الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   08 آب 2020

| | |
الحرب المستعرة على الوعي أشد الحروب خطورة (1)
غانية ملحيس

ربما لم تشهد الساحة الفلسطينية واللبنانية خصوصا، والعربية عموما على مدى المئة عام المنصرمة، حربا أشد ضراوة وخطورة مما تشهده الآن، بفعل حروب عالمية صغيرة متسلسلة تتنقل بين الساحات القطرية على امتداد الوطن العربي، لتفكيك الدول القائمة وإعادة تركيبها وفقا للخرائط الجديدة التي بلورها التحالف الغربي / الأمريكي - الصهيوني، ويجري العمل على تطبيقها بالقوة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن وليبيا. وقد لا تستثنى منها في المدى القريب الأردن ومصر والسعودية والجزائر وتونس والمغرب.

فاللافت أن تحالف القوى النيوليبرالية المعولمة الصاعدة - الذي توطدت أركانه تدريجيا خلال العقود الأربعة الماضية التي أعقبت انتهاء الثنائية القطبية من النظام الدولي. وأسست، بذلك، لانفراده وتفرده بالقيادة الدولية - يوشك على الإعلان رسميا عن ولادة نظام دولي جديد استوجب قدومه، للحلول محل النظام الدولي القديم الذي استوفى موجبات الرحيل.

ولذلك يقوم باستنفار كافة قواه السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والمالية والإعلامية والدعوية والتكنولوجية الهائلة، ويجند كل أدواته لكي الوعي الجمعي العربي وتهيئته للتكيف الجبري مع التحولات الجوهرية المستهدفة. والتي يقتضي تحقيقها إحداث تغييرات بنيوية عميقة تعيد تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا والسياسة والاقتصاد والمجتمعات في منطقتنا وفقا لصيغ عرقية وإثنية ودينية وطائفية ومذهبية. تستكمل ما سبق أن بدأه النظام الدولي الذي استجد في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبلورت خرائطه اتفاقات سايكس - بيكو عام 1916 ومعاهدة فرساي 1919. وكرس وقائعها النظام الدولي الذي تشكل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بعيد استكمال انجاز الحلقة المركزية بإقامة الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وتثبيته. فاصبح من الممكن المضي قدما في تقسيم الكيانات القطرية التي سبق استحداثها إلى كيانات أصغر متناحرة، مفروزة عرقيا وإثنيا ومذهبيا و تفتقر إلى المقومات الذاتية للبقاء والتطور دون حماية ومساعدة خارجية.

ما يشرع ويكرس يهودية الكيان الاستيطاني الصهيوني العسكري المستحدث - لتبرير وتعميم نموذج الدويلات الدينية والطائفية والمذهبية كدول أقليات فاشلة، توفر فرصا دائمة للتدخل الخارجي عندما تحتاج القوى الدولية المتنفذة ذلك، وتمنع النهوض وتجهض محاولات الساعين اليه. وتحفظ في الوقت ذاته إدامة وتعزير دور الكيان الصهيوني كقاعدة عسكرية أجنبية متقدمة تتفوق قدراته العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية على عموم دول المنطقة، ويؤهله للاطلاع الكفؤ / سرعة وكلفة / بالدور الوظيفي الموكل إليه في الإقليم الشرق أوسطي - الذي تكتسب حدوده الجغرافية مرونة هائلة تتسع لاستيعاب دول وكيانات جديدة، ويمكن ان تتوغل عميقا داخل القارتين الآسيوية والافريقية وصولا الى تخوم القوى الدولية المتنافسة، ومتطلبات ترجيح موازين القوى للسيطرة على القيادة العالمية.

لعل أكثر ما يلفت الأنظار في الحرب الجارية على الوعي العربي، ما تشهده الساحتين الفلسطينية واللبنانية خصوصا، والعربية عموما، من احتشاد غير مسبوق تقوده بعض النخب السياسية والثقافية الفلسطينيينة واللبنانيينة والعربية تحت غطاء " المراجعة النقدية" المستحقة، التي يطالب بها الجميع -محقين - لتبين أسباب الاخفاقات المتواصلة، التي تطال كافة الكيانات السياسية دون تمييز. بين موالاة او معارضة.

وفيما تتحسس بعض النخب الوطنية الطريق لتوفير إجابات على سؤال ما العمل للخروج من المآزق المتتابعة التي تنزلق إليها الأوطان والشعوب، عبر مراجعات نقدية جادة للتجربة، توفر إطارا معرفيا لا غنى عنه للتأسيس للنهوض. تنطلق من الحقوق الأساسية للشعوب في الحرية والكرامة والعدالة والتساوي أمام القانون. ويضاف اليها فلسطينيا الحق في التحرر والاستقلال والعودة وتقرير المصير.

وتعي في الوقت ذاته ان للبشر جميعا حاجات معيشية أساسية تتصدر قائمة أولوياتهم وتحسم اختياراتهم لصالحها عند إجبارهم على المفاضلة بين الأولويات، ما يحظر معه المقامرة بالدخول في صيغ تجبرهم على الاختيار بين ثنائيات وكان تعارضها حتمي. رغم ان التاريخ الإنساني حافل بنماذج ناجحة أدرك أصحابها سبل المواءمة المثلى بين هذه الثنائيات ومستلزمات منع تعارضها واحتكاكها. ما أدى الى النجاح. والتاريخ، ايضا، حافل بنماذج فاشلة لأمم وشعوب توارت، لأنها أخفقت واغرقت شعوبها في صراعات المفاضلة بين الخيارات وحولت علاقة الارتباط الطردي بين الثنائيات الى ترابط عكسي كفيل لوحده باستنزاف وتقويض فرص تحقق اي منهما.

التعرف على العوامل الذاتية والموضوعية التي تتسبب في تكرار الإخفاقات، رغم جسامة التضحيات - دون إغفال الانجازات التي يتعمد البعض طمسها بوعي لترجيح خيارات سياسية محددة -. وتسليط الضوء على الأخطاء وأوجه القصور في تحديد الأهداف والأولويات والمناهج، وفِي الإدارة المتوازية والمتوازنة للصراع الوجودي ولحياة الناس أثناء الصراع بما يعزز فرص الإنجاز في كلاهما، / وان القفز إلى اتهام المخطئين بالخيانة. والتهاون، أيضا، في تبيان أخطار الأخطاء والقصور التي ترقى نتائجها وأضرارها إلى مستوى الخيانة يمثل الخطيئة الكبرى. وان التعمق في البحث يشكل مهمة حيوية واجبة على الباحثين والمثقفين خصوصا، لتنوير الأجيال وتوعيتها وتبصيرها، بالبوصلة وبمعايير وأدوات قياس وتقييم الأداء وفقا لمدى استرشاده بها، ولتقييم مدى الإسهام بالاقتراب او الابتعاد عن الأهداف، وتوفير المعرفة الفنية بمستلزمات تصويب المسار، وبموجبات الانتصار وشروط استحقاقه.

واللافت تدافع كثير من السياسيين والمثقفين الفلسطينيين والعرب لطرح أفكار تحملها أوراق سياسية، بصياغات علمية تميزها وتضفي عليها سمة الجدية والموضوعية لجهة التوصيف المعرفي الدقيق للواقع.

لكن البعض ينطلق منه للتأسيس للمستقبل، بالاحتكام إلى حقائق صنعتها موازين قوى مختلة، وسياسات وسلوكيات وإدارة خاطئة للصراع، وعوضا عن الاسترشاد ببوصلة الحقوق والاحتياجات وتسليط الضوء على صيغ. ومستلزمات وشروط التوفيق بينها دون التضحية باي منها، تعمد إلى اختزال الحقوق وفقا لما تتيحه موازين القوى، وترجح أولوية الاحتياجات على الحقوق.

يلفتني في هذا السياق ظاهرة التزاحم الملحوظ في عقد المؤتمرات والندوات والاجتماعات النقاشية التي تزايدت في الاونة الاخيرة وتائر انعقادها الدوري المتتابع بشكل ملفت وغير مسبوق. وربما أسهم في ذلك التحول الجوهري الذي أدخلته جائحة الكورونا على أنماط حياتنا، سواء لجهة إتاحة الوقت الكافي للتفكير بفعل الحجر المنزلي لمدد طويلة، وللتواصل وتعويض التباعد الاجتماعي القسري بتكثيف استخدام التكنولوجيا المتاحة للعموم بكلفة زهيدة.

وعلى الرغم مما ينطوي عليه، ذلك، من مزايا التواصل بين المهتمين بالشأن الفلسطيني والعربي في مختلف بقاع العالم وما يتيحه من تفاعل مهم يثري الحوار ويفتح الآفاق للوقوف على التباينات في الرؤى والاجتهادات والتجارب والاستخلاصات، إلا أن محاذير كبيرة تستوجب التروي والتوقف عندها، وخصوصا لتنامي ظاهرة السجال الذي يحاصر الخيارات في ثنائيات متعارضة تستوجب المفاضلة بين أحدهما، بالمغالاة في تصوير خصائص ومزايا البديل المختار والإمعان في إظهار نقائص وأضرار البديل المستبعد.

لقد لخص الدكتور وليد سالم في مقالة مهمة بتاريخ 3/8/2020 متاحة على موقع عرب 48 أزمة التفكير الفلسطيني بعنوان "مشكلة التفكير الثنائي السائد في السجال الفلسطيني " تطرق فيها إلى وضع الثنائيات في مواجهات بينية: "ثنائية العودة أو تقرير المصير، الدولة الواحدة أو الدولتين، التحرر الوطني أو البناء الوطني "، وأشار إلى أن "هناك طريق ثالث يمكن أن يشكّل مخرجًا من هذه الثنائيات المتقابلة، والخروج من لعنة الإجابة عن سؤال "ما العمل؟، المتمثلة في عدم القدرة على العمل معا وتصريف الخلاف في إطار الوحدة بديلا من العمل المتشرذم المتوازي".

ومع اتفاقي الكامل معه حول مشكلة السجال الفلسطيني المتصل بالثنائيات وكأن المفاضلة بينهما خيار. لا فكاك منه، وأضيف إليها أيضا الثنائيات الأخرى التي يحتدم السجال الفلسطيني بشأنها :

كالكفاح العنفي / المسلح / والنضال السلمي الذي تناول الجزء الأول منه الاستاذ ماجد الكيالي في بحث معمق. حظي بمراجعات مهمة من عديد الناشطين والمهتمين.

- والنضال والتفاوض، الذي يحتدم النقاش بشأنهما كبديلين متعارضين ويحضرني في هذا السياق كتاب دكتور صاىب عريقات " الحياة مفاوضات " وتمسك قيادة السلطة به كخيار وحيد لبلوغ الحقوق، وإمعان المعارضين -وبعضنا راهن عليه في وقت من الأوقات ولم ينتقده كخيار مستعجل تم الانخراط به دون مراعاة حقيقة ان التفاوض -بغض النظر عن وطنية وكفاءة ومهارة من يتولاه - محكومة نتائجه الرئيسة بميزان القوى السائد، وان الهوامش ضئيلة أكثر بكثير مما يعتقد المروجون لفوارق كان بامكان فريق التفاوض في واشنطن بقيادة القائد الوطني حيدر عبد الشافي تحقيقه. والذي باعتقادي لو تواصل كان سيفضي الى ذات الانسداد السياسي الذي بلغته مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، لان المعادلة الأساسية كانت محكومة منذ البداية أمريكيًا واسرائيليا بمبدأ مقايضة الاحتياجات المعيشية بالحقوق الوطنية، والتي ليس لدي أدنى شكوك في انه لو تم القبول بها فلسطينيا، لكان فريق حيدر عبد الشافي أكثر مقدرة على تحسين شروطها بحكم معايشتهم ومعرفتهم الوثيقة بمعاناة السكان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، قياسا بجهل فريق التفاوض في أوسلو الكامل بها، رغم استعانته بفريق من الخبراء من الداخل.

وعليه، واغلب الظن ان الدكتور وليد سالم والاستاذ ماجد الكيالي قد يوافقوني الرأي بأن التوفيق بين الثنائيات الوارده اعلاه، ممكن فقط في إطار مشروع وطني تحرري جامع لإحقاق الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، مدرك بأن لا حل للصراع الوجودي الفلسطيني - الاسرائيلي بدون هزيمة النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني العنصري وتفكيكه البنيوي، وواع بأن تحقيق ذلك يستغرق وقتا قد يمتد لأجيال، وبان الأولوية في النضال التحرري يجب ان ترتكز على منهج إدارته بإيلاء الأهمية القصوى لبناء الذات وتعزيز مقومات الصمود الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات، ومراعاة التباين في ظروف المكونات الفلسطينية المختلفة وما توجبه من خصوصية في تحديد الأولويات واختيار المناهج النضالية القادرة على حشد الإمكانات الذاتية وتوظيف الظروف الموضوعية بالإفادة مما تتيحه من فرص، ودرء ما تنطوي عليه من مخاطر لتحقيق الانجازات وتشبيكها والبناء التراكمي عليها. عندها فقط يصبح النضال من أجل انتزاع الحقوق المدنية والمساواة لفلسطينيي 1948 هدفا وطنيا يستحق التفهم والدعم والمؤازرة من كافة المكونات الفلسطينية الاخرى.

ويصبح نضال الشعب الفلسطيني داخل الاراضي المحتلة عام 1967 لدحر الاحتلال الاسرائيلي وإقامة الدولة المستقلة ذات السيادة هدفا وطنيا يستحق نفس التفهم والدعم والمؤازرة حيث إنجازه لا يقيد المستقبل بل يؤسس له، ويصبح تقرير المصير في الدولة الوطنية مرتكزا لبدء التحرير و العودة، ويصبح تمكين الشعب الفلسطيني في المنافي وتوفير مقومات الصمود في مخيمات الشتات للتأسيس للعودة هدفا وطنيا يستوجب ذات الدعم والمساندة. ويصبح الكفاح المسلح والتفاوض أدوات فاعلة مهمة في تحقيق الاهداف.

مشاركة: