ملخص
يدرس هذا البحث تجليات الحراكات الشبابية الفلسطينية منذ العام 2011، ولكن من أجل فهم السياق التاريخي، وإدراك خلفيات المشهد الراهن، تمت دراسة الحركات الشبابية منذ مطلع القرن العشرين.
تقوم الفكرة الأساسية للبحث على وجود تحول في نمط العمل الشبابي مما يسمى "الحركة" إلى "الحراك"، لكن هذا التحول يبدو أنه بلغ مداه، وهناك إرهاصات للبحث عن أشكال أقرب للحركة. ويتضمن نمط الحركة تبني القائمين عليها مشروعاً وطنياً شاملاً، ويأتي هذا، أحياناً، في حالات الفراغ السياسي والشعور بعدم وجود قيادة وأطر سياسية فاعلة تعمل على تطوير برامج ومواقف قادرة على مواجهة التحديات الخارجية، واستقطاب التأييد الشعبي. ومن الأمثلة على ذلك، تأسيس مؤتمر الشباب الفلسطيني في الثلاثينيات والذي نشأ بعد حالة الشلل التي أصابت المؤتمر العربي الفلسطيني، الذي كان أشبه ببرلمان وقيادة فلسطينيين. وهو ما تجسد، أيضاً، في رابطة طلبة فلسطين، في القاهرة مطلع الخمسينيات، ومجموعات الطلبة التي نشطت تحت اسم جمعية العروة الوثقى في الجامعة الأميركية في بيروت، ونتج عن الأولى حركة التحرير الوطني الفلسطيني، "فتح"، وعن الثانية حركة القوميين العرب، التي انبثقت عنها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
عندما لم تكن هذه الحركات الشبابية مقدمة لمشروع وطني شامل، نتيجة وجود فراغ، فإنها شكلت ذراعاً لفصائل أو أحزاب تعلن امتلاك مشروع وطني عام، وتستقطب تأييداً شعبياً على أساسه، وهو الوضع الذي ساد في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته، عندما أسست الفصائل الفلسطينية أذرعها وكتلها الطلابية والشبابية، التي انتظمت، أيضاً، وتحالفت وتنافست داخل الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي شكّل إطار عمل مهم، وناشط في بلدان الشتات الفلسطيني المختلفة.
بدأت في العالم مع مطلع تسعينيات القرن العشرين ظاهرة "الحراكات"، وهي عبارة عن موجات من الاحتجاج والنشاط الجماهيري، المفتقر للأيديولوجيا إلى حد كبير، وغير المرتبطة بالأحزاب، التي تؤمن بالعمل المباشر في الشارع لتحقيق هدف ما، مع ترك تطورات الحدث في الميدان توجه دفة الأمور، دون خطط ومطالب وبنى معدة مسبقاً، ودون قيادات واضحة للحراكات. ومع نهاية الحرب الباردة، وسقوط الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الاشتراكي، وما تبع ذلك من ظاهرة العولمة الرأسمالية، ووسائل التواصل الإلكترونية التي منحت الأفراد قدرات عالية، أو -على الأقل- الإحساس بالقدرة العالية، على الفعل، والتواصل، لم تتراجع قوة ومركزية دور الدولة في العالم وحسب (على الأقل هكذا بدت الأمور لعدد من السنوات)، بل تراجعت أهمية الأحزاب، والفصائل، والقوى المنظمة، ودورها وجاذبيتها، وهو ما سيقدم هذا البحث شواهد عليه.
كانت الحالة الفلسطينية في التسعينيات استثناءً إلى حد كبير من الاتجاه العالمي لضعف السلطات والقوى المركزية، وذلك لأن هذا العِقد شهد عملية بناء السلطة الفلسطينية بعد اتفاقيات السلام المؤقتة الانتقالية، وكان مخطط قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أو رهانها، تحول هذه السلطة إلى دولة، لذلك زاد التركيز على الفعل الرسمي (الحكومي) والبيروقراطي، بدل الفعل الشعبي غير الرسمي، ما أدى إلى حالة من "اللاتسييس" (أي ابتعاد الشباب عن العمل السياسي المباشر المؤطر ضمن منظمات ووفق رؤى فكرية وأيديولوجية)، وأدى إلى انهيار كثير من المنظمات الشبابية والطلابية والشعبية الفلسطينية حول العالم، بما في ذلك الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي توقفت انتخاباته منذ العام 1990، وتلاشت الغالبية العظمى من فروعه حول العالم.
تراجعت حالة تهميش دور الشباب ودور المبادرات الشعبية عندما جاءت انتفاضة الأقصى العام 2000، ولكن أدت عوامل، من بينها السياسات الإسرائيلية، إلى عسكرتها، ما أدى إلى التركيز على المقاومة العسكرية كرد على الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية. وعلى الرغم من عودة حالة المقاومة المسلحة، وبالتالي عودة درجة من درجات التسييس، بين العامين 2000 - 2005، فإنّ النشاط المدني الشعبي، وكنتيجة لحالة العسكرة والقمع الإسرائيلي الشامل، لم يبدأ بالظهور فعلياً إلا مع نهايات تلك الانتفاضة نحو العام 2004- 2005.
كانت ثورات الربيع العربي في تونس ومصر، العامين 2010 و2011، نقطة بارزة في مشهد الشارع الشبابي الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، بأشكال وطرق متفاوتة، وبشكل عام، انتشر استخدام تعبير الحراك في الساحة الفلسطينية.
يمكن تتبع وتحليل مجموعة سمات للحراكات، تختلف عن الحركات. أولاها، أنه على الرغم من أن جزءاً من ظهور الحراكات جاء تعبيراً عن شعور بالفراغ السياسي (عدم وجود عمل مؤطر جاذب) وعدم قدرة البنى السياسية الراهنة على القيام بأعباء المشروع الوطني، فإنّ الحراكات جاءت تتحرك لأجل هدف محدد ومحدود، آني يبرز في لحظة معينة، مع توقع أنّ يؤدي تحقيق هذا الهدف (إنهاء الانقسام مثلاً) إلى تغيير في مجمل مكونات المشهد السياسي، وبالتالي سيحدث تغيراً إيجابياً، تتحدد معالمه لاحقاً، بعكس الحركات والأطر التي عملت في القرن العشرين، مع تصور واضح -إلى حد كبير- للمستقبل ومتطلباته، بل مع تصورات لكيفية تكامل العمل الفلسطيني مع سياقات عربية وعالمية أوسع.
وكذلك كان تركيز الحراكات على ما ترفضه، أكثر من سعيها إلى ما تقبله (فهي لم تحدد أهدافها بشكل شامل وواضح). واختارت، غالباً بقرار متفق عليه، أن تكون لديها بنية قيادية جماعية تقوم على التوافق، والتشاور المطول، بين أكبر عدد ممكن من "الناشطين"، بعيداً عن البنية التنظيمية التقليدية، وأصرّت على أن وسائل التواصل الاجتماعي، والفعل المباشر في الميدان، يؤديان إلى قرارات بالتوافق والإجماع، دون بنى تراتبية تقليدية، وهذا كنوع من النفور من العمل الحزبي واحتكار السلطة من قبل قيادات تستمر في مناصبها دون تغيير، وبدرجة من التفرد. ويتبع هذا، أيضاً، رفض تبني أنماط عمل تحتاج إلى تفرغ ونفقات مادية كبيرة.
بدراسة التجارب الفلسطينية الشبابية في الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، والأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، ولبنان، وسوريا، والأردن، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، يتضح أنّ هذه السمات السالفة، لم تكن نقاط قوة تماماً كما اعتقد القائمون على هذه الحراكات، وأدت إلى عمر قصير للأطر الحراكية، ولتواضع النتائج التي حققتها، وبالتالي بدأ الحديث مجدداً عن أهمية تبني أشكال وأطر عمل أكثر ديمومة ومركزية، بل وظهرت نقاشات تدعو صراحة إلى العودة إلى مفهوم الحركة (Movement)، بدل الحراك (Activism).
ولذلك ظهرت أشكال جديدة للعمل الشبابي تقع في مرتبة وسط بين الحركة والحراك، تسمى في بعض الحالات باسم "مجموعة" أو "ملتقى" وتركز هذا المجموعات، حتى إنهاء هذا البحث على الأقل، على بناء شبكة شباب يتآلفون للتفكير والقيام بنشاطات توعوية وإعلامية معاً، مع السعي إلى الانتشار في المجتمع، وذلك قبل تبني أي خطط ومواقف سياسية محددة، على عكس الحراك الذي ينطلق من موقف معين يبني حوله التحرك.
في المرحلة الراهنة، ما زال شكل التنظيم الشبابي (والمدني الشعبي) الجديد لم يتبلور، وهو موضع نقاش، ويُقدِم هذا البحث في الفصل الرابع عناوين لأجندة بحث ونقاش تساعد أي منتديات أو برامج شبابية على التفكير في المرحلة المقبلة.