الرئيسية » إصدارات المركز » لجنة السياسات في مركز مسارات »  

قراءة/تحميل | | | |
التقرير الإستراتيجي للمؤتمر السنوي العاشر ... فلسطين في بيئة إقليمية ودولية متغيّرة
لجنة السياسات في مركز مسارات

ملخص

ينعقد المؤتمر السنوي العاشر لمركز مسارات ما بعد النهوض الوطني دفاعًا عن القدس بكل أبعاده وتجلياته؛ "انتفاضة" عودة الوعي والوحدة الشعبية وتبوّء القضية الفلسطينية الصدارة من جديد، تحت عنوان "ما بعد النهوض الوططني دفاعًا عن القدس ... فلسطين في بيئة إقليمية ودولية متغيرة: السيناريوهات والسياسات"، مركزًا على وعي ما جرى، وأسبابه، وجذوره، وآفاقه، والأهم استشراف المستقبل والمواقف والسياسات والخطط والبدائل المطلوبة لحماية القضية الفلسطينية، والأرض والشعب، من الأخطار التي تهددها، والحفاظ عليها حية وعلى الوجود الشعبي على أرض الوطن والمكاسب، وتقليل الأضرار والخسائر أولًا كمرحلة أولى على طريق التقدم في مراكمة الانتصارات، وصولًا إلى تحقيق الأهداف والحقوق الوطنية.

لتحميل التقرير ... اضغط/ي هنا

لقد أكدت فلسطين بعد موجات الانتفاضة في القدس وبقية الضفة المحتلة وغزة والداخل والخارج أنها قضية حية وجوهر الصراع الذي لا يمكن القفز عنه، وأنه لا بديل عن الوحدة والصمود والمقاومة، فقد سقطت الرهانات والحسابات الخاطئة بأن الطريق باتت ممهدة لتصفية قضية فلسطين وحقوق شعبها، وأظهرت وقفة الشعب الشامخة في جميع أماكن تواجده قدرته على إسقاط المخططات والسياسات الإسرائيلية لطمس القضية كقضية عادلة، وكقضية تحرر وطني وأرض محتلة وتقرير المصير.

كما فشلت محاولات تقسيم الشعب إلى أفراد وتجمعات منفصلة عن بعضها البعض، حتى الفلسطيني في داخل الداخل الذي يعيش في بطن الحوت منذ إقامة إسرائيل جدد التأكيد على أنه جزء من شعب واحد وأرض واحدة وقضية واحدة، وهذا أساس قوي جدًا يمكن البناء عليه.

وعلى الرغم مما سبق، لا تزال القضية الفلسطينية تواجه مخاطر وجودية تتهددها بالتصفية، وهي في مرحلة دفاع إستراتيجي، رغم دحر صفقة ترامب - نتنياهو وأهمية المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية والمحتمل حدوثها، والتحديات التي تطرحها، وذلك لأن الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت يريدان تحقيق حماية أمن إسرائيل ووجودها وأطماعها، أي تحقيق جوهر الأهداف الأميركية الصهيونية بوسائل وسياسات مختلفة أقل تطرفًا وعدوانية. فكما جاء في التقرير الصادر عن المؤتمر السنوي التاسع لمركز مسارات فإن صفقة ترامب مرشحة للفشل لأنها متطرفة جدًا، لدرجة لا تكفي القوة والقدرات الأميركية الإسرائيلية لإنجاحها، لذلك لم تملك فرصة كبيرة للنجاح، دون التقليل من أهمية التصدي لمخططات حكومة الاحتلال للمضي في تنفيذ المضامين الجوهرية في هذه الصفقة، وبخاصة ما يتعلق بالاستيطان والقدس والتهجير القسري والضم الزاحف.

وفي هذا السياق، تتحمل الأطراف الفلسطينية المختلفة، وخصوصًا القيادة أولًا، والقوتين المهيمنتين والسلطتين المتنازعتين اللتين يطغى لديهما الصراع على الحكم والتمثيل والقيادة والقرار على أي شيء آخر ثانيًا، وبقية القوى والمؤسسات والنخب التي دارت في محور هذا القطب أو ذاك، ولم تستطع أن تبلور بديلًا قادرًا على كسر حالة الاستقطاب ثالثًا؛ المسؤولية عما وصلنا إليه من تعمق الاحتلال، وتوسع الاستعمار الاستيطاني، وتقطيع الأوصال، والحصار، ومخططات تهويد القدس وأسرلتها وتهجير سكانها قسريًا لتكريس المدينة بصفتها "عاصمة موحدة أبدية" لإسرائيل، ووقوع الانقسام وتعمقه، وتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وغياب المشروع الوطني والرؤية الموحدة والمؤسسة الوطنية الجامعة والقيادة الواحدة، مع تنامي الشعور بالتهميش والإقصاء لدى فئات متزايدة من أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات في ظل تزايد النزعات التسلطية والقمعية، خاصة بعد جريمة قتل نزار بنات.

أما الوضع العربي فسيئ للغاية بسبب عدم وجود مشروع عربي قادر على توحيد العرب، وانشغال البلدان العربية، خصوصًا الكبرى، بهمومها الداخلية، وصراعات مع أشقائها أو جيرانها، لدرجة سلوك عدد من البلدان العربية درب التطبيع، أو لعدم النجاح على وجه العموم في اختبار الحرية والسيادة والكرامة ولقمة العيش والديمقراطية، وما تقتضيه من تجديد وإصلاح وتغيير لا تزال البلدان العربية بعيدة عنه، ما قد يعرضها إلى عدم الاستقرار وإلى ربيع عربي آخر أو ثورات جديدة.

ولعل ما يجري في تونس دليل على ضرورة المراجعة الشاملة للإجابة عن سؤال: لماذا فشل الربيع العربي؟ وكيف يمكن أن تحقق الشعوب العربية استقلالها وحقوقها في العيش الكريم والمساواة والعدالة ضمن أنظمة وطنية وديمقراطية؟

سيضم التقرير عددًا من المحاور، تبدأ بالتوقف أمام الوضع الدولي لجهة أبرز معالمه، ومدى تأثيره على القضية الفلسطينية، مرورًا بالوضعين العربي والإقليمي، ورصد المتغيرات الحاصلة والمحتملة، وتأثيرها على القضية الفلسطينية، والتحولات الأكثر يمينية وعنصرية وفاشية في إسرائيل، وانتهاء بالتوقف بصورة مركزة أمام القضايا المحورية في الوضع الفلسطيني، وآفاق التغيير والعوامل السلبية والإيجابية، والقوى ذات التأثير على مسار التغيير.

الأمر بالغ الأهمية الذي يحاول التقرير تسليط الضوء عليه أن فلسطين تعيش في بيئة متغيّرة، محليًا وإسرائيليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، حيث النظام العالمي والإقليمي القديم ينهار ولم يرحل بعد، ويحل مكانه عالم جديد ثنائي أو متعدد القطبية دون أن تتضح معالمه حتى الآن، وقبل أن توضع الأسس والقواعد الناظمة له، ومن القوة أو القوى التي ستسيطر عليه؟

وبالقدر الذي يشكل ذلك تحديًا أمام كفاح الشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه الوطنية، فإنه ينطوي على فرص كامنة أكبر لإحداث التقدم بما يمكن الاستفادة منها إذا توفرت متطلبات ذلك في الوضع الفلسطيني الداخلي.

الخلاصة

يعيش العالم مرحلة انتقالية تتميز بتغير السياسات والتحالفات، وتشهد نوعًا من السيولة، بحيث تقيم الدول علاقات مع أعدائها، وتتخلى عن حلفائها وأصدقائها التقليديين، أو يختلط الحابل بالنابل، بحيث تقام العلاقات مع الجميع من دون استثناء، في حين تصبح المصالح هي التي تحكم العلاقات بصورة لم تحدث من قبل، مقابل تراجع قيم العدالة والحقوق وسيادة القانون والمساواة والحقوق والحريات الفردية والعامة، وعلى رأسها حق تقرير المصير للشعوب، ويحل محلها أكثر من السابق حق القوة، التي تأخذ في معظم الأحيان أشكال القوة الناعمة، وتأخذ في أحيان أخرى أشكال القوة الخشنة (العسكرية).

وسنشهد في السنوات القادمة، في ظل الصراع على قيادة العالم الذي نعيشه، احتدام الصراع بين أميركا والصين بعد الهجوم المضاد الذي تقوده إدارة بايدن، والذي سيأخذ في الغالب أشكال الحرب الباردة والعقوبات والمقاطعة والوسائل الناعمة، لكن يمكن أن يأخذ شكلًا عسكريًا، سواء حروب بالوكالة والإنابة، أو مباشرة من دون الوصول إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، بحيث تكون الحرب العسكرية إن وقعت ليست سوى شكلًا من أشكال التفاوض لفرض قواعد العالم الجديد.

في ظل هذا العالم المتغير، من المهم جدًا كيف سيتصرف الفلسطينيون، وسوف يتحدد في ضوء وحدتهم وحسن تصرفهم وصحة موقفهم وأدائهم وفعاليتهم ومبادرتهم مكان فلسطين ومستقبلها في خارطة العالم الجديد.

الوضع الدولي: تنافس وصراع أميركي – صيني على قيادة العالم

أبرز ما يميز النظام العالمي التنافس، ففكرة التنافس، بحد ذاتها، بعد أعوام من السيطرة الانفراديّة للولايات المُتحدّة، تُعد أهم ما يحصل في الأعوام الأخيرة في السياسة العالميّة، وبدأ يتنامى هذا التنافس إلى صراع بين الولايات المتحدة الأميركية والصين الشعبية على قيادة العالم، وهذا ما ميّز فترة إدارة دونالد ترامب وقبله باراك أوباما وما يميز فترة إدارة جو بايدن كذلك، إذ لا تتغيّر الأهداف والإستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة بتغير الرؤساء، وكل شيء آخر لا يمكن فهمه من دون وضعه في هذا الإطار.

كانت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الدولة العظمى الأولى بلا منازع، حتى في ظل القطبية الثنائية في مرحلة الحرب الباردة، حيث كان الناتج الإجمالي الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية نصف الناتج العالمي، أما الآن فيبلغ الناتج الإجمالي المحلي الأميركي 22.2 ترليون دولار مقابل 15.47 ترليون للناتج الصيني وفق أرقام صندوق النقد الدولي.

ووضعت الصين في خطتها الإستراتيجية أنها تتطلع إلى مضاعفة ناتجها المحلي بحلول العام 2035، وهو إن تحقق يجعلها أكبر اقتصاد في العالم، غير أن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى أن الصين ستصبح أكبر اقتصاد في العام بحلول العام 2024، وتليها الولايات المتحدة.

وترى مصادر متعددة، تشمل اقتصاديين ومجلات اقتصادية مرموقة ووكالات ومراكز أبحاث أميركية وبريطانية وأوروبية ومؤسسات دولية وغيرها، أن اقتصاد الصين سيصبح الأكبر، إذا حافظ على معدل نمو مرتفع كما حصل في الأعوام السابقة، ويحددون العام 2028 لتحقيق التقدم الصيني، ويرجعون ذلك إلى نجاح الصين في التعامل مع جائحة كورونا، لدرجة أن الاقتصاد الصيني هو الاقتصاد الوحيد بين الدول الكبرى الذي لم يتراجع، بل حقق نموًا بأكثر من 2%.

طبعًا، قيادة العالم لا تتحقق فقط بالتقدم الاقتصادي، مع أنه العامل الأهم، خصوصًا معدل النمو السنوي، بل هناك عوامل أخرى تلعب دورًا، مثل القيم، وطبيعة النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي، والقوة العسكرية، والنفوذ العالمي، والحلفاء، والإرث التاريخي، والتقدم التكنولوجي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ... إلخ، ولكن القوّة الاقتصاديّة تلعب دورًا مركزيًا في التأسيس لكُل ما ورد سابقًا.

 تواجه الولايات المتحدة تحديًا تاريخيًا، وستتوقف مكانتها في العالم على كيفية التعامل معه، لذا تحاول بكل قوة وقف التقدم الصيني، وإيقاف عجلة التاريخ، والحفاظ على تفوق أميركا وقيادتها للعالم، وتسخر كل شيء لتحقيق هذا الهدف، فضلًا عن أنها وضعت مواجهة الصين على رأس الأولويات.

تحاول الولايات المتحدة، عبثًا، البقاء كقوة قطبية أحادية تسيطر على العالم كما كان قائمًا في السابق، فكل الإمبراطوريات التي حكمت العالم سقطت سلمًا أو حربًا، وقد انتهت الفترة التي قادت العالم فيها منفردة أو مع الاتحاد السوفييتي، بل حكمت العالم منفردة، خصوصًا ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1991، ولم يعد ممكنًا الآن احتفاظها بهذا الدور. فالسيطرة القطبية الأميركية الأحادية على العالم انتهت وتحل محلها ثنائية قطبية، صينية أميركية، وربما تعددية قطبية، بحيث تضاف أوروبا وروسيا والهند واليابان وبريطانيا وغيرها إلى الأقطاب المحتملة، وربما ينشأ نظام جديد غير قطبي.

كما أن الأهداف والإستراتيجيات الكبرى في الدول الكبرى على وجه العموم، لا تتغير بتغير الرؤساء والأحزاب والإدارات الحاكمة، بل تتغير السياسات والمواقف والخطط والتكتيكات الرامية إلى تنفيذ هذه الأهداف، لذلك فإن مواجهة الصين هدف مشترك لكل الإدارات الأميركية.

فالولايات المتحدة الأميركية قررت تقليل دورها في مناطق عديدة، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، وما يقتضيه ذلك من الاعتماد على الحلفاء والوكلاء، أو حتى تبريد الجهات الساخنة، من خلال الانسحاب العسكري من العديد من المناطق من أفغانستان إلى منطقة الشرق الأوسط، وهذا يعود إلى التنافس والصراع الأميركي الصيني الأميركي أولًا؛ وإلى خسائر الولايات المتحدة من حروبها في الشرق الاوسط ثانيًا، ففي تقرير لمعهد واتسون، تقدر خسائر الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول/سبتمير 2001 وحتى الآن، بحوالي 4.6 ترليون دولار و7 آلاف قتيل و54 ألف جريح؛ ويعود، ثالثًا، إلى، أهمية المنطقة وما تمثله من مصالح لأميركا، التي تراجعت كثيرًا، لا سيما بعد إنتاج النفط بغزارة في الولايات المتحدة.

على الرغم ما سبق، لا يمكن اعتبار تراجع الدور الأميركي في المنطقة أمرًا حتميًا، أو سيطبق في خط مستقيم وفي اتجاه واحد، بل يمكن أن يشهد تغييرًا يقتضي وقف سحب القوات وإرسال قوات جديدة، فإذا حدثت تطورات يمكن أن تهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها، وخصوصا إسرائيل، يمكن وقف التراجع، والعودة إلى لعب دور سياسي وعسكري مباشر، تمامًا مثلما حصل في سوريا حين جاءت القوات الأميركية رغم بدء تنفيذ سياسة سحب القوات.

في هذا السياق، من المتوقع قيام إدارة بايدن بتقليل الدور الأميركي الذي بدأ منذ بداية عهد الرئيس أوباما حتى تتفرغ للمارد الصيني الذي حقق إنجازات ملموسة، وتحديدًا منذ طرح خطة طريق الحرير الجديد (الحزام والطريق) التي تعد القاطرة لمد النفوذ الصيني في العالم.

 وتحاول إدارة بايدن ترميم الضرر الذي أحدثته إدارة ترامب، إذ تسعى إلى تعزيز تحالفها مع بريطانيا، واستعادة التحالف مع أوروبا، وإحياء حلف الأطلسي، وعقد تحالفات جديدة، بدليل اجتماع مجموعة السبعة الكبار (G7)، وتواصل تحسين علاقاتها مع اليابان وكوريا الجنوبية والفلبينk وغيرها من البلدان الدائرة في فلكها، لأنها تريد أن تواجه التحالف الصيني الروسي الكوري الشمالي، الذي يمكن أن يمتد ليشمل إيران، ويتواصل نفوذه وعلاقاته وتحالفاته في مختلف بقاع العالم.

 إن العالم القديم يرحل وينهار ولم تعد قواعده تحكم العالم، والعالم الجديد يتقدم، ولكن لم يضع أسسه والقواعد الناظمة له بانتظار نتيجة التنافس الأميركي الصيني.

 ويستخدم في هذا الصراع كل وسائل وأشكال القوة الناعمة والحرب الباردة، ولكن نظرًا لعمق الخلافات وتعددها، وكونها تتعلق بقيادة العالم، لا يمكن استبعاد استخدامها لوسائل وأشكال القوة الخشنة، حتى العسكرية منها، ولكن من دون أن تصل إلى استخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، لأن كل معسكر لديه القدرة على الإبادة التامة للمعسكر الآخر. وفي هذا الصدد، نشير إلى ما صرح به الرئيس الأميركي جو بايدن في نهاية تموز/يوليو 2021 من أن الحرب السبرانية الإلكترونية يمكن أن تقود إلى حرب عسكرية عالمية. ولكن يمكن اللجوء إلى الحروب بالوكالة والإنابة من خلال الدفع إلى الحروب بشكل مباشر، واستخدام حروب ونزاعات محلية وإقليمية قائمة في مختلف أنحاء العالم.

 بالتأكيد، إن مصير الصراع على قيادة العالم، وهل سينتهي إلى قيادة أحادية أخرى صينية أو تستمر أميركية، أو ثنائية أو متعددة، سيؤثر بشدة على ما يجري في الكون بأسره بشكل عام، وعلى ما يجري في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، لا سيما أن إسرائيل بوصفها قوّة إقليميّة هي جزء أساسيّ ومركزيّ من وضع دوليّ عام، وإفراز لمُعادلة دوليّة، وأي تغيير في هذه المُعادلة سيؤثّر جذريًا على تموضعها وأهميّتها ومستقبلها أيضًا.

إن مصلحة الفلسطينيين والعرب وشعوب العالم الثالث وبلدان ألا تحكم العالم دولة واحدة، مثل الولايات المتحدة، خصوصًا أنها دولة استعمارية وعنصرية ومنحازة بشكل عضوي لإسرائيل بحكم العلاقة الإستراتيجية التي تربطهما، ونظرًا للاتفاق والاشتراك في العديد من الأهداف والمصالح، المبنية على النشأة المشتركة، وعلى كون إسرائيل كيانًا وظيفيًا زرع في المنطقة لخدمة مشروع استعماري عالمي، يرمي إلى الإبقاء على السيطرة الغربية على المنطقة، وذلك بسبب أهميتها الإستراتيجية النابعة من موقعها الجغرافي ومن مواردها الطبيعية وما تشكله من سوق، وإسرائيل تلعب دورًا مركزيًا في تحقيق هذه الغاية، إضافة إلى الدور الذي تلعبه إسرائيل في منع قيام قوى إقليميّة ومشروع عربيّ.

 تأسيسًا على ما سبق، لم تتغير أهمية الدور الإسرائيلي كثيرًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وسقوط الشيوعية كما توقع الكثيرون، وسيتغير ولكن ليس كثيرًا، نظرًا للتراجع الأميركي والحاجة إلى تعزيز دور الحلفاء والوكلاء ودعمهم وحثهم على الاستعداد لنزع شوكهم بيدهم، وهو السيناريو الأكثر احتمالًا بعد تراجع الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط.

 أن يكون هناك نظام ثنائي أو تعددي أو بلا سيطرة لدولة معادية أفضل للشعوب والبلدان الفقيرة والضعيفة، لأنها تتمكن من توظيف الهوامش التي تنتجها الصراعات والتنافسات ما بين الدول الكبرى، فضلًا عن أن الدول العظمى التي تنافس الولايات المتحدة، وخصوصًا الصين وروسيا، تتخذ موقفًا مؤيدًا للحقوق والمصالح الفلسطينية والعربية، مع العلم أن التعددية القطبية لا توفر فرصة وتطورًا إيجابيًا بصورة حتمية أو تلقائية، أي ليست تحصيلًا حاصلًا، وإنما يعتمد على التحلي بالوعي اللازم والسياسات والقيام بالأعمال والمبادرات القادرة على توظيف الفرص المتاحة. فإهمال العالم كله – مثلما حصل سابقًا – على مذبح الجري لكسب ودّ الولايات المتحدة يمكن أن يحوّل الأمر الجيد إلى سيئ.

 إنّ الناظر إلى خريطة العالم، الآن، يجد العجب العجاب، ويعرف صعوبة الانفكاك وقطع الروابط، الذي قد تدفع إليه وتفرضه الحرب الباردة الجديدة، حيث أصبح صعبًا ومعقدًا بعد سيادة العولمة وحرية التجارة والاعتماد المتبادل، وما أدى إليه كل ذلك من تداخل في مصالح البلدان على اختلاف مواقعها وتموقعها، إذ نجد مثلاً أن العلاقات والمصالح المشتركة الأميركية الصينية كبيرة جدًا، لدرجة من الصعب تصور إمكانية الاستغناء عنها وفك الارتباط ما بينهما من دون حصول كوارث كبرى، وربما حروب تدميرية. فلوحة العلاقات ما بين أميركا والصين وبقية دول العالم يحكمها التعاون والتناقض في نفس الوقت.

ونفس الشيء يمكن أن نلاحظه في علاقات الدول مع بعضها البعض، حيث الصين لديها علاقات جيدة مع أوروبا وروسيا ودول أفريقيا والعرب وإسرائيل وإيران، وروسيا كذلك، وأوروبا كذلك، وأميركا كذلك لديها علاقات على امتداد العالم باستثناء بعض البلدان، مثل إيران التي تسعى لإعادة تصحيح العلاقة معها بالعودة إلى الاتفاق النووي.

وما يعزز الثقة ويبعث الأمل أن كل المخاطر والتهديدات التي تواجه القضية الفلسطينية لا يجب أن تحجب تصاعد التضامن العالمي مع نضال الشعب الفلسطيني، من أجل التحرر والعدالة والاستقلال الوطني، خلال مواجهة العدوان الإسرائيلي الأخير في غزة والقدس وبقية الضفة واللد وعكا وحيفا والنقب وغيرها. وهو تحول مهم يمكن البناء عليه، لاسيما بعد خسارة ترامب، التي شكلت ضربة لليمين العنصري الشعبوي في عدد من بلدان العالم وخطابه المناهض للحقوق والمساواة والعدالة والقانون الدولي، بما يتضمنه كل ذلك من أسس يستند إليها الخطاب المناصر لحقوق الشعب الفلسطيني، وغيره من الشعوب المضطهدة.

لقد نظمت مظاهرات غير مسبوقة في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في أوروبا وبريطانيا والولايات المتحدة، شاركت فيها عشرات الملايين من المتظاهرين، وأعلنت جمعيات دينية وكنائس ورجال دين من مختلف الأديان والمعتقدات، ونقابات عمالية وحركات للعدالة الاجتماعية، وآلاف الفنانين والأكاديميين والمؤثرين اجتماعيًا، والطلبة والمجموعات النسوية ومنظمات العدالة المناخية والمجموعات والنشطاء ضد التمييز العنصري، وعدد غير مسبوق من المشاهير، عن دعمهم لحقوق الشعب الفلسطيني، وكثير منهم أيد حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها (BDS).

ووصل دعم الحقوق الفلسطينية كذلك إلى الحزب الديمقراطي الأميركي الحاكم ، الذي لعب التيار التقدمي فيه دورًا مهمًا في وقف العدوان والدفاع عن الحقوق الفلسطينية، لدرجة أن عددًا متزايدًا من أعضاء الكونغرس، القلعة المتماسكة في دعم إسرائيل، عبر عن مواقف مختلفة مؤيدة أو متعاطفة مع الحقوق الفلسطينية، ما يقتضي الاستثمار فيهم والرهان عليهم، وعلى كل القوى والدول الشقيقة والصديقة، أولًا وقبل أي أطراف أخرى لم تحسم موقفها أو معادية.

الخلاصة

باتت المصالح أكثر من أي وقت مضى هي المحدد الرئيس للعلاقات قبل أي شيء آخر، أما القيم الإنسانية (العدالة والمساواة والحقوق والأخلاق والقانون وحق تقرير المصير للشعوب، وحقوق وحريات الإنسان) فتراجعت أهميتها، لدرجة أنها باتت تستخدم في كثير من الأحيان، وأكثر من السابق، لخدمة الأهداف السياسية والمصالح الاقتصادية. فاللغة الأولى التي يفهمها العالم هي لغة القوة، تليها لغة المصلحة، ثم تأخذ لغة القيم الإنسانية والسعي للسلم والاستقرار والأمن موقعها في الدرجة الثالثة من الأهمية.

تأسيسًا على ما سبق، لا بد من الانطلاق من عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي وأهمية القيم والأخلاق والقانون، ومن أن القضية الفلسطينية قضية تحرر وطني، وأهمية التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية بكل تجلياته الشعبية والرسمية وفي إطار الشرعية الدولية ومؤسساتها، بعيدًا عن الوهم بأنها قادرة على إنجاز الحقوق الفلسطينية دون توفر العامل الذاتي وإدراك الأهمية الكبرى لجمع أوراق القوة والضغط واستخدام لغة المصلحة لإنجاز المصالح والحقوق الفلسطينية، ونقيم أوثق العلاقات وأمتنها مع الأشقاء والأصدقاء من أجل إنشاء جبهة عالمية تنتصر للقضية الفلسطينية، وتدعم الفلسطينيين في نضالهم لتحقيق حقوقهم العادلة.

الوضع الإقليمي ... تنافس ثلاثي (تركي إيراني إسرائيلي) وغياب المشروع العربي

لا يمكن رؤية ما يجري في الإقليم من دون رؤية تطور الصراع الأميركي الصيني وانعكاساته المباشرة وغير المباشرة، المقصودة وغير المقصودة، حيث كان من نتائجه تسريع نمو دور دول إقليمية عدة، وخصوصًا إيران وتركيا وإسرائيل، وهذا يمثل ضربة لإسرائيل التي كانت تطمح لكي تكون الدولة المركزية المهيمنة على المنطقة، والوكيلة للغرب فيها، وخاصة للولايات المتحدة.

وكذلك، ما الأشكال التي يتخذها هذا الصراع، ناعمة أم خشنة، وهل ستجمع بين المواجهة والحوار كما هو متوقع، أو تغلب إحداهما على الأخرى، وما انعكاس ذلك على الدول العربية، خصوصًا في الخليج ومصر والعراق والأردن، مع تراجع الدور الأميركي في المنطقة والحاجة المتزايدة إلى تنويع التحالفات، وإلى تحالفات تعوض الحليف الأميركي الذي لم يعد موجودًا كالسابق وليس مضمونًا، مع استمرار غياب مشروع عربي أو دولة عربية قائدة؟

أدى تراجع الدور الأميركي في منطقة الشرق الأوسط إلى إرباك وإعادة تموضع، فمن جهة تحاول إدارة بايدن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني في وقت أدى إلغاء الاتفاق من قبل ترامب إلى تغيير قواعد اللعبة، فإيران تحررت من قيود الاتفاق بعد إلغائه، وزادت نسبة التخصيب بشكل كبير، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من إنتاج القنبلة النووية، حيث تستطيع ذلك خلال أشهر عدة وفق المصادر الأميركية، وهذا يوظف للإسراع في التوصل إلى الاتفاق، بينما تتحدث المصادر الإسرائيلية عن عامين، فضلًا عن زيادة قدرات إيران الصاروخية ونفوذها في المنطقة في المدة الأخيرة، وهذا كله يشكل عائقًا أمام التوصل إلى اتفاق.

 ورغم التقدم في مباحثات فيينا، وانتشار الاعتقاد في بداية عهد بايدن بأن الاتفاق في متناول اليد، فإن قضايا الخلاف كبيرة وتجعل احتمال التوصل إلى اتفاق ليس حتميًا، بل مجرد احتمال من بين احتمالات عدة، فالخلافات المتبقية تتمحور حول إنتاج الصواريخ الإيرانية، خاصة التي يمكن أن تحمل رؤوسًا نووية، ودور إيران في المنطقة، وحول رفع العقوبات مرة واحدة وفورًا أو بالتدريج، ومدة الاتفاق وغيرها، وهي خلافات مهمة لا يمكن التقليل منها مثلما لا يمكن التقليل من حاجة واشنطن وطهران إلى الاتفاق.

وفي ضوء نجاح إبراهيم رئيسي في انتخابات الرئاسة الإيرانية، التي كانت أقرب إلى التعيين منها إلى الانتخابات، وما يمثله ذلك من حرص المرشد علي خامنئي على استمرارية السياسة المعتمدة ومن خط متشدد، خصوصًا انه من أقوى المرشحين لخلافته، فإن ما سبق يشير إلى أن المنطقة يجب أن تستعد لمختلف الاحتمالات، بما فيها أن التراجع الأميركي في المنطقة في ضوء التطورات والمتغيرات يمكن أن يتوقف، أو يأخذ شكلًا مختلفًا عما حدث في أفغانستان في ظل أزمات كبرى في المنطقة، بعضها شهد لحلحة كما يحصل في ليبيا وحرب اليمن وسوريا والانفتاح السعودي الإيراني والمصري القطري، وإلى حد ما المصري التركي.

وهناك أزمات تتجه إلى التصعيد أو البقاء على نفس درجة التوتر مثلما يحدث بالنسبة إلى أزمة سد النهضة، ودخول لبنان في مرحلة أسوأ بعد اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة وتكليف نجيب ميقاتي بتشكيلها، وانعكاسات ذلك المحتملة على إمكانية المواجهة العسكرية بين حزب الله والمقاومة وإسرائيل، واحتمالات تصاعد المواجهة السياسية والشعبية والعسكرية بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، واستمرار أزمة سوريا رغم الانفتاح العربي البطيء والحذر عليها والمرتهنة على ما يبدو بتأمين أمن إسرائيل ضمن أي حل، وفتح الطريق لإعادة الاعمار وعودة اللاجئين، فضلًا عن أزمات المياه والنفط والغاز، والتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، وتفجير الخلاف السعودي الإماراتي وثيق الارتباط بالمصالح الاقتصادية والتنافس على الدور السياسي استعدادًا لما بعد النفط، ولتقدم الدور الإيراني، وتراجع الدور الأميركي في المنطقة ومدى الاعتماد على الدور الإسرائيلي.

أما تركيا فتلعب دورًا كبيرًا في المنطقة، وتبدو كمن يرقص على كل الحبال، خصوصًا بعد تحسن العلاقات الإسرائيلية التركية، وجولات الحوار التركي المصري، وإرسال رسائل تركية رغم أنها مترددة ومتناقضة وقد تكون تكتيكية عن تغيير المقاربة السابقة، خصوصًا فيما يتعلق بالخلافة العثمانية والاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين. فبعد إغلاق الباب أمام انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى، اتجهت شرقًا، وأحيا الرئيس رجب طيب أردوغان مشروع دولة الخلافة العثمانية، ما أفضى إلى تحالف وثيق مع جماعة الإخوان المسلمين، بالتوازي مع خصومة شديدة مع مصر بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي سدة الرئاسة، وأرسل قواته إلى سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان وقطر التي يقيم تحالفًا وثيقًا معها، ويحتفظ بعلاقات جيدة مع الصين وروسيا وايران وعلاقات متذبذبة مع أميركا وأوروبا وإسرائيل، ويحتفظ بعضوية تركيا في حلف الناتو.

وبدأ أردوغان في الآونة الأخيرة بتبريد علاقاته المتأزمة مع عدد من البلدان، وخصوصًا مصر، والمحرك الأول لسياساته هي مصلحة تركيا كما يراها، ويستخدم الدين لتحقيق هذه الغاية، ويُضاف إلى ذلك احتدام الصراع حول جزيرة قُبرص مع اليونان والاتّحاد الأوروبي.

تأسيسًا على ما سبق، يتميز الدور التركي في هذه المرحلة بإعادة التموضع بعد الاندفاع الحاد في أكثر من مكان وعلى أكثر من موضوع. مع العلم أن تركيا تريد أن تحيي الخلافة العثمانية والاتجاه شرقًا، ولا تزال تحلم بدور أكبر في أوروبا، ولو أنها متواجدة في سوريا والعراق وليبيا، وتستعد للتواجد في أفغانستان، مع تسخين علاقاتها الباردة مع إدارة بايدن وإسرائيل، أي تلعب لحسابها الخاص من دون أن تترك حلف الناتو، وتريد أن تصحح علاقاتها مع مصر من دون أن تتخلى عن دعم الإخوان المسلمين، مع شعورها بأن هذا التحالف بحاجة إلى مراجعة، خصوصًا في ظل السقوط المتزايد الإخوان المسلمين في المنطقة، وتقيم علاقات مع السلطتين في الضفة وغزة، وحائرة بين العلمانية والدولة الدينية.

كما هو ملاحظ، هناك سيولة وبيئة متغيرة بشدة في المنطقة ناتجة عن الفراغ بسبب تراجع الوجود والدور الأميركي، ومحاولة أطراف دولية وإقليمية لملئه، ولن تتحدد معالم هذه المتغيرات من دون رؤية اتجاه سير العلاقات الأميركية الصينية، التي ستشهد منافسة حامية حاسمة في العقد القادم الذي سيحدد من سيقود العالم، ويرسم معالم النظام العالمي الجديد. وهنا يجب أن نضع ما أشرنا إليه في المحور الأول عن حروب الوكالة والإنابة التي يمكن أن تأخذ مجراها وتزيد احتمالاتها، خصوصًا إذا لم يتم الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني، والتوصل إلى حل سلمي لأزمة سد النهضة. ومن المهم أيضًا مراقبة هل سيتم التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني أم لا، وماذا سيشمل إذا تم التوقيع عليه والاستعداد لارتداداته المختلفة في ضوء حدوث كل احتمال؟

على الرغم من أن الحرب العسكرية الأميركية الإيرانية مستبعدة إلى حد كبير، حاليًا على الأقل، سواء إذا وُقِّع الاتفاق النووي أم لا، إلا أن احتمال مواجهة عسكرية إيرانية إسرائيلية مباشرة أو من خلال حلفاء إيران في المنطقة (حزب الله) لا يمكن إسقاطها من الحسبان، لا سيما في ظل حرب ناقلات النفط، وعدم توقيع الاتفاق، مع العلم أن إسرائيل غير جاهزة عسكريًا وحدها لحرب مع إيران من دون مشاركة أميركية على الأقل خلال السنوات القليلة القادمة. وإذا حصلت الحرب، سواء مع إيران أو مع حلفائها، سيكون على الجانب الفلسطيني أن يحدد موقفه، وهل سيشترك في هذه الحرب من خلال فصائل المقاومة العسكرية أم لا؟

لا شك أن القرار سيكون صعبًا في كل الأحوال في المشاركة بالحرب أم لا، ولكن المرشد الهادي لاتخاذ القرار يجب أن يكون هو مصلحة القضية الفلسطينية؟ وهل هدف الحرب يحققها أم على العكس؟ وما نتائجها المحتملة، لا سيما أن أي خطأ في الحسابات يمكن أن يؤدي إلى خسارة إستراتيجية لا يمكن تعويضها؟ وهل ستكون حاسمة أم مجرد مفاوضات بالنار لتحديد أدوار الدول الإقليمية المتنافسة؟

أمّا بالنسبة إلى إسرائيل في الإقليم، فإنّها وفي العقد الأخير قد تحوّلت أكثر فأكثر إلى قوّة إقليميّة منها قوّة محليّة، خاصة في ظل حالة الشلل السياسي الفلسطينيّ الذي سمح لها أن تحاول أن تتخطّى الموضوع الفلسطينيّ لصالح الصراع الإيراني من جهة، ولصالح التغييرات الإقليميّة التي تنعكس عليها من جهة أخرى.

تبقى الشعوب العربية تتوق إلى الحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الكريم والسيادة ومكافحة الفقر والجهل والتجزئة والاستغلال والفساد والاستبداد، فالنظام العربي القديم سقط وهناك حاجة متزايدة لنظام عربي جديد ينظر إلى التحديات والمخاطر المشتركة، ويعمل على قيام مشروع عربي يمكّن العرب من أخذ المكان الذي يستحقون في النظام العالمي والإقليمي الجديد.

الخلاصة

 أولًا: هناك صراع وتنافس حاد على المنطقة بين دول إقليمية كبرى، إذ لم تعد ولن تكون إسرائيل كما خطط هي الدولة المركزية المهيمنة (وهذا تطور جيد للفلسطينيين)، مع ضرورة المراقبة والسعي لإحباط النجاح الملموس الذي تحقق بعد تطبيع عدد من الدول العربية معها، وهي خطوة ضارة بالقضية الفلسطينية لأنها تكسر موقف الإجماع العربي السابق الذي كان يربط السلام الكامل مع إسرائيل بانسحابها الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.

ولا تحل مسألة التطبيع بالتخوين والمقاطعة وترك الدول والأطراف العربية لقمة سهلة سائغة لإسرائيل، ولا بالتعامل معها بشكل طبيعي وكأنه خطأ بسيط وخلاف عابر، ولا التمييز بين تطبيع وآخر ليس وفق مضمونه، وإنما بالنظر إلى من قام به، كما حصل في زيارة إسماعيل هنية على رأس وفد كبير من حركة حماس إلى المغرب.

 ثانيًا: إن القضية الفلسطينية قضية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا، وقضية أرض محتلة، وضحية لمشروع استعماري استيطاني عنصري. وهي قضية تحرر وطني وليست قضية دينية بالأساس رغم البعد الديني المهم لها، ومن الخطأ التعامل معها كقضية دينية. وهي قضية جامعة فلسطينية عربية تحررية إنسانية قابلة للاستخدام من مختلف الأطراف والمحاور، لذا يجب ألا تنحاز لمحور، لأن هذا يقود إلى تصفيتها أو إضعافها بشدة على الأقل، بل يجب أن تكون المحور، وترتبط بعلاقات مع هذه الدولة أو تلك بقدر دعمها وتقاطعها مع الحقوق والمصالح الفلسطينية.

ثالثًا: يجب أن يكون ويبقى الرهان الفلسطيني على الشعوب العربية وقواها الحية، لا على الحكام، لأن دعم الشعوب العربية قوي ومستمر، وترتبط عضويًا بالقضية الفلسطينية، ليس بسبب الروابط الثقافية والقومية والدينية فقط، وإنما بحكم المخاطر والمصالح المشتركة، وهذا يقتضي الدفاع عن القضايا المختلفة للشعوب العربية ضد الفقر والتخلف والتبعية والجهل والاستبداد والفساد، وحاجتها إلى أنظمة وطنية ديمقراطية مستقلة، وإلى التكامل على طريق الوحدة. فنحن في عالم لا يستطيع أن يعيش فيه الضعفاء والمنقسمون والصغار وسط التكتلات الكبرى.

إسرائيل سير مستمر نحو التطرف والصراع بين اليمين واليمين

رغم نجاح الائتلاف الحاكم اليوم في إسرائيل بإسقاط نتنياهو الذي ترأس الحكومة أكثر من أي رئيس آخر، بمن فيهم ديفيد بن غوريون، وهدد بتحويل إسرائيل إلى حكم فردي على خلفية محاولة التهرب من الإدانة في محاكمته ضد الفساد، من خلال سعيه لإضعاف استقلال القضاء والمس بالقيم الأخلاقية وسيادة القانون والمؤسسات، إلا أن الأزمة التي شهدتها إسرائيل لا تزال قائمة، وما عدم القدرة على تشكيل حكومة رغم إجراء ثلاث انتخابات قبل الأخيرة سوى أحد تجليات الأزمة وليس منشأها.

 لذا، فإن تشكيل الحكومة لا يعني نهاية الأزمة، خصوصًا أنها حكومة غير مستقرة، وتقف على حافة السقوط، ويجمعها هدف واحد، وهو منع نتنياهو من العودة إلى الحكم أكثر من أي شيء آخر.

 تعود جذور الأزمة في إسرائيل إلى العام 1977، حينما سارت نحو اليمين، ومرجحة للسير في السنوات القادمة نحو اليمين واليمين المتطرف بصورة أكبر، وتحوّل الصراع فيها، وتحديدًا منذ العام 2009، إلى صراع بين اليمين واليمين، فيما بات اليسار أقلية صغيرة لا تستطيع أن تحسم بأي أمر، وما تنصيب نفتالي بينيت رئيسًا للحكومة، رغم أنّه لم يحصل في الانتخابات على أكثر من 6 مقاعد، إلّا اعتراف بأحقيّة اليمين برئاسة الحكومة في إسرائيل، واستلام لحقيقة أن اليمين هو الأغلبيّة داخل المُجتمع الإسرائيلي.

وما يدل على التوجه نحو اليمين كذلك وجود 74-80 عضوًا بالكنيست الحالي ينتمون إلى اليمين الذي يلتقي على موقف مشترك من القضية الفلسطينية، وينطلق من أنه لا داعي للتوصل إلى حل للصراع مع الفلسطينيين عبر المفاوضات لأنهم لن يقبلوا الحل الإسرائيلي الذي يمكن أن يطرح عليهم، وأن المطلوب إدارة الصراع لتوفير شروط فرض الحل الإسرائيلي والعمل على حسمه وفقًا للرؤية الإسرائيلية التي تميل بشكل حاسم في هذه الفترة لإحياء فكرة إقامة "إسرائيل الكبرى".

وقد حصلت هذه الفكرة على دعم كبير في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وطرح خطته للحل التي تبنت رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرف كما يظهر بالذات بتضمينها فكرة ضم أكثر من 30% من مساحة الضفة المحتلة، واستمرارها بهذه السياسة بأشكال جديدة بعد سقوط ترامب من خلال سياسة الضم الزاحف للأرض والحقوق والمقدسات، وترسيخها كدولة يهودية بإقرار قانون القومية الذي حوّل العنصرية في إسرائيل إلى دستور، وحققت نجاحًا كبيرًا في ذلك كما يظهر في تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن بعد انتخابه بأن لا استقرار بمنطقة الشرق الأوسط من دون الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية.

 إن الإجماع بين اليمين بمعسكريه اليميني المحافظ القومي واليمين الديني التوراتي على إلغاء القضية الفلسطينية وطمس الحقوق الفلسطينية للشعب الفلسطيني بشكل عام، ولتجمعاته المختلفة بشكل خاص، المترافق مع ضعف العامل الفلسطيني بسبب الانقسام الفلسطيني وعدم صياغة مشروع وطني يستجيب للمستجدات والحقائق الجديدة لوصول الإستراتيجيات المعتمدة، خصوصًا أوسلو، إلى طريق مسدود، واعتماد إستراتيجية البقاء والانتظار؛ حوّل الصراع والتنافس في إسرائيل إلى صراع وتنافس على قضايا داخلية في معسكر واحد، مثل الموقف من الدين وعلاقته بالدولة، ومن هو اليهودي، والفساد، وخصوصًا الحكومي والمؤسسي، والانقسامات الاجتماعية، واستقلال الجيش والقضاء وعلاقته بالمؤسسة التشريعية، ووحدة المجتمع في ظل الانقسامات المذهبية والطبقية ما بين اليهود الشرقيين والغربيين والعلمانيين والمتدينيين والأغنياء والفقراء.

 ما سبق يوضح خطأ التركيز أكثر مما ينبغي على إسقاط نتنياهو كشخص، على أهمية ذلك، وليس سياساته، التي يجب التركيز على إسقاطها، والأشخاص الذين يدافعون عنها يسقطون معها، وهذا ساهم أو سهل اعتماد سياسة من فريق فلسطيني - رغم أنه إسلامي - رأى أنه لا غضاضة بدعم أي حكومة إسرائيلية مهما كانت متطرفة مقابل مطالب مدنية، مثلما حصل بانضمام القائمة العربية الموحدة لحكومة نفتالي بينت، رئيس حزب اليمين الجديد.

ويعد بينيت أول رئيس حكومة ينتمي إلى الصهيونية المتطرفة، وهو أكثر تطرفًا من نتنياهو، ويسمي نفسه "رجل إسرائيل الكبرى"، ويفخر بأنه قتل عربًا بيديه، ومستعد لأن يفعل ذلك مرة أخرى، وهو دائمًا عارض وقف العدوان العسكري ضد قطاع غزة، ويريد تغيير السياسية الإسرائيلية تجاه القطاع بسياسة أكثر تشددًا، ولا ينظر إلى الفلسطينيين سوى كأفراد ومجموعات وليسوا قومية لها حقوق، وهو القائل بأن للفلسطينيين دولتين: واحدة في الأردن، والثانية في غزة، ويرى أن الضفة أرض غير قابلة للتفاوض، فهي أرض محررة، ويعارض بشدة الربط ما بين الضفة والقطاع. وهو يطرح ثنائية التدين والحداثة، فضلًا عن أنه قليل الخبرة وقابل للضغط ويرأس حكومة رغم أن حزبه لديه 6 أعضاء كنيست فقط، واتفق مع شركائه بالحكومة على تأجيل كل ما لم يتم الاتفاق حوله.

وعلى الرغم مما سبق، حظيت حكومة بينيت - لابيد بدعم أميركي ودولي وعربي، وحتى فلسطيني، كونها أسقطت نتنياهو، وتعطي بعض هوامش الحركة كما يظهر في تحسن العلاقات الأميركية الإسرائيلية، مع تعهد أميركي بعدم الضغط عليها في القضايا الخلافية، مثل الاستيطان، حتى لا تسقط.

 تكمن معضلة حكومة بينت وإسرائيل كلها أن إسرائيل لم تعد محل إجماع أميركي داخل الكونغرس الأميركي، ولا داخل الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ولا حتى بين اليهود، إذ تتنامى أصوات وتيارات في الولايات المتحدة، وخصوصًا داخل الحزب الديمقراطي، تربط ما بين تقديم المساعدات الأميركية لإسرائيل وبين سياسات إسرائيل واحتلالها وإجراءاتها، لا سيما ضد الإنسان الفلسطيني وحقوقه وحرياته الفردية والجماعية. ومع أهمية هذه التطورات وضرورة العمل على زيادتها، إلا أنه من السابق لأوانه توقع تغيير حاسم في العلاقات الأميركية الإسرائيلية في عهد بايدن، الذي يمثل اليمين في الحزب الديمقراطي المؤيد لإسرائيل بشدة، وهو القائل: "ليس شرطًا أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا". وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الأهداف والإستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة لا تتغير بتغير الرؤساء.

ويترافق ذلك التغيير مع تراجع أهمية المنطقة بالنسبة إلى أميركا، وبالتالي تراجع دور إسرائيل بحكم تحجيمها بعد الصعود الإيراني والتركي واتضاح حدود قدرتها العسكرية من جهة، فلم تعد القوة العسكرية التي لا تقهر، والقادرة على تحقيق المطلوب منها كما ظهر في اضطرار قدوم القوات الأميركية للمنطقة وغزو العراق لحماية النفط وإسرائيل كما صرح أنتوني زيني، الجنرال المسؤول عن القوات الأميركية أثناء الحرب على العراق.

ومن جهة أخرى، هناك حاجة أميركية ولأطراف دولية وعربية لقيام إسرائيل بدور أكبر في المنطقة للوقوف في وجه التمدد الإيراني أولًا، والتركي ثانيًا، والحلول دون قيام مشروع عربي ثالثًا.

 ما سبق يوضح أن لا مجال للرهان على إحياء المفاوضات وما يسمى "عملية السلام" من دون إحداث تغيير جوهري حاسم في ميزان القوى في المنطقة والعالم، وهذا يمكن أن يحدث، بل هناك إرهاصات تنبئ بإمكانية حدوثه، بما يفرض على إسرائيل التوصل إلى تسوية تسمح بإنهاء الاحتلال وتجسيد سيادة واستقلال دولة فلسطين التي تعدّ حقًا طبيعيا والمعترف بها دوليًا على حدود 1967.

وفي هذا السياق، نحذر من عودة خطة السلام الاقتصادي التي اخترعها نتنياهو بحلة جديدة، اسمها هذه المرة "خطوات بناء الثقة"، بذريعة العودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل 28 أيلول/سبتمبر 2000.

 إن تضمين مطالب مثل وقف توسيع الاستيطان، وفتح بيت الشرق بالقدس، وقائمة طويلة عريضة كبيرة من المطالب التي تحاول إحياء أوسلو إسرائيليًا، مجرد وهم وغطاء لإعادة الاتصالات، ومن ثم المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. فالأولوية هي لتوحيد الفلسطينيين على أساس رؤية شاملة، وإستراتيجية واحدة، ومؤسسة وطنية جامعة، وشراكة كاملة وقيادة واحدة تحفظ التعددية والتنافس والخلاف، ولكن على أساس قواسم مشتركة، وفي إطار موحد، حتى يمكن إطلاق مقاومة فاعلة تجعل الاحتلال خاسرًا، وتنهي الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي.

ولعل ما قاله يائير لابيد، وزير الخارجية الإسرائيلي، للأوروبيين في تموز/يوليو الماضي في بروكسل، بالغ الدلالة، فعلى الرغم من تأييده لحل الدولتين، وما يعنيه في أحسن الأحوال من اعتماد سياسة إدارة الصراع، إلا أن هذا الحل كما قال غير ممكن الآن، وهذا هو الموقف الأميركي بالضبط، وهو العودة إلى إدارة الصراع وليس حله وفق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والسعي لعدم تدهور الموقف بمنع انهيار السلطة وتجدد المواجهات العسكرية بين المقاومة وقوات الاحتلال، والحروب إذا حصلت تبقى مسيطر عليها ولا تؤدي إلى حروب إقليمية كبرى ولا إلى حروب عالمية، وهذا كله ما من شأنه قطع الطريق أكثر وأكثر على تطبيق ما يسمى حل الدولتين في المستقبل عندما تتفرع الإدارة الأميركية لهذا الملف.

إن سياسة إدارة الصراع في ظل اتجاه إسرائيل نحو التطرف لا تساعد على إنقاذ ما يسمى حل الدولتين، بل توفر الغطاء للسياسة الإسرائيلية المستمرة بخلق الحقائق الاحتلالية والعنصرية التي تجعل الحل الإسرائيلي أكقر وأكقر هو الممكن والمطروح على أرض الواقع.

الوضع الفلسطيني أمام لحظة فارقة

لا يختلف اثنان على درجة معقولة من الوعي والخبرة والوطنية والمواكبة لتاريخ القضية الفلسطينية على أنها تمر بوضع قد يكون الأصعب منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي أحيت القضية وحولتها إلى قضية تحرر وطني وليست قضية إنسانية. وليس من المبالغة بالقول إن القضية الفلسطينية الآن أمام لحظة فارقة مصيرية.

 فالاحتلال الإسرائيلي يتعمق من خلال المضي في تهويد القدس وأسرلتها، والاستعمار الاستيطاني يتوسع بمعدلات كبيرة جدًا، والضفة مقطعة الأوصال ومستباحة من قوات الاحتلال التي لم تعد تميز منذ أكثر من 18 عامًا بين المناطق المصنفة (أ) و(ب) و(ج)، وقطاع غزة محاصر ويعدّ رغم صموده ومقاومته الباسلة أسوأ وأكبر وأطول سجن في التاريخ.

أما شعبنا في الشتات فيعاني من غياب قيادته المفترضة الممثلة بمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد، حيث يتعرض لطمس هويته الوطنية ومصادرة حقوقه المدنية، إضافة إلى تعرّض مخيمات وتجمعات اللاجئين في بلدان عدة إلى حملات معادية، وضيق معيشة؛ أدت إلى تهجير جديد داخل أماكن وبلدان اللجوء، وإلى أماكن جديدة في الشتات.

وأما سلطة الحكم الذاتي المفترض أن تكون خطوة انتقالية تتبعها مفاوضات نهائية تتوصل إلى حل القضايا الأساسية (اللاجئين، الحدود، الاستيطان، القدس، الأمن، المياه، الأسرى) وتجسيد دولة فلسطين على حدود 67؛ فانتهت إلى حل دائم من دون مفاوضات ولا عملية سياسية، وانقسمت إلى سلطتين متنازعتين على التمثيل والقيادة والقرار.

وأما المشروع الوطني فبات بحاجة إلى تعريف جديد لأنه أصبح مختلفًا عليه أكثر من أي وقت مضى جراء المستجدات والخبرات والمتغيرات، وأهمها وصول الإستراتيجيات المعتمدة إلى طريق مسدود من دون تغيير المسار، فإستراتيجية المفاوضات والعملية السياسية أدت إلى كارثة، ومع ذلك تجري محاولات مستمرة لإعادة إنتاجها بشروط أسوأ بكثير تحت عنوان "بناء الثقة"، فيما إستراتيجية المقاومة المسلحة محاصرة في قطاع غزة ومعطلة في الضفة الغربية، وبدت حتى قبل معركة "سيف القدس" الأخيرة مرتبطة أكثر بمصالح فصيل وسلطته ورهانه على جماعة الإخوان المسلمين ومحاور إقليمية، ما يستدعي المراجعة العميقة والجريئة للتوصل إلى رؤية وإستراتيجية جديدة، فيما تميزت معركة سيف القدس بأن المقاومة خاضتها نصرة للقدس والقضية، والمطلوب أن يتحول هذا إلى إستراتيجية وليس إلى مجرد تكتيك نابع من دوافع مختلفة ومحددة ومؤقتة.

ويجب أن تنطلق الإستراتيجية الجديدة من وصول اتفاق أوسلو إلى كارثة، عنوانها الأبرز أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ اغتيال إسحاق رابين تخلت عنه جزئيًا في البداية، وكليًا فيما بعد، خصوصًا منذ تولي بنيامين نتنياهو سدة الحكم في إسرائيل للمرة الثانية في العام 2009، وإعادة إحياء دور "الإدارة المدنية"، في العام 2010، خلافًا لما ينص عليه اتفاق أوسلو، بينما استمرت بالمطالبة في استمرار التزام الفلسطينيين به من جانب واحد، وسط انقسام وضعف وتوهان فلسطيني وصمت وعجز عربي ودولي.

وانتقل النظام العربي من شعارات الخرطوم "لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات" إلى عقد معاهدتي السلام المصرية والأردنية، وبينهما اتفاق أوسلو، ثم إلى طرح مبادرة السلام العربية في العام 2002 من دون الانسحاب الإسرائيلي، أي انتقلوا من مرحلة التخلي التدريجي عن الالتزام بكون القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، إلى التخلي من خلال تحميل الفلسطينيين مسؤولية القضية الفلسطينية وحدهم، والقبول بما يقبل به الفلسطينيون، متذرعين بأن الفلسطينيين تخلوا عن العرب من خلال رفعهم شعار استقلالية القرار الفلسطيني، و"أهل مكة أدرى بشعابها".

لا يمكن إدراك مدى التراجع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية إلا بعودة إسرائيل إلى طرح إقامة "إسرائيل الكبرى"، وتبني دونالد ترامب صفقة القرن، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس من دون ردود فلسطينية وعربية ودولية بمستوى الخطر والتحدي، في محاولة لترسيخ الزعم بأنها عاصمة موحدة أبدية لدولة إسرائيل.

صحيح أن الفلسطينيين قادوا تحركًا عربيًا ودوليًا ساهم بقوة في سقوط الصفقة، ولكن هناك خطة أخرى لا تختلف جوهريًا عنها تطبق بأشكال ومسميات جديدة قديمة من خلال بقاء السفارة الأميركية في القدس رغم سقوط ترامب، وتكثيف الضم الزاحف على الأرض والحقوق والمقدسات، والاستثمار في الانقسام الفلسطيني، وإحياء مخططات التهجير الطوعي والقسري، والإصرار على قانون القومية الذي حصل مؤخرًا على تأييد السلطة القضائية بعد دعم السلطتين التشريعية والتنفيذية له، كما ظهر في رفض محكمة العدل العليا الإسرائيلية الدعاوي المنادية برفض القانون أو تعديله.

إن ما سبق من دلائل على المأزق الذي تعيشه القضية الفلسطينية، والمنظمة، والسلطتين في الضفة والقطاع، والقوى والنخب السياسية، لا يعني أن الأمر بات محسومًا لصالح إسرائيل، ولا أن الشعب الفلسطيني، وقواه ومقاومته ومؤسساته، لم يفعل شيئًا ووقف مكتوف اليدين، لا على الإطلاق، فالصمود الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية بكل أشكالها السلمية والعسكرية لم ينقطعا.

بداية بهبات القدس وموجاتها، ما إن تهدأ واحدة لتشتعل الأخرى، إلى مسيرات العودة التي أكدت أصل وجذر الصراع والقضية، وقدمت مثالًا على مدى تمسك الشعب بحقوقه، إلى الموجات المتلاحقة في الضفة التي أخذت أشكالًا متعددة من انتفاضة السكاكين والدهس، إلى المواجهات التي لا تنقطع في عدد متزايد من المواقع وصولًا إلى حي الشيخ جراح وبيتا وبيت دجن، وهبة أراضي 48 والتصدي لمخططات الترحيل القسري وهدم المنازل والعنصرية، إلى الصمود في وجه العدوان المتكرر ضد قطاع غزة في أعوام 2008-2009 و2012 و2014 و2021، الذي أثبت أن قدرات المقاومة تتزايد، وهناك تقدم حثيث نحو إيجاد نوع من الردع المتبادل يتحقق من خلال المبادرة إلى معركة "سيف القدس" بإطلاق الصواريخ على القدس وتل أبيب ومختلف أنحاء إسرائيل نصرة للقدس والأقصى والصمود في وجه العدوان، وتوحد الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته داخل الوطن وخارجه في معركة الدفاع عن القدس، ما غير بشكل نسبي من قواعد الصراع بحيث يمكن البناء عليه في المستقبل.

صحيح أن المقاومة المسلحة للاحتلال حق طبيعي ومقر في القانون الدولي، ولكن في الظروف العربية والدولية الراهنة لا يمكن أن تكون الأسلوب الرئيسي للنضال، وإنما شكل من أشكال الدفاع عن النفس، ومسعى لإيجاد نوع من الردع.

 كما لعبت حركة المقاطعة دورًا مهمًا كونها تكشف زيف الرواية التاريخية الصهيونية وحقيقة إسرائيل، التي تدعي أنها واحة الديمقراطية في الصحراء العربية، لتظهر دولة احتلال وتمييز عنصري، حتى باعتراف مؤسسات أميركية وإسرائيلية ودولية.

 لقد أبقت المقاومة وكل أشكال التعبير عن الهوية الوطنية والحقوق الفلسطينية، خصوصًا في أماكن اللجوء والشتات، القضية حية، ولكن هذا لا يكفي لتحقيق الانتصار والانتقال من مرحلة الدفاع الإستراتيجي الإيجابي إلى الهجوم الإستراتيجي القادر على تحرير الأرض وإنجاز الحقوق.

 نحذر من الوقوع في منزلق التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية دينية، وضرورة التمسك بها والتعبير عنها كقضية تحرر، وليست قضية دينية كما تحاول إسرائيل بتأثير الصهيونية المتدينة أن تفعل. صحيح أن هناك أبعادًا متعددة للصراع، ولكن في أساسه ليس صراعًا دينيًا وإنما صراع تحرري يجب الحفاظ عليه للحصول على دعم العالم كله، بما يشبه الإجماع. ولكن حتى لو انتصر التيار الديني الصهيوني المتطرف وظهر الصراع بسببه كصراع ديني، فهذا لن ينقذ إسرائيل من مصيرها المحتوم، بل سيحرك الملايين إن لم نقل مئات الملايين لنصرة الإسلام والمسلمين، وسيكون ضحيته ليس إسرائيل والحركة الصهيونية الاستعمارية فقط، وإنما اليهود أنفسهم أيضًا.

 يجب ألا تجعل كل أشكال الصمود والانتصار والإنجازات الرؤية غامضة، ولا أن تقع في سوء التقدير أو الحسابات الخاطئة والأوهام الخاسرة، إذ نعاني من اتجاهين، رغم الفرق الكبير بينهما، الأول يبالغ بالانتصارات وبضعف إسرائيل، والثاني يقلل جدًا من الانتصارات، ويبالغ بقوة إسرائيل، ويروج باستحالة الانتصار عليها. ومع ذلك، لا بد من رؤية أن القضية الفلسطينية رغم الإنجازات المتحققة والفرص المتاحة لا تزال في مأزق خطير نتيجة الوضع الإقليمي والدولي غير الملائم على الصعيد الرسمي، والمقيد على الصعيد الشعبي، وبسبب استمرار الاختلال في موازين القوى، والخلاف على البرامج والرؤى والتأثر بالمحاور والتحالفات، إضافة إلى استمرار الانقسام الفلسطيني المؤسسي الذي يتعمق أفقيًا وعموديًا، والتوهان والصراع على السلطة والمكاسب والوظائف والمصالح الذي يطغى على أي شيء آخر.

 لقد تآكلت شرعية المنظمة والسلطة بسبب عدم التجديد والتغيير، بل حتى الإصلاح بالحد الأدنى المطلوب لتطوير العمل المؤسسي، وعدم اعتماد مشروع وطني يتناسب مع فشل أوسلو، وتعطيل المقاومة المسلحة وحصرها في قطاع غزة، وتغير الظروف والمعطيات وتراكم الخبرات، وعدم إجراء الانتخابات، وفقدان الشرعية الثورية والتوافق الوطني، وعدم وجود شرعية الإنجاز وتقديم المثل الصالح للحكم.

وهذا تجلى بشكل صارخ من خلال عدم الالتزام بقرارات المجلسين المركزي والوطني بخصوص إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، والتخلي عن الالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، والعودة بشكل انفرادي عن قرار التحلل من الاتفاقيات الذي اتخذه الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية في أيار/مايو 2020، الأمر الذي أدى إلى نسف الأساس السياسي المشترك الذي استند إلى لقاءات جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، وصالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وكذلك لقاء الأمناء العامين، وتفاهمات إسطنبول في أيلول/سبتمبر 2020، وصولًا إلى تأجيل بحكم الإلغاء للانتخابات بعد قرار سابق بحل المجلس التشريعي، وإصدار قوانين أحكمت سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء من دون تحديد موعد جديد للانتخابات، خشية من نتائجها.

في المقابل، كان من المفترض بحركة حماس وبقية الفصائل التي تعارض المسار الذي تسير فيه القيادة المتنفذة تقديم نموذج متكامل عن مسار جديد مختلف كليًا وليس التذبذب بين مد اليد حينًا للشراكة والسعي حينًا آخر لفرض البديل، وبين برنامج المقاومة وبرنامج التسوية، وبين متطلبات الانخراط في السلطة وتغليبها ومتطلبات خيار المقاومة. وهذا المسار الجديد كان يتطلب - ولا يزال - التوقف مليًا أمام مغزى العودة إلى الاتفاقيات مع الاحتلال، لا سيما أن هذا يجعل الانتخابات إن جرت كما كان مخطط لها في ظل الانقسام، في إطار سلطة الحكم الذاتي، وتحت سقف اتفاق أوسلو، ونوعًا من التقاسم للحصص وإدارة الانقسام، ولكنها آثرت أن تمضي نحو الانتخابات، وأن تتبنى بالمعنى السياسي العملي مقاربة إجراء الانتخابات كمدخل لإنهاء الانقسام دون توافق على القضايا والملفات التي جعلت الانقسام يتعمق ويستمر طيلة السنوات الماضية، ما يدل على نوع من التعايش والتقاطع بين طرفي الالنقسام، وعلى أن الصراع الأساسي ليس على البرامج، وإنما على الحكم والسلطة والقيادة والتمثيل والقرار.

ونحن عندما نستخدم مصطلح طرفي الانقسام، فهذا لا يعني أن المسؤولية واحدة أو متساوية في كل الظروف والمراحل، فهناك مسؤولية أولى على الرئيس والقيادة صاحبة السلطة والصلاحيات، والحاصلة على الشرعيتين العربية والدولية، وكونها المسؤولة عن مسار أوسلو البائس، وعدم تمكين "حماس" من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في العام 2006 رغم تشكيلها للحكومة.

في المقابل، تتحمل "حماس" مسؤولية أساسية بحكم تنفيذ "الانقلاب"، وتغليب احتفاظها بسيطرتها على قطاع غزة على أي شيء آخر، بما في ذلك برنامج المقاومة حتى معركة سيف القدس.

نحن الآن أمام لحظة تاريخية جدية، فهل تواصل "حماس" الربط بين كفاحها في قطاع غزة مع بقية أجزاء الوطن المحتل لتكون المقاومة أداة لخدمة إستراتيجية وطنية واحدة، وتختار الاستمرار في تعميق طابعها الوطني على كونها جزءًا من الإخوان المسلمين، كما تختار المشاركة والواقعية الثورية بشكل عميق وحاسم وغير متردد، أم تختار خلاف ذلك؟

قد تتذرع الفصائل بأن تساهلها في ذلك يعود إلى رهانها على نتيجة الانتخابات، وأنها ستعطي للقوائم المعارضة لأوسلو أغلبية، ولكن هذا الأمر غير مقنع لأن الاحتلال هو صاحب السيادة، ولأن قاطرة الاتفاق على إجراء الانتخابات كما أسلفنا هي الاتفاق على قائمة مشتركة بين حركتي فتح وحماس أساسًا، من دون الاتفاق على برنامج مشترك، وبمشاركة ديكورية الطابع لفصائل أخرى، وترشيح محمود عباس للانتخابات الرئاسية، وهذا نوع من التقاسم والمحاصصة والتعايش ببن سلطتين وبرنامجين، تحت "طربوش" حكومة التوافق أو الوحدة. وهذا الاتفاق الثنائي استمر حتى أواخر آذار/مارس 2021 حين فشل، وكان مؤشرًا على أن الانتخابات لن تحصل دون أن تكون نتائجها مضمونة ومفصلة مسبقًا على مقاس استمرار الهيمنة وفق معادلة محاصصة.

لا يمكن لحماس الانتقال من القائمة المشتركة والرئيس التوافقي إلى حد المطالبة من أوساط نافذة فيها برحيل الرئيس وتغيير القيادة، من دون إجراء مراجعة واستخلاص الدروس والعبر، لأن هذه السياسة المتذبذبة يمكن أن تفتح الطريق للعودة إلى اتفاق ثنائي آخر أو إلى صراع داخلي مفتوح.

إن الانتخابات في كل مكان، وفي فلسطين المحتلة تحديدًا، ليست مسألة فنية، وإنما مسألة سياسية ووطنية من الطراز الأول، لذلك يتوجب أن تتم في سياق اتفاق على قواعد وأحكام وأهداف متفق عليها يتم الاحتكام إليها.

وفي الحالة الفلسطينية، لا بد أن يشمل أولًا الاتفاق على المشروع الوطني، والعمل على تعزيزه والتقدم على طريق تحقيقه، لكي تكون الانتخابات معركة في سياق الانفكاك عن الاحتلال، وكسر محاولاته لتكريس وجود السلطة كوكيل إداري واقتصادي وأمني يطيل عمره.

ومن دون التوافق الوطني على ما سبق، فإن الانتخابات لو جرت بغض النظر عن نتائجها ستفضي إلى تكريس سلطة الحكم الذاتي، ومنح شرعية للوضع القائم الفاقد لأي شرعية (شرعية المقاومة، شرعية الوفاق الوطني، شرعية الإنجاز، شرعية الانتخابات) سوى شرعية القوة، فلا أفق سياسيًا ولا احتمال جديًا لبدء عملية سياسية، حيث اختصرت القضية الفلسطينية وقزمت بخطوات بناء الثقة والسلام الاقتصادي والأمني، وهذا شيء في منتهى الخطورة.

إن مسألة الاعتراف بحركة حماس وفصائل المقاومة من الشرعيات العربية والإقليمية والدولية مهمة، ولكنها ليست الأهم، فالأهم الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. أما الاعتراف بالأدوات السياسية من دون تغيير حاسم في ميزان القوى فهو يستهدف احتواء "حماس" ووفصائل المقاومة وتطويعها وتشجيعها على تقديم التنازلات المطلوبة المعروفة، ولعل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل شرعي من دون الاعتراف بأي من الحقوق الفلسطينية دليل قاطع على ذلك.

 وزاد الوضع سوءًا، والأزمة اشتعالًا، عدم الارتقاء من القيادة المتنفذة إلى مستوى التحديات المترتبة على ملحمة القدس وسيفها، التي امتدت إلى الداخل وجميع أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، بل النظر إلى ما جرى كشيء سيئ، وما زاد الطين بلة تعامل حركة حماس وقوى المقاومة بأن المعركة تسمح بفرض شروط وإملاءات من خلال الدعوة إلى تشكيل مجلس وطني بالتوافق وقيادة انتقالية لمدة عامين من دون انتخابات، وتأجيل البحث في الإستراتيجية إلى ما بعد تشكيل القيادة، على طريق قيادة "حماس" للشعب الفلسطيني، واستحضار نموذج معركة الكرامة كمحطة لسيطرة حركة فتح على منظمة التحرير قبل نصف قرن، لتسويغ طموحات اليوم باستبدال هيمنة فصيل على المؤسسات والقرار الوطني بفصيل آخر، والادعاء بأن "سيف القدس" مثلها مثل معركة الكرامة قفزت عن كل الشروط والمعطيات الموضوعية والذاتية التي تميز الوضع الفلسطيني اليوم مقارنة بعقد الستينيات من القرن الماضي. وهو ما غذى في المقابل خطاب السلطة في تبرير انقضاضها غير المسبوق وغير المبرر على الإطلاق، على الحريات العامة وانتهاكاتها لحرية التعبير، وبخاصة بعد جريمة قتل الناشط نزار بنات، من خلال الزعم بوجود "مؤامرة انقلابية" لصالح أجندات خارجية، وفي اندفاعها الخطير نحو المفاوضات عبر جسر بناء الثقة من دون عملية سياسية.

كانت هناك فرصة حقيقية لتحقيق الشراكة بعد ملحمة القدس، وربما لا تزال قائمة وإن بشكل أصعب، وهو حق طال انتظاره، أما فرض الشروط والإملاءات إلى حد وصل عند أوساط نافذة إلى المطالبة باستبدال القيادة فهذا مثل رفع السقف بما يتناسب مع التضخيم والمبالغة بالانتصار الذي تحقق، والذي يفتح آفاق التغيير والنصر، ولكنه لم يغير الواقع السابق على ملحمة أيار من حيث ميزان القوى المختل بشكل فادح لصالح دولة الاحتلال. وظهرت المبالغة بالحديث عن قرب زوال إسرائيل أو قرب زوال الاحتلال عن الضفة والقطاع، بينما التقييم الصحيح أن التحرير بات أقرب، ولكنه بحاجة إلى نضال طويل، وإلى تغيير في موازين القوى، والثقة بتحقيق ذلك باتت أكبر.

ولعلّ ما جرى بعد وقف إطلاق النار لإغراق المقاومة بمباحثات تهدئة تهدف إلى العودة إلى تطبيق تفاهمات ما قبل أيار دليل على نجاح الاحتلال في إجهاض كبير لإنجازات المقاومة، كما يظهر ذلك في ربط المنحة القطرية وإعادة الإعمار بصفقة تبادل الأسرى، وفي الإصرار على مسيرة الأعلام في القدس، ومواصلة الاعتداءات على المسجد الأقصى.

في المقابل، تجاهلت القيادة المتنفذة ما جرى وتعاملت وكأن شيئًا لم يكن، وطرحت تشكيل حكومة وحدة تلتزم بالشرعية الدولية (والقصد شروط الرباعية التي تتمسك بها القيادة الفلسطينية أكثر من أطراف اللجنة الرباعية)، ودعوة المجلس المركزي المختلف عليه للانعقاد، والبحث في الكواليس بفكرة إطلاق حوار وطني وتشكيل مجلس تأسيسي للدولة للتغطية على عدم الاستعداد لإجراء الانتخابات، وفتح قناة للهروب من خلال تقديم حلول مختصرة، والهروب من التفاهم المطلوب من مختلف الأطراف الوطنية حول عدد من المسائل الأساسية المترابطة التي لا يمكن تجزئتها ولا الفصل فيما بينها.

كما استمرت القيادة بالمنهج السياسي الواقعي الانهزامي الذي لا يرى طريقًا غير الخضوع للواقع والاستمرار بتجريب المجرب، وإعادة إنتاج إستراتيجية البقاء والانتظار.

وجاءت فضيحة لقاح فايزر وجريمة قتل نزار بنات، المعارض السياسي والمرشح للانتخابات السابقة أثناء اعتقاله، وما حصل من قمع غير مسبوق للحقوق والحريات، لتعكس استمرار التمسك بسياسة بقاء السلطة والمصالح المرتبطة بمواقع القوة والنفوذ والبحث عن مصادر شرعية خارج إطار الإرادة الشعبية، عبر خطاب "بناء الثقة" مع دولة الاحتلال تمهيدًا لاستئناف المفاوضات، حتى لو كان الثمن استمرار الانقسام، وتعميق الحكم الفردي، وطابعه الاستبدادي.

 ومما يثير القلق على الحاضر والمستقبل طريقة تعاطي السلطة مع الجريمة بصورة بدت فيها وكأنها تدافع عنها وعن الجناة، كما ظهر في حديث محافظ الخليل عن وفاة بنات أثناء الاعتقال وعدم توقيف الفاعلين حينها وبدء تحقيق جنائي وعدم الانتهاء منه حتى كتابة هذا التقرير بعد مرور أربعينية نزار، وعدم تقديم الرئيس ورئيس الحكومة تعزية لزوجته وعائلته، وعدم تشكيل لجنة تحقيق غير مستقلة ولا محايدة، ما أدى إلى انسحاب ممثلي مؤسسة الحق والهيئة المستقلة وعائلة بنات، إلى جانب اتهام المتظاهرين، الذين يمارسون حقهم المشروع في التعبير عن الرأي والتظاهر، بتنفيذ مؤامرة وأجندات خارجية، واعتقال المتظاهرين والصحافيين والمحامين والمتضامنين معهم من أهاليهم، واستخدام العنف والسحل والتعذيب ضدهم.

وأسوأ ما حصل محاولة زج حركة فتح في مواجهة مع المتظاهرين، واستخدام أفراد من أجهزة الأمن بلباس مدني لاقتحام المظاهرات وافتعال المشاكل مع المتظاهرين أمام مرأى ومسمع أفراد الأجهزة الأمنية. وهذا يضع الحركة بين خيارين إما أن تعود كما كانت حركة شعبية تحررية، والعمود الفقري للثورة ومنظمة التحرير، أو أن تذوب أكثر وأكثر في السلطة، وتلعب دور الحزب الحاكم اسمًا بينما تستخدم لمصلحة أفراد وشريحة صغيرة فعلًا في ظل تدهور دور السلطة بشكل كبير جدًا، إلى مستوى سقفه خطوات بناء الثقة.

من دون شك، إن الربط المباشر ما بين تحقيق العدالة لنزار بنات وما يعنيه ذلك من إيقاع العقاب اللازم بكل المشاركين والمتسببين بهذه الجريمة، وبين الشروع في معالجة جذور وأسباب وصولنا إلى هذا الوضع الكارثي، وبين تحقيق كل المطالب الوطنية والديمقراطية، ساعد السلطة أيضًا في ترويج ادعاءاتها بأن هناك مؤامرة، وأن موضوع بنات يوظف لإسقاط النظام ورحيل الرئيس تمهيدًا لاستلام "حماس" وحلفائها سدة القيادة الفلسطينية.

من حق أي فرد أو فصيل المطالبة بالتغيير ورحيل القيادة أو الرئيس، ولكن شرط أن يكون ذلك بالوسائل السلمية الديمقراطية، وعبر الانتخابات، أو إذا تم الاستمرار برفض اجراء الانتخابات خشية من نتائجها، بحيث لا بد من نوع من الثورة الشعبية لإحداث التغيير شرط أن تكون في سياق مقاومة الاحتلال وأن تأتي تعبيرًا عن إرادة شعبية كاسحة تتمتع بأغلبية كبيرة واضحة ومستقرة، ومؤشراتها واضحة لا تكتفي باستطلاع واحد أو نتيجة معركة واحدة، ولا حتى نتائج انتخابات واحدة.

 إن ما يحدث يضع القضية الفلسطينية أمام لحظة الحقيقة، فالسلطة أمام لحظة تاريخية فاصلة، وعليها أن تقرر: هل تريد الاستمرار بنفس المسار الذي سيصل بها إلى الارتهان الكامل للاحتلال وتأبيد سلطة الحكم الذاتي، أم الخروج من هذا المسار ضمن خطة متدرجة، وإقرار مسار جديد قادر على تحقيق تقرير المصير والعودة والمساواة والحرية والاستقلال والسيادة لدولة فلسطين؟

كما يضع "حماس" أمام قرار تاريخي: هل ستبقى مترددة بين كونها حركة وطنية فلسطينية لها بعد إسلامي، وكونها فرعًا لجماعة الإخوان المسلمين، وبين كونها تريد شراكة على أساس برنامج القواسم المشتركة، أم تريد الاستيلاء على القيادة، وتقديم نفسها كبديل كامل، أم تريد استمرار سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة مع التوصل أو من دون التوصل إلى هدنة طويلة الأمد، أم التذبذب بين برنامج التحرير وبرنامج التسوية، أم ترى أن المقاومة والتسوية خطان متوازيان لا يمكن أن يلتقيا؟

هناك إمكانية للجمع ما بين المقاومة والاستعداد للمفاوضات والتسوية؛ عندما تتوفر شروط إنجاز تسوية عادلة أو متوازنة، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون تغيير حاسم في موازين القوى.

أما على الفصائل والمجموعات والقوائم الانتخابية والحراكات والجاليات ولجان العودة داخل فلسطين وخارجها فعليها أن تعمل على بلورة رؤية شاملة تفتح طريق النهوض الوطني، من خلال تشكيل جبهة وطنية ديمقراطية تمثل الطريق الثالث بين قطبي الانقسام، تضم كل الحريصين على القضية الوطنية والمسار الديمقراطي التوافقي، والمؤمنين بأهمية الوحدة: قانون الانتصار لحركات التحرر، وشركاء في الدم شركاء في القرار، على أساس برنامج وطني واقعي، يركز على المقاومة، ويستخدم مختلف أشكال العمل السياسي، كخطوة على طريق إحياء الجبهة الوطنية الديمقراطية العريضة التي تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة السياسية.

إن التاريخ لن يرحم والشعب لن يسامح كل من يعمل على إضاعة الفرصة التاريخية.

نحو الخروج من المأزق

لقد أوصلتنا سياسة البقاء في دائرة الرهان والأوهام على إحياء عملية سياسية من دون تغيير موازين القوى، إلى ما نحن فيه، بحجة أن أقصر طريق لإنهاء الاحتلال وأقلها كلفة هو المفاوضات، مع أن إحياء المفاوضات تحت مظلة خطوات بناء الثقة ومن دون عملية سياسية لها مرجعية ملزمة تتضمن الحقوق الوطنية في حدها الأدنى الواردة في الشرعية الدولية ليس مجرد خطأ، وإنما جريمة، وسيقود إلى ما هو أسوأ مما حصل، وإلى تمرير الحل الإسرائيلي التصفوي.

 كما تدل مجموعة من المؤشرات، أبرزها سلوك الإدارة الأميركية، على أن أقصى المطروح، وما يمكن أن يحدث من دون إرادة التغيير، هو العودة إلى مقاربة إدارة الصراع بالاعتماد على طرفي الصراع والدول المحيطة والمهتمة، والحفاظ على الأمر الواقع ومحاولة منع تدهوره من دون ضغط على إسرائيل لوقف العدوان والاستعمار الاستيطاني والضم الزاحف للأرض والحقوق والمقدسات، مقابل تحسين شروط المعيشة ومنع انهيار السلطتين في الضفة والقطاع، من دون أفق سياسي.

إنّ الأفق السياسي الوحيد الآن خطوات بناء الثقة التي تعتمد على حسن النية بالاحتلال الذي لا تلتزم حكومته بحل الدولتين، وبلا التزام سوى حديث أميركي عن "حل الدولتين" من دون تحديد مضمونه ومرجعياته، وسط احتمال كبير أن تحيل إدارة بايدن الأمر إلى الطرفين المعنيين والأطراف الإقليمية، حتى تتفرغ لمعركة الصراع على قيادة العالم مع الصين، وهذا يقلل من احتمالات الفلسطينيين في النجاح، لأنه يحول القضية الفلسطينية إلى مجرد قضية محلية إقليمية، وستكون تحت رحمة الاحتلال والمحاور المتنافسة في المنطقة.

ثمة عناوين عدة تستأثر بالاهتمام الفلسطيني في هذه المرحلة، مثل تثبيت وقف لإطلاق النار بهدنة طويلة الأمد، وتبادل الأسرى، والإعمار وحصار قطاع غزة، والاستعمار الاستيطاني، والقدس، خصوصًا الأقصى والشيخ جراح، ومصير السلطة، والخلافة، والانتخابات، والمصالحة الفلسطينية، وإحياء "عملية السلام"، وكلها مترابطة مع بعضها البعض، ولكن لا تحتل الأولوية نفسها.

وهناك سياسية جديدة تحاول الحكومة الإسرائيلية أن تمارسها، من خلال الربط بين تبادل الأسرى وإعادة الإعمار، تنفيذ التفاهمات السابقة، والرد على كل عملية، حتى لو كانت بالونات حارقة، ما يجعل هناك إمكانية لتجدد العدوان العسكري في أي لحظة.

ثمة قضية تفرض نفسها كأولوية، وتقود القضايا الأخرى، وهي ترتيب البيت الفلسطيني، بمعنى التوصل إلى أفضل صيغة لتحقيق الوحدة الفلسطينية عبر توحيد مؤسسات السلطة على أساس الشراكة وعبر الانتخابات، وأن تكون المنظمة موحدة وفاعلة ومظلة لمختلف الألوان، وهذه الصيغة هي حل الرزمة الشاملة التي تستند إلى قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، والكل شريك ومنتصر، وحجر أساسها توازن المبادئ والمصالح والقوى والشراكة الكاملة. وهذه الصيغة رغم صعوبتها إلى حد الاستحالة إلى أنها أفضل من استمرار الوضع الحالي، الذي لن يقود إلى الأفضل، وإنما إلى الأسوأ، ولأن الوحدة على القواسم المشتركة، تقوم على درء الأخطار والتحديات، وتقليل الخسائر والأضرار، وعلى الكفاح لتحقيق أفضل ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، كما تجمع بين مميزات المقاومة وأشكال العمل السياسي والواقعية السياسية الثورية، وكذلك والحفاظ على الشرعيات العربية والإقليمية والدولية.

ويتطلب ذلك تشكيل قيادة انتقالية لفترة مؤقتة تجمع ما بين القيادة الحالية والفصائل المشاركة في منظمة التحرير، وممثلين عن حركتي حماس والجهاد، والظواهر والحراكات والقوائم الانتخابية، وممثلين عن الشتات والمرأة والشباب داخل فلسطين وخارجها، من دون استثناء أو إقصاء لأحد، وتكون مهمتها قيادة الفلسطينيين لفترة مؤقتة لا تزيد على العام، إلى حين إعادة تشكيل وانتخاب مؤسسات السلطة والمنظمة، وتغيير السلطة من حيث الشكل والدور والوظائف وليس حلها، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تركز على إنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات والتحضير للانتخابات بما يتناسب مع الوضع الجديد، وتكون أداة من أدوات الصراع ضد الاحتلال، بالتوازي والتزامن مع إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة.

أما الدعوة إلى حل السلطة، فهي إذا حلت سيتم تشكيل سلطة أو سلطات أخرى بديلة منها. فالسلطة بعد 27 عامًا ليس أمرًا عارضًا، بل أوجدت بنية سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية أمنية عميقة الجذور، إضافة إلى عدم وجود بديل لها، بحكم أن المنظمة مهمشة ومجمدة والفصائل خارجها لم تبلور، نظريًا وعمليًا، بديلًا ممكنًا.

كما أن الاحتلال لا يريد أن يحكم الشعب الفلسطيني مباشرة، ولذلك أعاد انتشار قواته في محيط قطاع غزة للتخلص من ثقله الديمغرافي ومن مقاومته، علمًا بأنه يتعامل مع القطاع كمشكلة أمنية لا تشكل تهديدًا وجوديًا، شرط عدم مساهمته في الكفاح في الضفة الغربية التي هي محور الصراع في هذه المرحلة، لذلك دفع الأمور نحو الانقسام ويستثمر فيه، ويسمح بالسلاح لفرض السيطرة داخل القطاع وليس لنصرة القدس وفلسطين، كما يسمح بدخول الأموال والبضائع مع استمرار الحصار والتهديد بالعدوان.

تأسيسًا على ما سبق، إذا لم تقبل المقاومة العودة إلى ما قبل معركة "سيف القدس"، لتكون مقاومة للحفاظ على السلطة في القطاع انتظارًا لما يمكن أن يحدث مستقبلًا، وما يقتضيه ذلك من الحفاظ على أمن الاحتلال ضمن معادلة تهدئة مقابل تهدئة مع تخفيف لشروط الحصار، وإبقاء باب البحث عن هدنة طويلة مفتوحًا وإن لم يكن أمرًا سهلًا، فهناك احتمال بجولة عسكرية قادمة، وسيحاول فيها كل طرف تحقيق أهداف سياسية لم يحققها في الجولات السابقة.

وفي هذا السياق، لا بد من حل الخلاف على إعادة الإعمار ليكون هناك عنوان واحد، أي سلطة واحدة (إحدى أدواتها حكومة وحدة وطنية)، وكذلك بالنسبة إلى تثبيت وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.

ستكون الوحدة الفلسطينية ضمن الرزمة الشاملة عاملًا ضاغطًا لانطلاق عملية سلام جادة، ولكن على أسس جديدة تفتح الأفق لمقاومة تجعل الاحتلال خاسرًا، أو لتحقيق تسوية عادلة أو متوازنة بسحب الذريعة عن عدم وجود طرف فلسطيني واحد يمثل الفلسطينيين.

إن اعتماد الرزمة الشاملة هو السيناريو المفضل والمطلوب ويجب العمل على توفير متطلباته رغم صعوبته، لكنه، بكل ألم وأسف، ليس السيناريو المرجح، بل إن السيناريو الأقوى - حتى الآن - هو استمرار الوضع الحالي بصورة أفضل قليلًا أو أسوأ قليلًا. وهناك سيناريوهات لا يمكن استبعادها، مثل وقوع الفوضى والفلتان الأمني والاقتتال الداخلي وانتشار السلاح الشرعي وغير الشرعي على خلفية كل ما ذكر بشكل عام، وبسبب الصراع على الخلافة بشكل خاص. فعدم وجود مؤسسات شرعية موحدة بعد تفريغ مؤسسات المنظمة من دورها وجعلها هيئات استشارية تدعى عند الحاجة، وبعد حل المجلس التشريعي وإحكام سيطرة الرئيس والسلطة التنفيذية، خصوصًا الأجهزة الأمنية، على كل السلطات والصلاحيات، لا توجد آلية متفق عليها لنقل السلطة.

إما إذا اعتمد سيناريو التركيز على خطة بناء الثقة من دون رؤية سياسية، كما يحدث فعلًا، وعلى استئناف المفاوضات من دون مرجعية ملزمة، وقبل إنجاز الوحدة، فسيزيد ذلك من عوامل الانقسام وأوراق الضغط والابتزاز على الفلسطينيين لتقديم المزيد من التنازلات من طرفي الانقسام، وعقد اتفاق أفضل لإسرائيل مع السلطة في الضفة والسلطة في غزة.

لن يقدّم العالم أموالًا طائلة لإعادة الإعمار إذا استمر الانقسام، واستمرت احتمالية خوض مجابهة عسكرية أخرى بين المقاومة وجيش الاحتلال، وأقصى ما يمكن تقديمه إغاثة وترميم.

أما إذا تم التوصل إلى هدنة طويلة الأمد في غزة مع استمرار الانقسام فيمكن تجنيد أموال لإعادة الإعمار، ولكنها ستعمق الانقسام وستمكن الاحتلال من التهام الضفة بسهولة وسرعة أكبر وتكاليف أقل. فإسرائيل تريد أن يكون الكيان الفلسطيني في غزة حتى تستكمل تهويد الضفة وأسرلتها، تمهيدًا لتهجير أعداد كبيرة من سكانها إلى قطاع غزة بعد توسيعه من سيناء، وإلى الأردن وغيره من أماكن اللجوء والشتات.

تعد الرزمةُ الشاملةُ الحلَ المتوازنَ رغم صعوبة تحقيقه، إذ يحتاج إلى بلورة جبهة وطنية عريضة قوية فاعلة تضغط من أجل إحداث هذا التغيير، ويمكن تحقيقها بصورة أكبر بكثير في حال اندلاع انتفاضة شاملة ضد الاحتلال يتم في غمارها إنجاز الوحدة، أو بعد حدوث تغيير حقيقي في الإقليم والعالم، بحيث تطبق بالتزامن والتوازي استفادة من فشل تجارب اتفاقات المصالحة السابقة التي ركزت على الحكومة أو الانتخابات أو المجلس الوطني أولًا، ويجب ألا نقف مكتوفي الأيدي حتى تشكيل هذه الجبهة، بل لا بد من تقديم نماذج وحدوية شعبية ميدانية في مجال الكفاح ضد الاحتلال، وفي القطاعات المختلفة النقابية والاجتماعية والاقتصادية، والعمل من أسفل إلى أعلى، من دون إهمال العمل من أعلى كليًا.

لا يعدّ ما سبق مهمة محصورة بالفلسطينيين في الضفة والقطاع، إذ لا يمكن لمثل هذه الجبهة الوطنية العريضة أن تقوم دون دور فعال للشعب الفلسطيني في أراضي 48 وبلدان اللجوء والشتات، ودون أن تكون قضاياهم في المساواة والعيش الكريم والمشاركة في صنع القرار الوطني وإحياء الهوية الوطنية في صلب مهمات العمل الوطني في المرحلة الحالية، إلى جانب التركيز على دعم بناء المؤسسات التمثيلية لأبناء الشعب الفلسطيني في أراضي 48، وكذلك بناء أطر نقابية وشعبية موحدة وديمقراطية لتجمعات الشعب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين، والجاليات الفلسطينية في الخارج.

علينا الثقة بأن مفتاح الوحدة يكمن في الاتفاق على البرنامج الوطني بمكوناته الرئيسية (الهدف الوطني المركزي، والاتفاق على كيفية الوصول إليه عبر أي إستراتيجيات وأشكال عمل ونضال، ووضع خطة للتخلص من أوسلو والتزاماته، والأهداف الوطنية الأخرى)، وذلك ضمن إعادة تعريف المشروع الوطني كله، والمراحل التي يمكن أن يمر بها لتطبيقه، وتعزيز الرواية التاريخية والهوية الوطنية الجامعة للفلسطينيين أينما تواجدوا، وإذا تم الاتفاق على برنامج القواسم المشتركة فسيكون من الأسهل الاتفاق على القضايا الأخرى، ويمكن الاتفاق بدليل التقارب الملموس الحاصل بين الفصائل المختلفة على هذا البرنامج.

 لا يقتضي العمل من أجل الحل الوحيد الممكن (حل الرزمة الشاملة) انتظار سقوطه من السماء أو صعوده من باطن الأرض، أو قيام القوى المهيمنة وجماعات المصالح المستفيدة من الواقع الحالي بتمريره، بل الكفاح بكل الأشكال من أجل تحقيقه من أسفل إلى أعلى، ومن خلال ضرب المثل وتجسيد مبادرات من مناطق وقطاعات معينة تغلب الصراع ضد التناقض الأساسي، وهو مع الاحتلال، ولا تؤجل ضرورة توفير متطلبات التغيير والتجديد والإصلاح لمختلف مكونات وسياسات النظام السياسي. فتغيير النظام السياسي الفلسطيني يتم في سياق مقاومة الاحتلال وليس منفصلًا عنه.

 أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين في أراضي 48، فإن الهبّة الأخيرة وضعتهم أمام ظروف وتحديات جديدة. فأولًا، تبيّن خلال الهبّة أن النواة التوراتيّة الناشطة والموجودة في الضفّة الغربيّة قد وضعت نصب أعينها وبخطّة إستراتيجيّة كانت تجري منذ سنوات بعيدًا عن الضوء، السيطرة على السجون التي يعيش فيها العرب داخل المُدن المُحتلة التي تُسمّى "مُختلطة" في أراضي 48. وثانيًا، تبيّن أن القوى السياسيّة وصلت إلى مستوى جديد من الغربة عن الشارع والجماهير، حتّى بات من الصعب جدًا عليها قيادته أو حتّى مجاراته في الهبّة. هذا الوضع الجديد، ليس جديدًا على المُتابع للتحوّلات في السياسة الإسرائيليّة الداخليّة، فإسرائيل ومنذ سنوات تتجه نحو اليمين الديني، وعندما يكون الإطار دينيًّا، فلن يكون الخط الأخضر ذا أهميّة بالنسبة إلى الاستهداف.

أمّا سياسيًا داخليًا، فإن دخول الحركة الإسلاميّة الجنوبية بزعامة منصور عبّاس إلى الحكومة – خلافًا للحركة الإسلامية الشمالية بقيادة رائد صلاح الملاحقة من الاحتلال - يشكّل خطوة تاريخيّة، لها دلالات مُهمّة جدًا، خاصة في الظرف السياسيّ الحالي الإسرائيليّ، حيث يُسيطر اليمين عمليًا على الأغلبيّة الساحقة في البرلمان والسياسة. وهي بمنزلة مُحاولة لرد الإقصاء المُستمر الإسرائيليّ للفلسطينيين في أراضي 48، بالاندفاع إلى الأمام وبثمن تجاهل كلّي للقضيّة الفلسطينيّة ويهوديّة إسرائيل والعنصريّة.

باختصار، هُناك اتّجاهان مُتناقضان داخل أراضي 48: الأول هو التوجّه الشعبي والشبابيّ الذي يسعى إلى الانفصال عن السياسة الإسرائيليّة والالتحاق بالحالة السياسيّة الفلسطينيّة، وكان له الكلمة خلال الهبّة؛ أمّا الآخر فهو اتجاه سياسيّ يسعى إلى الانفصال عن القضيّة الفلسطينيّة كليًا، والالتحاق بالسياسة الإسرائيليّة.

وفي هذا السياق، تضع السياسة الإسرائيليّة ثنائيّة "الوطن - المواطنة"، التي لطالما استندت إليها القوى السياسيّة في أراضي 48، أمام امتحان حقيقيّ، حتّى بات استمرار العمل استنادًا إليها مكان سؤال أصلًا.

الخلاصة

إن الوحدة الوطنية على أساس الشراكة الكاملة والقواسم المشتركة هي الطريق لاستنهاض الشعب الفلسطيني للتصدي للمخاطر والتحديات وتوظيف الفرص المتاحة. ولكن الوحدة صعبة التحقيق إذا لم يتوفر الوعي والإرادة اللازمة، لدى طرفي الانقسام بأن لا إمكانية لسيطرة فرد أو فصيل واحد على المؤسسات السياسية الفلسطينية، وخصوصًا منظمة التحرير، وأن هناك فوائد لا تحصى بعدم فرض برنامج طرف واحد على بقية الأطراف.

هناك إمكانية لبلورة برنامج جديد يجمع ما بين المقاومة والعمل السياسي الوطني، وبين الواقعية والثورية، ويسعى لتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من دون التخلي عن الحقوق والأحلام الكبيرة والرواية التاريخية، على أساس المبادئ والمصالح وتوازن القوى، بحيث يكف فريق عن إعادة تجريب المجرب وبشروط أسوأ، ويكف الفريق الآخر عن التذبذب ما بين البحث عن بديل للمنظمة والقيادة والاستعداد للشراكة معها وبين تخوينها تارة، والاتفاق الثنائي معها تارة أخرى.

يتذكر الجميع أنه عندما قررت حركة حماس المشاركة في المنظمة والسلطة لم تشترط الاتفاق على البرنامج السياسي الوطني أولًا، ولم تشترط ذلك في جميع الاتفاقات، وهذا الخطأ المؤسسي وقع به وساهم في وقوعه الجميع، وأدى قبل أي شيء آخر إلى فشل مختلف المحاولات والمبادرات والاتفاقات التي سعت لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، فالوحدة في الظروف الفلسطينية الملموسة لا تقوم إلا على أساس وطني وشراكة حقيقية وديمقراطية توافقية.

 

 

مشاركة: