضات، رئيس الهيئة السياسية والأمنية في وزارة الحرب، أنه ليس هناك نيّة إسرائيليّة للاستجابة للمطالب الفلسطينيّة، وأن الوفد الإسرائيلي سيماطل في المفاوضات، وذَكَرَ أن الاتفاق على عقدها لم يحدد جدولاً زمنياً لها.

إذا أخذنا المقدمات المتراكمة والتجربة الطويلة العريضة عن السلوك الإسرائيلي في المفاوضات، فمن المتوقع أن تحاول إسرائيل أن تحقق في المفاوضات ما عجزت عن تحقيقه في الحرب والعدوان، مستغلة الحاجات الإنسانيّة الملحّة والأوضاع الصعبة الناجمة عن العدوان، الذي خلف أكثر من 2155 شهيداً، و11 ألف جريح، وتدمير حوالي 17 ألف منزل بشكل كلي، و40 ألفاً بشكل جزئي، إضافة إلى تدمير مئات المساجد والمدارس والمؤسسات الصحيّة والتعليميّة والمجتمعيّة.

كما ستحاول إسرائيل توظيف الخصومة بين مصر و"حماس" في محاولة لتوسيع الفجوة، والمضي قدماً في رمي قطاع غزة في حضن مصر، والتنصل من المسؤوليات الإسرائيليّة عنه، والمترتبة على إسرائيل بوصفها لا تزال وفقاً للقانون الدولي دولة محتلة للقطاع، لأنها لا تزال تمارس كل أنواع التأثير عليه، من خلال الحصار البري والبحري والجوي، والتوغلات المستمرة، والاعتداءات المتواصلة.

كذلك ستوظف حكومة نتنياهو تجدد تبادل الاتهامات والتراشق الإعلامي بين الفريقين المتنازعين في الساحة الفلسطينيّة، من أجل تحميل الفلسطينيين المسؤوليّة عن عدم استئناف المفاوضات، وتعذر الوصول إلى اتفاق سلام، بحجة عدم وجود شريك فلسطيني، وعن مسؤولية الحرب وعدم تطبيق وقف إطلاق النار، وعدم رفع الحصار والشروع في إعادة الإعمار.

إن الخلافات الفلسطينيّة – الفلسطينيّة المتجددة والمتصاعدة تنذر بالعودة إلى مربع الانقسام، ويمكن أن تؤثر على أداء المفاوض الفلسطيني في المفاوضات غير المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية مصريّة في القاهرة.  كما أن المفاوضات في ظل هذه الأوضاع، يمكن أن تكون مفاوضات للمصالحة بين الأطراف الفلسطينيّة قبل أن تكون مفاوضات بينها وبين الإسرائيليين؛ لذا لا بد من الاتفاق على رؤية فلسطينيّة واحدة تحدد الأهداف الفلسطينيّة، وما يمكن تحقيقه، وكذلك إعادة تشكيل الوفد الفلسطيني بصورة تجعله قادراً على تحقيق هذه الأهداف.

الموقف الإسرائيلي واضح جداً، وهو عدم تمكين المقاومة من إحراز أي إنجاز سياسي، وربط أي تقدم حقيقي وجوهري بتحقيق الشروط الإسرائيليّة المتعلقة بسحب سلاح المقاومة، أو بضمان عدم تمكينها من تعويض خسائرها وتجديد قواها وتطويرها؛ لذا ربطت إسرائيل فتح المعابر وتخفيف الحصار وإعادة الإعمار بوجود مشاركة ورقابة إسرائيليّة ودوليّة، وأن تكون عبر السلطة التي يمثلها الرئيس "أبو مازن"، مع أن عودة السلطة إلى غزة ليست محل اتفاق داخل الحكومة الإسرائيليّة، فهناك وزراء لهم مؤيدون في كل القطاعات، بما فيها الأمنيّة والعسكريّة، لا يريدون عودة السلطة وتقويتها، لأنها لا تلبي كل مطالب إسرائيل، وتستخدم أشكالاً من المقاومة الشعبيّة والسلميّة، وتهدد بتسليم "مفاتيح السلطة" ووقف التنسيق الأمني، واللجوء إلى الأمم المتحدة والانضمام إلى مؤسساتها، وبخاصة محكمة الجنايات الدوليّة، وطلب الحماية الدوليّة.  كما تخشى إسرائيل من أن عودة السلطة يمكن أن تقوي الموقف الفلسطيني، وتساعد على إنهاء الانقسام الذي يعتبر مثل "الدجاجة التي تبيض ذهباً" لإسرائيل، ولا تريد التفريط بها في أي حال من الأحوال.

إضافة إلى ما سبق، تريد إسرائيل –كما جاء في توصية رُفعت إلى الحكومة من قبل الأجهزة الأمنيّة– تخفيف الحصار؛ حتى لا يؤدي استمراره إلى عودة الحرب بصورة اضطراريّة من دون رغبة، حتى من فصائل المقاومة الفلسطينيّة، ولاحظنا أن الحكومة الإسرائيليّة، متذرعة بكل ما سبق، تحاول تأجيل عقد المؤتمر الدولي حول الإعمار قدر ما تستطيع، أو عقده وإفراغه من مضمونه، أو إفشاله بسبب انقسام الفلسطينيين وتنازعهم، أو بسبب سلاح المقاومة، أو لأن الدول المانحة لا تريد إعادة الإعمار في القطاع، كونها تعلم أنه سيتم تدميره مجدداً.

كما تريد إسرائيل أيضاً أن تكون بضائعها مصدراً رئيساً من مصادر المواد التي ستستخدم في إعادة الإعمار، فإسرائيل التي دمرت طائراتها وصواريخها ومدافعها القطاع، تريد أن تساهم مساهمة رئيسيّة في إعادة إعماره، إذ يصبح تدمير القطاع وإعادة إعماره تجارة إسرائيليّة رابحة، الأمر الذي يشجعها على إعادة تدميره من جديد، وبالتالي يجب بذل كل الجهود لمنع مساهمة إسرائيل في إعادة الإعمار لأسباب أخلاقيّة وقانونيّة وسياسيّة واقتصاديّة ووطنيّة.  فالمطلوب ملاحقة إسرائيل لمعاقبتها على جرائم الحرب التي ارتكبتها، وتعزيز المقاطعة الشاملة لها، وعزلها وفرض العقوبات عليها، وليس مكافأتها والتعامل معها وكأنها دولة عاديّة وصديقة.

لا تريد حكومة نتنياهو عودة السلطة إلى قطاع غزة إلا بقدر ما تؤدي عودتها إلى رمي القطاع في حضن مصر وتأجيج الانقسام، وبالتالي منع عودة السلطة الفعليّة، وبقدر ما تستفيد من هذه العودة على كل المستويات والصعد، بما في ذلك، بل أهمُّه، منع إطلاق عمليّة سياسيّة جديدة متجاوزة التزامات "أوسلو" المجحفة، وما سمي "عمليّة السلام" التي لا يربطها بالسلام إلا الاسم، بل هي ساعدت وغطّت على كل ما من شأنه جعل السلام مستحيلاً.

حاول الرئيس "أبو مازن" في مسعى منه لكسر هذه الحلقة الجهنميّة –على الرغم من هجومه غير المبرر على "حماس" الذي رافقه قدر كبير من الافتعال- الاستفادة من إنجازات الصمود والمقاومة والوحدة التي تجسدت أثناء العدوان، ومن الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وما أدى إليه ذلك كله من عودة القضيّة الفلسطينيّة إلى الصدارة، واتضاح حقيقة الصراع والدور الاستعماري الاستيطاني العنصري لإسرائيل، وحقيقة ما ارتكبته من جرائم ضد الإنسانيّة؛ وذلك من خلال طرح مبادرة سياسيّة تسرّع في التوصل إلى اتفاق سلام، وتقوم مبادرة الرئيس على مراحل عدة:

المرحلة الاًولى، إعطاء فرصة للإدارة الأميركيّة لاستئناف المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة، على أساس الاتفاق على مرجعيّة تستند إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على حدود 67 ومبدأ "تبادل الأراضي" سيئ الصيت والسمعة، ضمن جدول زمني قصير متفق عليه.  وهذه المرحلة يمكن أن تستمر من ثلاثة إلى أربعة أشهر.

المرحلة الثانية، وتبدأ في حال موافقة الإدارة الأميركيّة وإسرائيل على المرجعيّة التي يقترحها الرئيس، وبناء على ذلك تقوم إسرائيل بتجميد الاستيطان وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، وتستمر المفاوضات لمدة تسعة أشهر، تركز الأشهر الثلاثة الأولى على الحدود، بينما تتناول الأشهر الستة المتبقية بقيّة قضايا الوضع النهائي: القدس، الأمن، الاستيطان، اللاجئين، الأسرى، المياه.

المرحلة الثالثة، في حال عدم موافقة الإدارة الأميركيّة وإسرائيل على المبادرة؛ يتوجه الرئيس إلى مجلس الأمن، في محاولة للحصول على قرار بتجسيد الدولة الفلسطينيّة على حدود 67 خلال فترة زمنيّة محددة.

وبالفعل، رفض جون كيري، وزير الخارجيّة الأميركيّ، مبادرة الرئيس، واعتبرها خطوة أحاديّة الجانب، وذلك أثناء لقائه وفداً فلسطينياً ضم صائب عريقات وماجد فرج في واشنطن، وهدد باستخدام إدارة أوباما الفيتو ضدها إذا طُرِحت على مجلس الأمن.  وطلب كيري فترة لدراستها لكي يضمن إضاعة المزيد من الوقت وعدم توجه الرئيس إلى مجلس الأمن، وإلى الخيارات التي يهدد بها، ناصحاً بوضع القضيّة الفلسطينيّة في هذه الفترة بالثلاجة لوجود قضايا عاجلة لها الأولويّة الآن، أهمها الحرب الدوليّة على الإرهاب، التي تتركز في هذه الفترة على "داعش"، وتهدف في الحقيقة إلى إعادة رسم المنطقة وتقسيمها وتوزيعها على أساس المعطيات الجديدة التي تتكاثر في السنوات الأخيرة، ولأن الإدارة الأميركيّة مشغولة بانتخابات الكونجرس النصفيّة التي ستعقد في شهر تشرين الثاني القادم، إضافة إلى أن الفلسطينيين مشغولون برفع الحصار وإعادة الإعمار وعودة السلطة إلى قطاع غزة.

مبادرة الرئيس كانت ستكون جيدة لو لم تتضمن الرهان مجدداً على الإدارة الأميركيّة المنحازة جوهرياً لإسرائيل، ولو كانت جزءاً من مقاربة شاملة جديدة تسعى إلى استنهاض كل عناصر القوة، ومبنيّة على أساس إعطاء الأولويّة لتحقيق الوحدة استناداً إلى أجندة وطنيّة متفق عليها، وشراكة حقيقيّة على مستوى صنع القرار الوطني في إطار منظمة التحرير، وعلى مستوى السلطة من خلال حكومة فلسطينية قوية تمثل الجميع، وقادرة على أداء مهماتها والالتزام بواجباتها تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، إلى جانب التوافق على استراتيجيات قادرة على تغيير ميزان القوى، بما يكفل تحقيق الأهداف الوطنيّة، ومن دون تأجيل خطوات عاجلة ملحّة بحجة إعطاء الإدارة الأميركيّة فرصة، وإعطاء مجلس الأمن الدولي بعد استنفاد الفرصة الأولى فرصة ثانية، ما يشكل إضاعة للوقت الثمين في ظل الزخم الذي أحدثه العدوان والمعرّض للاندثار إذا لم تتم المحافظة على قوة الدفع.

المطلوب –وهو أفضل مليون مرة مما يجري حتى الآن- عدم الرهان مجدداً على المفاوضات الثنائيّة والرعاية الأميركيّة الانفراديّة، وعدم الذهاب إلى مجلس الأمن إلا بعد أن يكون الفلسطينيون مسلحين بوحدة حقيقيّة، على أساس هدف واقعي يمكن تحقيقه، ومقاومة ومقاطعة فعّالة، ودعم عربي ودولي، وبعد التوقيع على كل الاتفاقيات الدوليّة، والانضمام إلى الوكالات الدوليّة كافة، بما فيها، وعلى رأسها محكمة الجنايات الدوليّة، وتفعيل كل القرارات الدوليّة المناصرة للقضيّة الفلسطينيّة، وبخاصة الفتوى القانونيّة لمحكمة لاهاي، وتقرير "غولدستون"، وقرار الدولة المراقبة، وبعد الحصول على قرارات جديدة عبر الجمعيّة العامة للأم المتحدة تطالب بمحاكمة إسرائيل على جرائمها الاستيطانيّة وغيرها؛ ما يرسل رسالة واضحة جداً إلى الأميركان والإسرائيليين والعالم كله؛ بأن الفلسطينيين جادّون بتغيير قواعد اللعبة وعمل كل ما يلزم لدحر الاحتلال وتجسيد الدولة.

يحضرني في هذه المرحلة الدقيقة تاريخ الصراع الطويل العريض ضد المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، وكيف أنه لم يكن تاريخاً من الهزائم فقط، وإنما شهد بطولات وانتصارات في ثورة الثلاثينيات التي شهدت أطول إضراب في التاريخ، ومعركة الكرامة 1968، وصمود بيروت في العام 1982، وحرب أكتوبر 1973، والانتفاضتين الأولى والثانيّة (1987 و2000)، ومواجهة العدوان الإسرائيلي لثلاث مرات في السنوات الست الماضية.  على الرغم من كل هذه الانتصارات، فإننا حصدنا هزائم، لأن الانتصارات العسكريّة وتلك التي حققتها المقاومة الشعبيّة لم تجد الأداء السياسي المتناسب معها، وأدت إلى هزيمة المنتصر، أو في أحسن الأحوال إلى تحقيق إنجازات وانتصارات أقل، أو ليست بمستوى البطولات والتضحيات والانتصارات.  فهل نستوعب الدرس قبل أن يتحول انتصار الفلسطينيين الأخير في غزة إلى هزيمة؟

مشاركة: