تروي وهي تعزف،
تروي وهي تطرِّز،
تستعيد ذكرياتها في وادي حنين – الرملة، وطبريا، والخليل، ورام الله، والناصرة، والقدس، ما قبل العام 1948؛ طفلة مبدعة وشابة طموحة؛ أتقنت اللغة الألمانية والفرنسية والإنجليزية إلى جانب إتقان اللغة العربية، وتعلمت التطريز، والعزف على البيانو، واستخدام المعدن (metal) لصناعة العديد من الأعمال الفنية.
روت «سمية عبد الرحمن التاجي» - التي ولدت العام 1919، ورحلت عن عالمنا يوم 9 آب 2021 - مسيرة حياتها الثرية بطريقة جذابة آسرة؛ قصة تهجيرها من الرملة العام 1948، إلى رام الله، إلى غزة، إلى مصر، إلى نابلس، إلى عمان، تلك القصة الملوّنة بالمعاناة والصمود والمقاومة في آن.
وحين تروي المهجّرات والمهجّرون قصص التهجير؛ يحملها الطير لينقلها من مدينة إلى مدينة، ومن قرية إلى قرية، ومن مخيم إلى مخيم؛ ليذكِّر، ويلهم، ويضيف إلى الرواية التاريخية الفلسطينية.
*****
«عشت في وادي حنين؛ ملك أبوي فيه، ودّانا على مدرسة الشميدت، كثير كان متدين، وصعب نتعلم الدين المسيحي ونروح على الكنيسة، قال لهم: ما بِدّي أخلّي ولادي؛ رُحنا على بنات الإسلامية، وبعدها بسنة قالوا له: ما راح نقُلّهم يروحوا على الكنيسة، رَجّعنا. أبوي كان يشتغل في المجلس الإسلامي الأعلى مع الحاج «أمين الحسيني».
كان مسَجِّلنا في مار يوسف، بِحِبّ الفرنسي، ويِحكي أكَمِّن كلمة فرنساوي، وقال: بِدّي تتعلموا فرنسي، كنا 16 ولد وبنت، علّمونا الفرنسي، لإنه فيه عِنّا إنجليزي منيح، وألماني بنِحكي، قعدنا ست سنين، وبعدين خطبت، كان عمري 17 سنة، وبعدين لمّا تعلمت بيانو، وأخدت شهادات، وعرضوا عليِّ إني أروح على Trinity Collin Shop Music على حسابهم، سألت أبوي قال: تروحي لحالك ما ممكن.
تعلمت (metal) في مار يوسف، وعملت عِدّة أشياء لَبيتي. كان يجي كريستال ونلبّسه (metal)، عملت صحون، وخزانة للبيانو، وكرسي عملت له المخدة من جلد. أبوي لمّا خطبت قال: فِشّ تروحي على المدرسة؛ بكيت وقعدت أكمِّن يوم ما أكُلِش، أو أشرب، أجا أخوي قال: ليش ما ناخد صورة أبوكِ نقيم هالبرواز الخشب ونحطّ اللي إنتِ شاغلاه، وحَطّ عليه الاسم والتاريخ؛ حملته ورحت، قال لي: إيش بِدِّك هدية بدل اللي عملتي لي إيّاه؟ قلتله: بِدّي أروح سنة على المدرسة، قال لي: روحي إحكي مع الراهبات أنا راجعة.
ما عندي إشي من اللي اشتغلته؛ أخدوه اليهود كله. من القدس رُحت على الخليل، ورُحنا على رام الله وطبريا، وبعدين على الناصرة، قعدت خمس سنين، وبعدها انتقلنا على القدس، كله قبل 1948.
كان زوجي المرحوم «نظيف الخيري» يهرِّب سلاح بسيارته؛ لأنه محطوط على سيارته علم D A district attorney بِقدرش أي واحد يجي يوقّفه لأنه موظف بريطاني. أخاف عليه أقول له: فين إنتَ؟ بِقول: جاي بعد ساعة، يكون راح يهرّب سلاح للثوّار في القدس والخليل، وبعدين قعدنا خمس سنين في الخليل، وبعدها انتقلنا على رام الله سنة، وعلى الناصرة خمس سنين، وعلى القدس سنتين ثلاثة قبل الهجرة، وبعدها رجعنا على الرملة.
بعثوا لنا سلاح من مصر، طلع كله مصَدّي، نقعد إحنا الخمسة؛ أنا وحماتي «فريزة التاجي»، وبنات حماي؛ «مديحة الخيري»، وحفصة الخيري»، وسِلفتي «نادية الخيري»، طول الليل نِجلي الفشك مِشان يقدروا يستعملوه للسلاح؛ لإنه سلفي «ظافر الخيري» كان فاتح جبهة ضد إسرائيل.
وبعدين بالآخر دخلوا اليهود، صاروا يقولوا لنا: بِدكُم تِطلَعوا، قال لهم حماي: أنا بِدّي أتَمّني في البلد، قالوا له: كل أهل البلد تقعد إلاّ الشيخ «مصطفى الخيري»؛ لإنه كان لمّا يسير فيه زعل في قرى الرملة، يِجوا يتحاكموا عنده، ما كَنوش يروحوا للحكومة البريطانية، كانوا يكرهوه اليهود لإنه عارفينه حاكم قرى الرملة واللد كلها. قال لهم: هَيْني قاعد، قالوا لنا: بِدكُم تِطلَعوا، جابوا لنا باص من أعطل باصات اليهود، وأجا المرحوم وقال: ما حدا يحمِّل أواعي، أنا أخدت بسّ غَيَرات تحتانِيِّه وجرزاية؛ رُحنا، ورمونا على الطريق، وقالوا: يللاّ روحوا الملك عبد الله بِستَنّاكم، نزَّلونا في قرية بين رام الله والقدس والرملة وقالوا: يللاّ إمشوا بالوعر! المرحوم أخد الولدين مازن ومنجد وراح على قرية تابعة لرام الله، كان قائم مقامها، استأجر لي جمل مِشان أجيب الأواعي، كنا حوالي 30 نفر، ستات كلهم فش رجال إلاّ هو والأولاد الصغار، ومشينا، وبعدين وصلنا على قرية مشي، لقينا جوز أختي معاه سيّارة فولكس فاجن صغيرة، قال: اللي عنده ولاد يركَبوا معاي، وبُكرَه الصبح بَرجَع للباقي، قعدنا بالسيّارة، كيف قعدنا ما بَعرف! كلنا انحطينا بهالفولكس فاجن، ورُحنا وهديك أختي قاعدة على البلكونة بتِستَنّى، كانت ماخده بيت في رام الله، قالت: إنتوا جيتوا؟ ما عِرفَتنيش قَدّ ما إحنا ضعفانين، وقعدنا عندهم أكمّن يوم، وبعدين عند أخوي، الوقت كان كثير كثير صعب علينا.
هادي سنة 48، بعدين رُحنا على مصر، وبعدها قعدنا في غزة خمس سنين، «البحر من أمامكم والعدو من خلفكم»، بعد أكم سنة سقطت غزة، أنا حبّيتها، بس مش قادرة أعيش بغزة أكثر، كمان عدوان ثاني؟! بِكَفّيني؛ تركنا، وقال شومان لزوجي: بِتروح مدير بنك في نابلس، رُحنا عِشنا فيها، وبعدين إحتلونا في نابلس كمان، يعني ثلاث مرات اليهود إحتلونا. بعد إحتلال 67 جينا على عمّان، تقاعد زوجي، جينا سكنّا في عمّان».
*****
عبر شهادتها الشفوية، التي وثقتها «مؤسسة الرواة للدراسات والأبحاث»؛ تبيَّنت بشكل جليّ مشاركة المرأة الفلسطينية بدور متميز في الأربعينيات، ما أضاف إلى أدوارها الثقافية والتربوية والسياسية؛ قامت بتنظيف السلاح، وتزييته، وتهيئته كي يستخدمه الثوار الفلسطينيون في مقاومة الهجمة الاستعمارية الصهيونية، ومخطط التطهير العرقي للشعب الفلسطيني الذي بدأ قبل العام 1948.
وعبر القصّ تبدّت سمات «سمية عبد الرحمن التاجي»؛ امرأة عاشقة للعلم والفن والوطن والعمل المنتج، ومؤمنة بالمساواة.
أيتها الغالية، سوف تلهم مسيرة حياتك الثرية الأجيال، وسوف تستقرّ عميقاً في الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني.