أم حاجة لتصويب إدراكنا لموجبات ومستلزمات التأثير الإيجابي فيه؟
أثارت مشاركتي وتعقيبي على مقال الباحثة اللبنانية زينب عقيل "جدال في أميركا حول قيمة إسرائيل" في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ10/11/2021 اهتماما عكسته المشاركات والتعليقات، فسره البعض خطًا بالتعلق بأوهام التعويل على التغيير “المتعذر" في الرأي العام الأميركي لحل لقضية الفلسطينية.
وقد تتفق الغالبية العظمى بأن الاهتمام فلسطينيا بمتابعة الجدل الداخلي الناشئ والواعد عند تعمقه وتطوره حول التأثير السلبي للدور الإسرائيلي واللوبي الصهيوني على المصالح الاستراتيجية الأميركية، ليس ترفا فكريا يمارسه المثقفون، وإنما ضرورة ملحة للإلمام بمجرياته من جهة.
وللتنبيه إلى مخاطر استمرار مراهنة النظام السياسي الفلسطيني على أوهام التغير الذاتي في الولايات المتحدة الأميركية لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، رغم انعدام الفوارق بين إداراتها الديموقراطية والجمهورية بشأن أسس حل الصراع من جهة ثانية.
وللتأكيد من جهة ثالثة على سبل التأثير على الجدل الداخلي الأميركي الذي يؤكده الاستخلاص الأهم من وراء تتبع مجريات الحوار الداخلي الأميركي خصوصا والغربي عموما، وتأثر تطوره إيجابا اتجاه القضية الفلسطينية، بتصاعد وتوحد النضال التحرري الفلسطيني ضد الاستعمار الصهيوني، وتنوع وتكامل أشكاله وأدواته، واتساع نطاقه الجغرافي داخل الوطن المحتل وفي مناطق اللجوء، كما دللت على ذلك تداعيات هبة القدس وسيفها. والتي لعبت دورا فاعلا في تطور الوعي الأميركي والغربي وعموم الوعي الدولي بمخاطر استمرار حر بالإبادة التي تواصل إسرائيل شنها ضد الشعب الفلسطيني للقرن الثاني على التوالي. وأسهمت في نقل الحوار الأميركي الخجول بشأن أخطار السياسات والسلوكيات الإجرامية الإسرائيلية من السر إلى العلن، وتوسع نطاقه ليطال للمرة الأولى منذ إنشاء إسرائيل، دوائر صنع القرار الأميركي والغربي. وليسهم في رفع الصوت والمطالبة بإخضاع السياسة الخارجية لبلادهم لمبادئ العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وبرفع الحصانة الاستثنائية الممنوحة لإسرائيل وإخضاعها لنفاذ القانون الدولي والإنساني.
وللتنبيه، رابعا، إلى التداعيات السلبية لجمود النظام السياسي الفلسطيني الرسمي والأهلي واستكانته ومواصلة تراجعه أمام تغول حكومة المستوطنين والتأثير الارتدادي للخضوع لضغوط الإدارة الأميركية الحالية التي تحاول الإبقاء على فصل قضايا السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية الأميركية، ما يؤدي إلى محاصرة الجدل الداخلي الأميركي الناشئ حول عدالة القضية الفلسطينية.
وللإشارة خامسا إلى أهمية عدم اقتصار العلاقات الفلسطينية على الإدارة الأميركية والعمل على تطوير التنسيق مع المنظمات الحقوقية والقوى المعادية للاستعمار والاستبداد والعنصرية داخل الساحة الأميركية، وخصوصا مع حركة حياة السود مهمة، ومع الجناح التقدمي داخل الحزب الديموقراطي، ومع الحركة الطلابية والهيئات التعليمية في المؤسسات الأكاديمية والجامعات والحركات العمالية المؤيدة لحركة المقاطعة لإسرائيل وسحب الاستثمارات، ومع المنظمات الشبابية اليهودية الساعية لإنهاء التماهي بين اليهودية وبين الصهيونية وإسرائيل. فذلك فقط ما سيؤدي إلى تعميق الجدل الداخلي الأميركي بشأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وزيادة القوة التصويتية للفئات لمناصرة للقضايا الحقوقية ويسهم بالتالي في تصليب مواقف إدارة بايدن، ومحاصرة الجناح المحافظ وإحداث التغيير النوعي في مواقفالحزب الديمقراطي، ومنع اليمين العنصري من استعادة سيطرته على مواقع صنع القرار الأميركي.
وللتحذير سادسا من أخطار ما رشح من أخبار حول تقدم السلطة الفلسطينية بطلب إلى محكمة العدل الدولية لإيقاف إجراءات الدعوى القضائية ضد الولايات المتحدة الأميركية الخاصة بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس "لقاء وعود إدارة بايدن بمنح تسهيلات اقتصادية للفلسطينيين، والعمل على خطوات سياسية من شأنها تقريب وجهات النظر بين السلطة الفلسطينية وحكومة الائتلاف الإسرائيلية الحالية " وهي الأكثر عنصرية وعداء للشعب الفلسطيني. يدلل على ذلك ما تشهده الساحة الفلسطينية حاليا من تغول صهيوني وتصعيد خطير غير مسبوق في الإعدامات الميدانية اليومية للفتية الفلسطينيين في الشوارع والساحات العامة، وفي تقييد الأسرى الفلسطينيين وتعذيبهم وتصفيتهم. وفي التصاعد الخطير لاعتداءات المستوطنين المدججين بالأسلحة بحماية ومشاركة الجيش الإسرائيلي على الأحياء السكنية الفلسطينية داخل مناطق العام 1948 خصوصا في النقب والجليل والمدن المختلطة. وعلى المناطق الفلسطينية المهددة بالاقتلاع في القدس الشرقية وضواحيها في حي الشيخ جراح وباب العامود وصور باهر والعيسوية وسلوان وسلواد الخ…، وفي مناطق الأغوار ومدن الخليل وجنين ونابلس ومخيماتها وكافة قرى ومدن الضفة الغربية. واستباحة المقدسات الإسلامية والمسيحية، ونبش المقابر، وتدمير البيوت، واقتلاع أشجار الزيتون وإتلاف المحاصيل، ومواصلة تطبيق قانون تسوية ملكيات الأراضي والممتلكات في القدس التي تهدد بالسيطرة على أملاك الوقف الإسلامي والمسيحي والوقف الذري، وإقرار خطط بناء آلاف الوحدات الاستيطانية في المنطقة ج والشروع بتنفيذها.
فالمهادنة الفلسطينية لإدارة بايدن المنحازة بقوة لإسرائيل واللوبي الصهيوني، والخضوع لضغوطها السياسية لقاء مساعدات اقتصادية تخدم أساسا التنسيق الأمني، تعزز انحيازه لليمين داخل حزبه، واستجابته لضغوط حكومة المستوطنين الإسرائيلية واللوبي الصهيوني، وسيؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى تقوية اليمين العنصري الأميركي ويعزز سيطرته على مراكز صنع القرار الأميركي. تماما مثلما سبق وأدت المهادنة الفلسطينية لإنقاذ حكومات اليسار الإسرائيلي/ بيريس - باراك/ بدعوى منع انهيار عملية التسوية السياسية، والتساهل اتجاه خروقاتها لاتفاقات أوسلو لاسترضاء اليمين العنصري الفاشي الإسرائيلي، ما مكنه عمليا من إحكام سيطرته على مواقع صنع القرار الإسرائيلي. فأسفر عن سحب حل الدولتين من دائرة التفاوض السياسي، وساعد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والنظام العربي الرسمي على التحلل من أسسها المرتكزة على مبدأ الأرض مقابل السلام، والاستعاضة عنها بمبدأ الاقتصاد مقابل السلام، الذي يتساوق معه طرفي النظام السياسي الفلسطيني عبر إجراءات بناء الثقة في الضفة الغربية والتفاهمات حول شروط الهدنة وإعادة الإعمار في قطاع غزة.
أردت بهذا التقديم المسهب تناول أهم ما ورد في المقال المهم لأسعد أبو خليل * في صحيفة الأخبار اللبنانية بتاريخ 4/12/2021 تحت عنوان "هل إدارة جو بايدن تحتضر؟" والذي يظهر أن" استطلاعات الرأي تشير إلى تراجع نسبة التأييد للرئيس بايدن إلى أقل من 40%، وهذا مؤشّر خطير إلى رئيس تبعده سنة واحدة فقطعن الانتخابات النصفية التي ستقرر مصير الأكثرية الديموقراطية في الكونغرس (وهي هزيلة جدًا في مجلس الشيوخ وقابلة للقلب بسهولة لو استمر صعود حظوظ الجمهوريين). " وأضاف أبو خليل بأن "الانتخابات الأخيرة قبل أسابيع، أظهرت أن بايدن يعاني (سياسيا) كما ظهر من خسارة الحزب الديموقراطي لمنصب الحاكمية في ولاية فرجينيا. فالولاية مختبرا مهما لأنها في الحقيقة ولايتان منفصلتان: الغرب والجنوب الذي يحتوي على البيض المحافظين التقليديّين، حيث هناك جامعة «ليبرتي» اليمينيّة التي احتضنت ترشيح دونالد ترمب مبكرًا … مقابل شمال الولاية الذي يضمّ مهاجرين آسيويين وشرق أوسطيين ولاتينيين ومسلمين، وكل هؤلاء كانوا مسؤولين عن ظاهرة تغيّر أهواء اقتراع الولاية لمصلحة الحزب الديموقراطي في السنوات الأخيرة. صحيح أن المرشح الجمهوري الذي فاز في الانتخابات نأى بنفسه عن شخص ترامب، وركز على مواضيع التعليم ومواضيع أخرى خاصة بالولاية. لكن المرشح الديموقراطي كان قويا وله تاريخ في جمع التبرعات السياسية، وكان دوره مركزيا في حملات بيل وهيلاري كلينتون الرئاسية عبر السنوات. ما استدعى المرشح الديموقراطي بايدن وهاريس وحتى أوباما لمساعدته في حملته، وكل هؤلاء لم ينفعوه".
ربما الأهم والأخطر في مقال أبو خليل، ما أشار إليه على عجالة، بأن حصول حرب في مكان ما ، قد يعزز موقف الرئيس بايدن وحظوظ حزبه في الانتخابات النصفية. لأن الحرب ضد الخارج توحد الأميركيين على اختلاف توجهاتهم الحزبية حول العلم الأميركي والإدارة.
فهل سيندفع الرئيس بايدن لخوض الحرب التي تدفع بها إسرائيل واللوبي الصهيوني ضد إيران لترجيح مصالحه ومصالح حزبه الانتخابية الآنية، كما سبق وفعل الرئيس الأميركي هاري ترومان - عندما أيد قرار تقسيم فلسطين واعترف بإسرائيل خلافا لتحذيرات هيئة الأركان المشتركة آنذاك حول الإضرار بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرقين الأدنى والأوسط؟
تناول مقال أسعد أبو خليل ستة أسباب لتدهور شعبية بايدن في السنة الماضية شرحها بإسهاب وحرصت على الإبقاء على تفاصيلها لفهم مجريات الصراع الداخلي الأميركي.
"السبب الأول. هناك طبعًا مسألة فيروس كورونا وارتداء الكمّامات. فولاية كاليفورنيا أظهرت أن نحو 62% من السكّان (بصرف النظر عن الفئات العمريّة) قد أتمّوا اللقاحيْن، فيما أتمّ نحو 82% من الذين هم أكبر من سن الـ 65 اللقاحين. ماذا يعني هذا؟ يعني أن هناك نحو ثلث السكان ممن يرفضون بعناد وصرامة تلقي اللقاح ويعتبرون أن اللقاح خطر داهم. وهناك فيض من نظريات مؤامرة مختلفة عن اللقاح تبدأ بأن شركة «مايكروسوفت» ستضع جهازًا في دماغك من خلال جرعة اللقاح، إلى نظرية أن الحكومة ستأخذ معلومات عنك من خلال اللقاح الذي ليس إلا جهاز إرسال في جسدك (يسخر الغربيون من العرب لإيمان بعضهم بنظريّة المؤامرة، فيما أميركا هي العاصمة الحقيقية لنظريات المؤامرة (والليبراليّون العرب يسخرون من نظريّة المؤامرة إذا كانت تستهدف الدور الأميركي أو الإسرائيلي فيما هم متساهلون جدًافي الإيمان بنظريات مؤامرة تتعلق بالملف النووي وحكومة إيران وحزب الله).
والكثير من معارضي اللقاح في الولاية يرفضون أيضا ارتداء الكمامات ويعتبرون فرضها، ولو في أماكن أو مبان عامة أو خاصة، انتهاك الحرية التعبير … والشعب الأميركي غريب الأطوار بعض الشيء، أو محير. هو لا يمانع في خرق حقوق الأفراد هنا، وقد أيد بأكثرية ساحقة «قانون الوطنيّة» بعد 11 أيلول، الذي أعطى سلطات هائلة للحكومة الفيدرالية، لكنه يثور ويحتج لو فرض عليه التطعيم أو لبس كمامة. وانتشار الفيروس هو بسبب هؤلاء الذين يرفضون اللقاح ويرفضون ارتداء الكمامة.
والكورونا هو سبب أول لانخفاض شعبية جو بايدن. وكان الشعب الأميركي يتوقع انفراجًا عاجلا من خلال الإدارة الجديدة بعد تخبط إدارة دونالد ترامب عندما كان في البيت الأبيض. وهو رجل لا يؤمن بالعلم ولا يكترث لنصائح الخبراء في أي حقل. بايدن جعل من إنتاج ونشر اللقاحات العنوان الأول لإدارته. وأوقع نفسه في ورطة في إسباغه الوعود أمام الشعب بالقضاء على الفيروس. لكن الطب بات يعلم الكثير عن حقيقة الفيروس، والموضوع انتقل إلى اختصاص الأمراض المعدية وخبراء الإحصاء الذين يستطيعون توقع نسب انتشاره بحسب السمات الديموغرافية للسكان. وهذه التوقّعات بالغت في رغبة السكان في تلقي اللقاح. فكيف لبايدن أن يتوقع القضاء على الفيروس فيما هناك متغيرات متعددة عن الحالة، بما فيها مواقف الناس من اللقاح وحتى من الكمامات؟
طبعًا، كان يمكن لبايدن أن يخفض نسبة انتشار الفيروس بين الناس لو أنه أصدر قرارا فيدراليا بفرض ارتداء الكمامات، لكنه يعلم أن ذلك يثير حفيظة الرجال البيض المحافظين (هناك صورة نمطية عن أعداء اللقاح هنا بأنهم معادون للعلم والطب، لكن الدرجة التعليمية الغالبة لمعارضي اللقاح هي حملة شهادة الدكتوراه).
بعد تحقيق تخفيض ملحوظ في نسبة انتشار الفيروس، استقرت نسب الإصابة، ثم صعدت ثم انخفضت لأن أعداد متلقي اللقاح لم تستمر في الارتفاع.
السبب الثاني في انخفاض شعبية بايدن يكمن في شيخوخته، وفي ظهور تعب ذهني في محادثاته مع الصحافة. هناك طبعًا تعصب عند الناس ضد المتقدمين في السن عندما يكونون في سدة المسؤولية.
وفي غياب دلائل طبية، لا يجوز تشخيص حالات عقلية لأشخاص بناء على ما نراه على الشاشة... لكن النظرة في أميركا إلى سن جو بايدن تتأثر بحالة رونالد ريغان. (أصيب ريغان بالخرف بعد انتهاء ولايته، لكن ابنه رون يعترف بأن عوارض الخرف ظهرت عليه أول مرة عندما كان رئيسا في البيت الأبيض)
ولا شك أن مسؤوليات الرئاسة الأميركية تتطلّب حضورا جسديا وذهنيا مستمرا. وخلافا لما يُظن خارج أميركا، ليس هناك من شفافية في الرئاسيات الأميركية عن حالة الرئيس الأميركي الصحية. والكثير منهم في السنوات الأخيرة لم ينشروا تقارير مفصلة عن حالاتهم الصحية. (لم نعرف مثلا أن جون كينيدي كان طريح الفراش بسبب إصابته بألم حاد في ظهره. وكان البيت الأبيض يتستر على حالة فرانكلن روزفلت عندما أصيب بشلل في رجله أثناء عطلة له في كندا، ولم يكن الشعب يعلم أن رئيسه جالس في كرسي متحرك).
والذي يزيد من حالة القلق بالنسبة إلى بايدن أن نائبة الرئيس، كاميلا هارس، ظهرت على حقيقتها أمام الناس بعد انتخاب بايدن، وهي تفتقر إلى مقومات المنصب بالنظر إلى جهلها بالسياسات العامة، وعدم قدرتها على الحديث من دون تدوينات أمامها. والشكوك حول حالة بايدن الصحية بلغت أوجها هذا الأسبوع، واضطر الرئيس إلى إصدار معلومات عن أنه ينوي الترشح لولاية ثانية. وحالة بايدن صعبة إلى درجة أنه يمكن أن يضطر إلى تغيير شخص نائب الرئيس في الولاية الثانية، لكنه لو فعل هذا فإنه سيزيد من الشكوك في رجاحة عقله.
السبب الثالث. أن الرئيس الأميركي يفتقر إلى إنجاز تشريعي. كل رئيس أميركي يحتاج إلى إنجاز تشريعي بحلول الانتخابات النصفية (بعد مرور سنتين على الفوز). ولم تقترن إدارة بايدن، بعد، بإنجاز تشريعي كبير أو هام. لقد وافق الكونغرس على قانون الإنفاق على البنية التحتية وهو بقيمة 1 تريليون دولار. لكن الموافقة على القانون تطلبت أشهرا صعبة من المفاوضات والمناكفات. وحالة البنية التحتيّة مزرية للغاية (وهي تشمل في القانون الجسور والطرقات والمطارات بالإضافة إلى تحسين وسائل النقل بالقطار (وهي هنا متخلفة كثيرا عن مثيلاتها في أوروبا وآسيا، ومياه المراحيض الآسنة تطوف نحو المقطورات ومحطات الكهرباء)، بالإضافة إلى توصيل الإنترنت السريع إلى المناطق الريفية الفقيرة.
والقانون يضم قسما متعلقا بتحسين الشروط البيئية للمواصلات والبنية التحتيّة، وهذا كان من شروط موافقة التقدميين عليه. لكن قانو الإنفاق الاجتماعي -والذي يقارب 1.85 تريليون دولار -تعثر في مجلس الشيوخ بانتظار تغيير بعض بنوده. وهذا الإنفاق هو مستوى منخفض عما كان يريده منه التقدميّون في الكونغرس الأميركي. والقانون هذا يتضمن الإنفاق على رعاية الأطفال قبل سن المدرسة، وتوسيع نطاق الرعاية الطبية للمسنين، والتعليم تحت مستوى البكالوريوس. بالإضافة إلى شق متعلق بالبيئة وإيجاد وسائل طاقة بديلة عوضًا عن الوقود الأحفوري. وهذا الإنفاق -الأقل سخاء من معظم دول الغرب الصناعية- يتطلب ضرائب جديدة لا محالة.
إدارة بايدن (الخائفة مثل كل إدارة من تهمة رفع الضرائب على شعب ينبذ الضرائب، لأن الدولة تأسست على مفاهيم بالغة التطرف في الرأسمالية، وعلى إيلاء الفرد أهمية أكبر من الجماعة في تخطيط السياسة العامة) تقول أن الضرائب ستفرض فقط على كبار الأثرياء، وأن إنفاق مليارات الدولارات على تحسين عمل هيئة الضرائب الفيدرالية سيزيد من تحصيل جباية الضرائب. لكن مكتب الميزانية الحكومي في دراسته للقانون الجديد، خفض من تقديرات الإدارة حول حجم المبالغ التي ستنتجها زيادة الجباية. والمشروع سيمر بشق الأنفس في الكونغرس الأميركي، وسيقترن أخيرا باسم جو بايدن. لكن لا الجناح الليبرالي كان راضيا عن قانون الإنفاق لأنه كان تحت مستوى الإنفاق المنشود، ولا الجناح المحافظ (مثل عضو مجلس الشيوخ جو منشن الديموقراطي من ولاية غرب فرجينيا) كان راضيًا بسبب عدم توفّر تمويل واضح المعالم للإنفاق.
قد يتحسن الاقتصاد الأميركي، وقد تحصل حرب في مكان ما... لكن لماذا على الناس في العالم النامي ترقب مجريات السياسة الأميركية كي يعرفوا إذا كان سقف بيتهم سيبقى صامدًا؟
وهل أن الإنفاق سيؤثر على حظوظ الحزب الديموقراطي؟ هناك دراسة مفصلة نشرها عالما سياسة هنا عن حظوظ الانتخاب للحزب الحاكم بعد تمرير قوانين إنفاق. والنتيجة أن الثمار ستكون صغيرة فعلا. صحيح أن هذا المستوى من الإنفاق سيدر أموالا طائلة على أنحاء مختلفة في ولايات عديدة، لكن هذا لن يكون ملموسا قبل سنوات عديدة. وفي الدوائر المعارضة لحزب الرئيس ستكون النتيجة صفرًا تقريبا أو سلبية بسبب معاداة زيادة الضرائب في تلك الأنحاء. هناك تأثير إيجابي ولكن طفيف في دوائر حزب الرئيس. أي أن آمال بايدن بأن هذا الإنفاق سيحل مشكلة حزبه في العام المقبل ستتبدد على الأرجح (هذا لا يعني أنه يمكن أن يحدث شيء ما يعزز من شعبية الرئيس، لكن ذلك يمكن أن يكون في مجالات أخرى لا تتعلق بالمشروعين، مثل أن يتحسن الاقتصاد قبل ذلك، أو أن يزول خطر الفيروس - هذه عوامل يمكن لها أنتعكس صورة الرئيس جذريا بين الناخبين).
السبب الرابع. أن مشكلة بايدن هي مشكلة كل رئيس ديموقراطي. الناخبون البيض (خصوصًا الذكور منهم) هجروا الحزب الديموقراطي، وهم يحتاجون إلى إغراءات للبقاء. بايدن استطاع أن يجذب بعض الناخبين البيض في الانتخابات الأخيرة (لكنه لم يحفز بما فيه الكفاية الناخبين الملونين). هذا رجل أبيض لديه سجل محافظ في مجلس الشيوخ، ولم يكن معروفا قبل عهد أوباما بتقدميته (هو سبق أوباما بتأييده لزواج المثليين، لكن ذلك كان في سياق استمالته لليبراليين في الحزب الديموقراطي تحضيرًا لخوضه معركة الترشيح الرئاسي). أوباما نجح في جذب ناخبين جدد، حتى من البيض. وأي رئيس ديموقراطي يحتاج إلى نسبة معينة من البيض الذكور أو الإناث. ولو نال نسبا كبيرة من القاعدة التقليدية للحزب الديموقراطي (الملونون والفقراء والنساء، مع أن النساء البيض ينقسمن بين الحزبين.
الحزب الجمهوري ينجح في تعبئة الناخبين البيض من خلال التركيز على القضايا الثقافية. أي مواضيع الصوابية السياسية، أو تنامي نفوذ المنظمات المنادية بحقوق الأقليات والمهاجرين أو تغيير المناهج ليبراليا. سيصعب على بايدن جذب ناخبين بيض جدد قبل الانتخابات النصفية من دون تحقيق إنجاز في الموضوع الاقتصادي. وأسعار النفط إلى ارتفاع سريع وهذا يؤثر كثيرا على شعبية كل رئيس….
أسعار البنزين هي مسألة أولوية في اهتمامات الناخبين في أميركا، لأن البلاد شاسعة وليس هناك من إنفاق على وسائل النقل العام (إلا فيبعض المدن في بعض الولايات). لا يمكن لأي مواطن -ولو كان فقيرا- أن يعتمد على وسائل النقل العام في التنقل. ومشروع بسيط وبديهي لوصل مدينة سان فرنسيسكو في شمال ولاية كاليفورنيا بمدينة لوس أنجليس في جنوب الولاية تعطل، لأن الناس لا يريدون زيادة الضرائب.
السبب الخامس. أن العلاقة بين الرئيس ونائبه تعطلت. ربما لم يسبق تعطلت العلاقة بين الرئيس ونائبه بهذه السرعة. صحيح أن جورج دبليو بوش لم يكن على تواصل بتاتا مع نائبه ديك تشيني في ولايته الثانية، مع أن تشيني كان الرئيس الفعلي في الفترة التي تلت تفجيرات 11 أيلول.
نائب الرئيس هو عون وسند للرئيس، ويجول البلاد للدفاع عن سياسات الرئيس كاملة.
هاريس غير مؤهلة وتفتقر لعناصر تضيف قوة سياسية إلى الرئيس. هي غير عليمة بمواضيع السياسة العامة، وكان ذلك ظاهرًا في أدائها الفاشل في المناظرات عندما خاضت معركة الترشيح في آخر انتخابات. تجيب عن أسئلة تفصيلية بسرد حادثة جرت معها في المدرسة. بايدن اختارها -بالرغم من أنها شككت في عدائه للعنصرية- لأنه احتاج إلى امرأة غير بيضاء في منصب نائب الرئيس. وتاريخ صعود هاريس اعتمد على الواسطة والعلاقات العامة، وليس على الإنجازات. حتى في تبوئها منصب وزيرة العدل المحلية في ولاية كاليفورنيا لم تميز نفسها في العمل. وهناك أحاديث في الصحافة عن علاقة سيئة وصراعات بين جناح الرئيس وجناح نائب الرئيس. وتقدم عمر بايدن وظهور معالم الشيخوخة الذهنية يزيدان من تسليط الأضواء على شخص نائب الرئيس، وهذه الحالة لا تبعث على الاطمئنان. هناك حالة من الهلع في أوساط بعض الناخبين من احتمال تسلم هاريس مقاليد الرئاسة الأميركية (وهي بالإضافة إلى افتقارها للمؤهلات والكفاءة والمعرفة السياسية، كانت قريبة جدًا من اللوبي الإسرائيلي منذ أن دخلت الحقل السياسي، لكن بايدن قريب جدا هو الآخر منه).
السبب السادس. لقد دخل في الكونغرس الأميركي في السنوات الأخيرة تيار تقدمي في داخل الحزب الديموقراطي. وهذا الجناح لا يملك الأغلبية في الحزب لكنه صوته مرتفع ويتمتع بـ«نجومية»، ممن يلفتون نظر الإعلام، (مثل ألكسندرا أوكاسيو-كورتيز وإلهان عمر). وهذا الجناح شديد الإزعاج للبيض، وهو- خلافًا لقيادة الحزب الديموقراطي الهرمة- جاذب للناشطين الديموقراطيين، ويخوض معركة لرفع كلرموز العنصرية البيضاء من كتب التاريخ والأماكن العامة. وخطاب الجناح اليساري يستفز البيض ويساعد في رصّ صفوفهم انتخابيا. كما أن الحزب الجمهوري ينجح في جعل اليسار ممثلا لكل الحزب الديموقراطي وتصويره على أنه حزب اشتراكي (في هذا البلد الغريب، ما تزال الشيوعية والاشتراكية بعبعا سهل الاستخدام في الحملات الانتخابية).
وفي المقابل، يعزز الحزب الجمهوري مواقفه من خلال تعديل شروط وقوانين الانتخابات في الولايات لجعل الاقتراع أكثر صعوبة. وتصعيب الاقتراع يستهدف الفقراء والملونين، أي جزءا من قاعدة الحزب الديموقراطي. وإعادة رسم الدوائر الانتخابية (في كل الولايات الريفية وفي المناطق الريفية في ولايات مدينية) تجري على قدم وساق في كل المجالس الاشتراعية المحلية في الولايات، لتدعيم وضمان التمثيل الجمهوري. وهذه ستكون في مصلحة الحزب الجمهوري في الانتخابات المقبلة التي يترقبها بايدن بخوف شديد.
صحيح، أن بايدن بعد عشرة أشهر في الحكم يبدو ضعيفًا بأرقام 36% من نسب رضى الناخبين عنه. وليس في وضع جسدي يسمح له بالتجوال المستمر في الولايات لشرح برامجه وتشريعاته. ونائبة الرئيس باتت تشكل عبئا أكثر مما هي إضافة للرصيد السياسي للرئيس.
لكن سنة واحدة هي زمن في الأعمار السياسية، وهناك عدة متغيرات تؤثر على موقع الرئيس الأميركي وعلى موقع حزبه. بعد حرب العراق الأولى عام 1991، فاقت نسبة تأييد جورج بوش الأب، أكثر من 90%. لكن الرجل خسر الانتخابات أمام بيل كلينتون بعد سنة واحدة فقط.
الخلاصة:
قد يتحسن الاقتصاد، وقد تحصل حرب في مكان ما (يرصد علماء السياسة هنا ظاهرة ما يسمى بـ «الالتفاف حول العلم»، أي تأييد الرئيس عندما يشن حربا في أي مكان في العالم). وقد تنخفض أسعار النفط (ترامب أعلن جهارا كيف أنه اتصل بالملك سلمان بن عبد العزيز وطالبه بخفض أسعار النفط وأنه لبى الطلب). وقد لا يعمر بايدن لولاية ثانية، أو لموعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهذا لا يمكن أن يكون في مصلحة الحزب الديموقراطي، ولو تسنى لهاريس إكمال ولاية لجو بايدن.
لكن يبقى السؤال: لماذا على الناس في العالم النامي ترقب مجريات السياسة الأميركية كي يعرفوا ما إذا كان سقف بيتهم سيبقى صامدا؟ "
*أسعد أبو خليل حسب ويكيبيديا. بروفيسور لبناني - أميركي في العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا ستانيسلاوس ويحاضر في جامعات كاليفورنيا في بيركلي، وتافتس، وجورج تاون، وجورج واشنطن وكلية كولورادو، وكلية راندولف ماكون للمرأة. ويكتب مقالا كل أسبوعين يوم السبت في جريدة الأخبار اللبنانية.
رابط مقاله في جريدة الأخبار اللبنانية "هل إدارة جو بايدن تحتضر"
رأي أسعد أبو خليل السبت 4 كانون الأول 2021