ملخص تنفيذي
سعت هذه الورقة إلى تسليط الضوء على الصراع الفلسطيني الداخلي بين حركتي فتح وحماس على السلطة، الذي يحول دون التوصل إلى تفاهمات وقواسم مشتركة تقود إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية على أسس سليمة. وأوضحت تداعيات هذا الصراع المحتدم بين الحركتين على المشروع الوطني، ومجمل القضية الفلسطينية. كما حاولت توضيح مستقبل ومآلات هذا الصراع الفلسطيني الداخلي في المنظور القريب والبعيد، من خلال مجموعة من السيناريوهات والمقاربات في ضوء التطورات الأخيرة، في ظل انسداد أفق المصالحة، وإعادة الإعمار، والتحوّل في الموقف الإسرائيلي تجاه غزة.
مقدمة
يعيش الحقل السياسي الفلسطيني حالة صراع محتدم بين تيارين رئيسَيْن في الساحة السياسية الفلسطينية: تيار وطني في أبعاده، وأفكاره، وبرنامجه السياسي والفكري، تمثله حركة فتح وباقي فصائل منظمة التحرير؛ وتيار إسلامي في أبعاده الفكرية والأيديولوجية، وبرنامجه السياسي، وتمثله حركة حماس، ومن خلفها حركة الجهاد الإسلامي.
باتت حالة الصراع الفلسطيني الداخلي المحتدم بين حركتي فتح وحماس على زعامة الشعب الفلسطيني، وتصدر المشهد السياسي الفلسطيني على المستويات العربية والإقليمية والدولية، التي تحول دون الوصول إلى مصالحة داخلية تنهي حالة الانقسام وتؤدي إلى توحيد الصف الفلسطيني؛ تشكل خطرًا على المشروع الوطني، ومجمل القضية الفلسطينية، خاصة في ظل حالة التحوّل في المواقف الدولية والإقليمية من القضية الفلسطينية.
أخذ الصراع المحتدم بين حركتي فتح وحماس على السلطة والامتيازات بعدًا جديدًا بعد أن تحول إلى صراع على الزعامة والنفوذ والامتيازات والمصالح؛ الأمر الذي يفتح الباب أمام مجموعة من التساؤلات حول أبعاد هذا الصراع، ودلالاته، ومآلاته، وتداعياته على مجمل القضية الفلسطينية؟
أولًا: أبعاد ودلالات الصراع الداخلي بين "فتح" و"حماس"
الصراعات الداخلية كثيرة ومتعددة ومتنوعة، وتأخذ أشكالًا وأبعادًا مختلفة، منها الصراع الطائفي، والديني، والعرقي، والإثني، والسياسي، وهي صراعات تتسم بالحدية والقوة والاستمرارية، وهي موجودة في كل العالم تقريبًا، لكن الصراع الفلسطيني الداخلي بين حركتي فتح وحماس له خصوصيته، فهو صراع سياسي بين تيارين مختلفين في كل شيء رغم أنهما من نفس الدين الإسلامي، والمذهب السني.
الصراع بين فتح وحماس صراع على النفوذ والمصالح والمناصب السياسية، وهو يعود إلى اختلاف توجهات الحركتين على المستويات الفكرية والسياسية، فحركة فتح عندما انطلقت لم تتبن أيديولوجية سياسية محددة، ولكنها عملت على الحفاظ على الهوية والوطنية الفلسطينية من الضياع والاندثار، واستطاعت أن تصعد إلى هرم النظام السياسي الفلسطيني، وتقود منظمة التحرير، من خلال تبنيها الكفاح المسلح، والعمل السياسي والديبلوماسي.
أما حركة حماس فانتهجت منذ انطلاقها، في العام 1987، خط التيار الإسلامي باعتبارها جزءًا من جماعة الإخوان المسلمين التي جمعت بين العمل الدعوي والعمل السياسي، وتبنت خط العمليات الاستشهادية لفرض وجودها في الساحة الفلسطينية، وقد نجحت في ذلك.
الصراع الفلسطيني الداخلي بين فتح وحماس ليس، فقط، صراعًا على مناصب سياسية، أو زعامة الشعب الفلسطيني، بل إنه صراع بين التيار الوطني الذي تمثله حركة فتح، والتيار الإسلامي الذي تمثله حركة حماس. وهو صراع يجد صداه في الاختلافات الفكرية والسياسية بين الحركات الإسلامية الفلسطينية والحركات الوطنية، نظرًا إلى اختلاف المرجعيات الفكرية والأيديولوجية للطرفين؛ فالحركات الوطنية لم تستند إلى الدين بصورة حصرية، أو أساسية، في تحليلها للقضية الفلسطينية، وبالتالي في تحديد مواقفها السياسية ونضالها الوطني، مثلما فعلت الحركات الإسلامية، التي اعتمدت الإسلام مرجعية لمثل هذا التحليل وهذه المواقف السياسية. كما أن فتح لم تعتمد التثقيف والتربية الدينية لأعضائها كما فعلت الحركات الإسلامية، التي تركز على التربية الإسلامية لأعضائها.([1])
تعتمد حركة فتح منهجًا وطنيًا عامًا غير أيديولوجي للصراع مع إسرائيل، وتعتبر نفسها تنظيمًا وطنيًا عريضًا يمثل كل صنوف الفلسطينيين، ما يمنحها مرونة أكبر في تغيير وتعديل مواقفها وفقًا لمقتضيات الصراع ونوع الصعوبات التي يمر بها المشروع الوطني الفلسطيني. بينما تنطلق حركة حماس من مبادئ سياسية - دينية وردت في ميثاقها التأسيسي العام 1988، الذي عرّف فلسطين في المادة 11 بأنها أرض وقف إسلامي لا يجوز التفريط بها، وأشارت المادتان 34 و35 إلى أن الصراع الحالي هو امتداد للحملات الصليبية ضد المسلمين.([2])
تشكل الحركات الإسلامية، على الدوام، مفصلًا محوريًا في البنية السياسية والحزبية في المجتمعات العربية، نظرًا إلى الجذور التاريخية لهذه الحركات في المنطقة؛ حيث تعود إلى مرحلة ما قبل النكبة عام 1948، سواء بوجود عدد من الشُعب التنظيمية الأولى لجماعة الإخوان المسلمين، فمع مرور الوقت تحولت فلسطين إلى بؤرة أساسية لانطلاقة عدد من الحركات الإسلامية.([3]) بينما فرضت حركة فتح شرعية قيادتها للحركة الوطنية الفلسطينية منذ سيطرتها على منظمة التحرير، على حساب مشروعية سياساتها في محطات تاريخية عدة، منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، وحتى إبرام اتفاق أوسلو، وقيام السلطة الفلسطينية في العام 1994. وكان مثال ذلك ساطعًا في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي كرس شرعية قيادته لفتح ومنظمة التحرير والشعب الفلسطيني حتى في أصعب المراحل وأكثرها إثارة للجدل والخلاف.([4])
نتج الاستقطاب الحاد بين حركة فتح وحماس بعد ظهور "حماس" باعتبارها منافسًا لـ"فتح" بعد سنوات طويلة من استفراد "فتح" بالمنظمة والنظام السياسي الفلسطيني، فقد مثّل ظهور "حماس" بمشروعها " الإسلامي الجهادي البنائي" تهديدًا لسيطرة "فتح" على الحياة السياسية الفلسطينية. فخلال فترة قصيرة، انتقلت علاقة "فتح" و"حماس" من التنافس الشديد إلى الصراع العنيف، رغم غياب الفروق الجوهرية حول المسألة الوطنية؛ حيث عاش الطرفان صراعًا أيديولوجيا وتنافسًا اجتماعيًا.([5])
بدأ الصراع الداخلي في الحقل السياسي الفلسطيني يشتد مع بروز التيار الإسلامي ممثلًا بحركة حماس والجهاد الإسلامي مع بداية انطلاقة انتفاضة الحجارة في العام 1987؛ حيث برز التيار الإسلامي بقوة على ساحة العمل النضالي والسياسي الفلسطيني، بتوجهات فكرية وسياسية، وأدوات نضالية مختلفة تمامًا عن توجهات الحركة الوطنية بقيادة فتح، وبدأ هذا الخط السياسي يشكل تحديًا جوهريًا لزعامة حركة فتح للنظام السياسي، خاصة مع معارضة هذا التيار بشدة لمشروع التسوية واتفاق أوسلو، وقيامه بالعديد من العليات التفجيرية التي ساهمت في تراجع مسار التسوية.
وظهر الاستقطاب الحاد بين حركتي فتح وحماس بوجود قوتين متوازيتين، كما بينت نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية العام 2006، وما نتج عنها من سيطرة "حماس" على قطاع غزة، وسيطرة "فتح" على الضفة الغربية، وكذلك بوجود برامج سياسية مختلفة، وارتباطات عربية إقليمية ودولية تتناقض مصالحها مع برنامج التوافق الوطني والمصالحة الفلسطينية. ([6])
لقد أحدثت نتائج الانتخابات زلزالًا سياسيًا، اهتزت له أركان النظام السياسي الفلسطيني، وتوازناته التقليدية، وليست "فتح" وحدها، ولا اليسار معها، من عانى من أثار هذا الزلال، فمن ذلك الوقت أصبح بمقدور "حماس" أن تقدم نفسها بوصفها القوة السياسية الرئيسة والأكبر في الحركة الوطنية الفلسطينية، بعد أن أثبتت قدرتها على منافسة "فتح" في قيادة العمل الوطني.([7])
لقد ساهم فوز حركة حماس، في الانتخابات التشريعية، في إعطاء الصراع بين الحركتين أبعادًا أخرى؛ حيث استحوذت كتلة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس على المشهد السياسي، الأمر الذي لم تجد معه حركة فتح التي تمتلك مفاتيح السلطة إلا الرفض للواقع الجديد. فمن المعروف أن فتح منذ انطلاقتها في العام 1965 وحتى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994، وما أعقبها من إدارة للشأن العام، كانت تعمل على استيعاب الآخر الوطني تحت عباءتها، تاركة مساحة من الاختلاف معها، لكن وفق قواعد اللعبة التي تحددها.([8])
أخذ الصراع على السلطة بين الحركتين منحى آخر أكثر خطورة بعد سيطرة حركة حماس بالقوة على قطاع غزة، وبروز مشروع إسلامي يرى فيه الدكتور إبراهيم أبراش مشروعًا مستقلًا تمامًا عن المشروع الوطني الذي اتفقت عليه فصائل منظمة التحرير في إعلان الاستقلال. ولم يكن "الانقلاب العسكري" الذي قامت به حماس في العام 2007، تصحيحًا لمسار السلطة، أو حسمًا عسكريًا ضد مرتدين على نتائج صندوق الانتخابات، وليس إنقاذًا للمشروع الوطني؛ بل كان انقلابًا على هذا المشروع، وتدشين مشروع إسلام سياسي وشرق أوسطي جديد يبدأ من غزة.([9])
لم يظهر صراع الصلاحيات بمجرد وصول "حماس" إلى السلطة، لكنه مع وصولها أصبح صراعًا يعطل سير النظام الفلسطيني؛ إذ تحول من صراع مصالح بين قادة فتح، إلى صراع برامج وعناوين. صراع تسوية ودعم دولي مقابل مقاومة وإصلاح وشرعية شعبية؛ تبعه انقسام سياسي في المؤسسات والإدارات، الخدمية والعسكرية والقضائية، وهو ما أوجد أيضًا أزمة لا تبدو نهايتها قريبة إلا بعودة الفريقين إلى الحوار، والتركيز على الوضع الداخلي، وإعادة اللُّحمة للمشروع الوطني الفلسطيني.([10])
تعاني الساحة الفلسطينية منذ سنوات عدة من انقسام خطير يتسم بالشمولية، ويدفع المصالح الضيقة لتعلو فوق المصالح الوطنية العليا، ويعيد الحالة الفلسطينية بمضامين مختلفة لحالة الصراع الحزبي التي كانت قائمة قبل العام 1948، والتي كانت محكومة بالعصبية القبلية والجهوية، رغم أن الصياغة الشمولية في التنوع الفصائلي تثري الحركة الوطنية الفلسطينية، على أساس التعامل والتكامل، والبحث عن المشترك وتقليل الخلافات، وهذا لا ينفي أحقيه كل فصيل في الاحتفاظ ببرنامجه الخاص، ما يضمن العمل لصالح القضية الفلسطينية، وإدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.([11])
الصراع في العقلية الفلسطينية أمر متجذر منذ نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو صراع أخذ أشكالًا وأساليب وأدوات مختلفة، فالصراع في الحالة الفلسطينية بدأ عائليًا قبل الكنبة، وتحوّل إلى صراع أيديولوجي بعدها بين القومي والوطني، ومن ثم إلى صراع على السلطة وزعامة الشعب الفلسطيني بين بين التيار الوطني الذي تمثله حركة فتح والتيار الإسلامي الذي تمثله حركة حماس، وهو صراع مرشح للاستمرار في المرحلة المقبلة، كون أن كل حركة من الحركتين تمثل خطًا سياسيًا وأيديولوجيًا يصعب التلاقي والاتحاد مع الخط الآخر.
توضح أبعاد هذا الصراع أننا أمام حالة صراع حادّ على السلطة بين تيارين كبيرين يمثل كل منهما كتلة جماهيرية كبيرة بتوجهات سياسية وأيديولوجية مختلفة، وتحالفات إقليمية متصارعة على الورقة الفلسطينية. فالصراع في الحالة الفلسطينية بين "فتح" و"حماس" بدأ بصراع برامج حول توجهات سياسية محددة، لكنه تحول إلى صراع على النفوذ والموارد والسلطة بعد اقتراب حركة حماس من برنامج التسوية، وهذا يمثل تطورًا في منحى الصراع نفسه.
ثانيًا: تداعيات الصراع الداخلي على القضية الفلسطينية
لا شك أن استمرار الانقسام الفلسطيني وحالة الصراع المحتدمة بين حركتي فتح وحماس على السلطة، وشبكة الامتيازات المرتبطة بها باتت تهدد المشروع الوطني ومجمل القضية الفلسطينية، فقد أدى استفحال هذه المعضلة إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية على المستويات الدولية والإقليمية؛ ما ساهم في تخلي بعض الدول العربية عن ربط العلاقة مع إسرائيل بحل القضية الفلسطينية، في إطار ما بات يعرف باتفاقيات السلام المجاني.
وشكّلت هذه المعضلة تحديًا خطيرًا وتهديدًا مباشرًا للمشروع الوطني الفلسطيني باعتباره مشروعًا تحرريًا، إضافة إلى تباين رؤي ومواقف الفصائل الفلسطينية حول المصالحة الفلسطينية، التي ما زالت تراوح مكانها حتى الوقت الراهن، بسبب التجاذبات الحزبية من جانب، والتدخلات الخارجية والارتهان لأجندات خارجية من جانب آخر. فكل ذلك يشكل تحديًا وعقبة أمام توحيد الصف الوطني الفلسطيني عبر إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية.([12]
ومن مظاهر انتقال الصراع الداخلي في الحالة الفلسطينية إلى صراع على السلطة والزعامة، مع اقتراب حركة حماس من مشروع التسوية، وقبولها بدولة فلسطينية على حدود 1967 كما جاء في وثيقة السياسات العامة التي صدرت عن الحركة في العام 2017؛ غياب الرؤية السياسية والإستراتيجية للعلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، والتحولات الدولية والإقليمية، والتركيز على شبكة الامتيازات والمنافع. فالصراع بين الحركتين الآن يدور حول السلطة، وشبكة المنافع والمكاسب التي تدور في فلك السلطة، مع زيادة القوى المستفيدة من بقاء حالة الانقسام على طرفي المعادلة الداخلية الفلسطينية، وربط المشروع الوطني بعملية السلام وجهود التسوية.
فقد بات من الواضح أن أحد أهم أسباب غياب الوحدة الوطنية، واستمرار حالة الصراع الداخلي، هو تخلي الحركة الوطنية الفلسطينية عن مشروعها الوطني، وأهدافها الأولية، واختزال القضية الفلسطينية بمجرد أرض محتلة في الضفة والقطاع، وتحولها من حركة تحرر وطني إلى مجرد سلطة في الضفة والقطاع قبل دحر الاحتلال.([13])
أكثر التحديات التي تواجه القضية الفلسطينية والمشروع الوطني، هو ربطه بدرجة كبيرة بالمصالحة الفلسطينية الغائبة، وإمكانية توحّد الفلسطينيين، وربطة أيضًا بمشروع التسوية المستند إلى قرارات الشرعية الدولية، في ظل الضعف العربي والانحياز الأميركي لإسرائيل.
أخطر ما نتج عن ربط المشروع الوطني الفلسطيني بالقرارين 242/338، هو افتقاد المشروع الوطني استقلاليته الوطنية، وهي الاستقلالية التي دخلت المنظمة دفاعًا عنها حروب كثيرة، فمع التوقيع على اتفاقية أوسلو تم الانتقال من مشروع وطني تحرري مقاوم إلى مشروع وطني خاضع لشروط تسوية غير متوازنة. ([14])
لم يتصور أحد أن يكون هدف المشروع الوطني إنشاء (سلطة حكم ذاتي)، لإدارة شؤون الفلسطينيين في الأرض المحتلة. وعلى الرغم من أن التسوية السياسية جاءت لتلبي أحد مرتكزات المشروع الوطني الفلسطيني، القائم على حق تقرير المصير، وإقامة الدولة، وحق العودة، فإن انخراط منظمة التحرير في مشروع التسوية، الذي تمخض عنه إقامة السلطة الفلسطينية باعتبارها خطوة على طريق الدولة لم يأت بالنتائج المرجوة.([15])
لقد أدى دخول المنظمة، ومن ثمّ السلطة، في "عصر أوسلو"، وما نتج عن ذلك من ترتيبات على الأرض منذ العام 1993، إلى جعل الجانب الإسرائيلي "الحاضر الغائب" في كثير من الأحيان في صناعة القرار لدى قيادة المنظمة وقيادة السلطة؛ إذ أدت اتفاقية أوسلو إلى انتقال قيادات "المقاومة" للإقامة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وألزمت المنظمة بعدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة، وبإقامة سلطة وطنية يتحكم الإسرائيليون بمدخلاتها ومخرجاتها، ووارداتها وصادراتها، وتحويل أموالها، وانتقال أفرادها وقياداتها ([16]).
بدأت أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية ومجمل النظام السياسي الفلسطيني في التفاقم، عندما أتضح أن إمكانية تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني تتراجع باستمرار، وذلك لسببين أساسيين([17]):
الأول: أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة اعتمدت سياسة فرض الحقائق على الأرض، عبر توسيع وتكثيف الاستيطان، وبناء جدار الضم والتوسع، وتقطيع الأوصال بالطرق الالتفافية والمناطق الأمنية والعسكرية، ومصادرة الأراضي، وإغلاق المناطق؛ حيث أصبح ويصبح هدف إقامة الدولة الفلسطينية بعيد المنال.
الثاني: إن السياسات والخطط وأدوات العمل الفلسطينية فشلت فشلًا ذريعًا، ولم يتم وضع سياسات وخطط وأدوات عمل جديدة بدلًا منها قادرة على حماية المشروع الوطني والتقدم على طريق تحقيقه.
تعيش الحركة الوطنية الفلسطينية هاجس انفراط عقد الوحدة الوطنية، وانقسامًا سياسيًا بين فصائلها. فقد شكل الانقسام المعضلة الرئيسة والأساسية أمام القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، التي أثرت في مسار النضال الوطني الفلسطيني، وحدّت من الوصول إلى تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في العودة، وتقرير المصير، وإقامة دولته الوطنية المستقلة على ترابه الوطني. فقد شكلت هذه المعضلة تحديًا خطيرًا وتهديدًا مباشرًا للمشروع الوطني الفلسطيني باعتباره مشروعًا تحرريًا.([18])
ويتجلى مأزق الحقل السياسي الفلسطيني في الوصول إلى مرحلة اللاشعور لمعظم القوى السياسية الموجودة على الساحة السياسية الفلسطينية، فالسمة الرئيسة التي تحكم الظواهر السياسية للنخبة السياسية في الوقت الراهن، هي "اللاشعور بالمسؤولية"؛ نتيجة التردي الذي وصلت إليه الأوضاع كما يقول محمد الجابري في كتابه النقدي "العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته"؛ حيث يرى أن العقل السياسي العربي وصل إلى مرحلة "التكلس السياسي واللا شعور".([19])
إن تقويض قدرة المنظومة السياسية الفلسطينية، بالإنهاك والتضييق والانقسام وتجفيف مصادر "الشرعية"؛ قد يشكل مدخلًا لتقويض المشروع الوطني، خصوصًا إذا ما رافقته محاولات تقويض ركائز مجتمع "الصمود" ومقوماته. ففي ظل التسوية انتهى جدل وحدة النظام وانقسامه إلى نظامين للسيطرة "دون سيادة" أحدهما في الضفة الغربية والثاني في القطاع. وهذا ويكاد ينهي جدل بناء وتفكك "الشعب، والمجتمع، والإجماع" على تكريس التجزئة الناشئة عن فعل الاقتلاع والتشريد.([20])
أضاع الصراع الداخلي الفلسطيني المستمر والمُتجذّر القضية الفلسطينية، وأعاق الممارسة الديمقراطية، فلم تعقد انتخابات تشريعية ورئاسية منذ عقد ونصف تقريبًا، فتحوّل الصراع على إثر "الانقسام" إلى تناحُر داخلي بحت على سلطة حكم ذاتي بدلًا من الصراع مع الاحتلال. فالسلطة في الضفة تحت الاحتلال؛ والسلطة في غزّة تحت الحصار والضربات الإسرائيلية المتواصلة، والشعب هو الخاسر الوحيد، وإسرائيل هي الرابح الوحيد.
لم تتمثل أزمة الحقل السياسي الفلسطيني في ظل استمرار حالة الصراع في عجزه عن تحقيق أهدافه فقط، بل في عدم اعتراف القوى الفاعلة والمقررة فيه ("فتح" و"حماس" واليسار) بمسؤوليتها عن الفشل أيضًا. وتكمن مشكلة تلك القوى في أنها ما زالت غير مدركة تمامًا للتراجع الخطير الذي وصلت إليه، في بناها، ومكانتها، وقدراتها، أو أنها تتجاهل ذلك عن عمد. كما أن تلك الأزمة لم تدفع القوى السياسية الفلسطينية الفاعلة إلى مراجعة نقدية للمرحلة السابقة، واستخلاص إستراتيجيات نضالية فاعلة في المرحلة الراهنة. ([21])
يعاني المشروع الوطني الفلسطيني حالة من الانسداد وفقدان الاتجاه، وهي ليست أزمة جديدة، بل هي تحصيل حاصل لحالة التشتت المجتمعي، وغياب هدف وطني جامع للفلسطينيين، وإخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية في مهماتها، وهو أيضًا نتاج التأزم في عملية مواجهة المشروع الصهيوني باعتباره مشروعًا استعماريًا استيطانيًا وإحلاليًا وعنصريًا، وبحكم تمتّع المشروع الصهيوني بعناصر الغلبة في موازين القوى، والمعطيات العربية والدولية.([22])
على الرغم من عدالة القضية، واتفاق الكل الفلسطيني على أهمية التمسك بالحقوق الفلسطينية، فإن استمرار حالة الصراع على السلطة، والتباين في المواقف، وبروز الخلافات داخل حركة فتح، إضافة إلى الخلافات الفكرية والشخصية والأيديولوجية حول أهداف ومحددات النضال الوطني والوسيلة المتبعة للوصول إلى الأهداف؛ ساهم إلى حد كبير في تراجع فرص تحقيق إنجازات سياسية حقيقية للشعب الفلسطيني، تصب في طريق حريته، واستقلاله، وإقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
ثالثًا: مآلات الصراع الداخلي بين "فتح" و"حماس"
يعد استشراف مستقبل ظاهرة الصراع الداخلي الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس أمرًا لا يقل صعوبة عن تناول الصراع نفسه، خاصة أننا أمام حركتين تمثلان القوة الجماهيرية الأكبر في الشارع الفلسطيني، وتمتلكان من عوامل القوة والتحالفات الإقليمية ما يجعل من الصعوبة التنبؤ بمستقبل الصراع بينهما، فضلًا عن أن الصراعات الداخلية في المجتمعات العربية تتسم بطول الأمد، كونها تعتمد، في الأساس، على العقل العربي القائم على فكرة "القبيلة والغنيمة والعقيدة" وفق الجابري.
السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه عند تناول مآلات الصراع الداخلي الفلسطيني، وإمكانية انتهائه أو حسمه لصالح طرف ضد الطرف الآخر، هو: هل هناك إمكانية للتوافق والشراكة الوطنية عبر الحوار الوطني بين هذين التيارين: التيار الوطني الذي تمثله حركة فتح، وتيار الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس؟
بين حركتي فتح وحماس تاريخ طويل من التنافس والصراع وانعدام الثقة، ومع أنهما تمثلان عمودي الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وتحصدان عادة أكثر من 80% من أصوات الناخبين الفلسطينيين، غير أنهما لم تنجحا حتى الآن في إدارة خلافاتهما ضمن بنية مؤسسية واحدة، ولا في الاتفاق على أولويات المشروع الوطني الفلسطيني، ولا في تنفيذ الاتفاقات التي توقعانها. وأدت حالات الشد المتبادل بين الطرفين في حالات عديدة إلى نتائج سلبية على العمل الفلسطيني، وإلى تعطيل كل طرف لمسار الآخر بحجة المصلحة الوطنية الفلسطينية.([23])
تقدم حركتا فتح وحماس برنامجين مختلفين: برنامج فتح الذي يستند، أساسًا، إلى خطة التسوية، وبرنامج حماس الذي يستند، أساسًا، إلى خط المقاومة. والخلاف بينهما، في حقيقته، تعبيرٌ عن عملية إدارة كلّ منهما لبرنامجه ضمن الظروف المتاحة، وما يواجه كل برنامج من عقبات وتحديات، غير أن المشكلة تزداد تعقيدًا إذا تعلق الأمر بمشاكل بنيوية داخلية، أو بقلة الخبرة، أو سوء الإدارة لدى أيٍّ من الطرفين.
وهنا يطرح الحوار الوطني الفلسطيني، برعاية مصرية، إشكاليات وإحالات سياسية معقدة ومركبة، يتداخل فيها المحلي مع الإقليمي مع الدولي، كما يتداخل فيها السياسي في الاجتماعي والاقتصادي، مع أن خيارات الشعب الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني تستدعي التغلب على مجمل الخلافات الأيديولوجية، والتكاتف مع التنوع في المجتمع في إطار الوحدة الوطنية.([24])
الخلافات السياسية في الحالة الفلسطينية هي كالخلافات والصراعات السياسية الأخرى التي شهدتها المجتمعات السياسية المختلفة عبر العصور، والتي هي طبيعية ومتنوِّعة، وتتحول إلى انقسامات عند استفحال تلك الصراعات والفشل في معالجتها. كما أن مبادرات إنهاء الانقسام بصيغها المختلفة، هي صيغ لإعادة إنتاجه، وتقوم على تقاسم السيطرة والنفوذ بين حركتي فتح وحماس؛ ما يَحُدّ من قدرتها على إنهاء الانقسام([25]).
هناك صعوبة كبيرة في إمكانية التنبؤ بمستقبل الصراع الدائر بين حركتي فتح وحماس على زعامة الشعب الفلسطيني في ظل زيادة التدخلات الخارجية في صنع القرار الفلسطيني، وفقدان القرار الكثير من استقلاليته التي كلفت الحصول عليها معارك سياسية وعسكرية، إلى درجة صارت معها بعض الجهات الخارجية هي صاحبة القول الفصل في تحديد مصير بعض القضايا، التي هي في صلب الشأن الداخلي الفلسطيني.([26])
ربما من المفيد القول إننا أمام حالة صراع صفرية ليس فيها طرف خاسر أو رابح، كون أن حالة الصراع لا توثر فقط في الحركتين، بل باتت تؤثر في مجمل الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، وامتدت إلى الساحتين الدولية والإقليمية. كما أنها انعكست على الجاليات الفلسطينية في الخارج، وعلى مكانة القضية الفلسطينية في عيون الشعوب الأخرى.
على الرغم من صعوبة التنبؤ بمستقبل الصراع الداخلي الفلسطيني، فإنه يمكن لنا وضع مجموعة من السيناريوهات والمقاربات التي يمكن أن تساهم في استشراف مستقبل هذا الصراع، خاصة في ضوء امتلاك كل طرف من الأطراف لعوامل قوة تساهم في إمكانية حسم الصراع لصالحه، وعوامل ضعف يستفيد منها الطرف الآخر، ومنها:
سيناريو حسم الصراع لصالح فتح
تمتلك حركة فتح في صراعها مع حركة حماس عوامل قوة تعتمد، في الأساس، على الشرعية الثورية والدستورية والمتمثلة في شخص الرئيس محمود عباس، وعلى الاعتراف الدولي والعربي بمنظمة التحرير ومؤسساتها باعتبارها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني. كما أن من أهم عوامل القوة التي تمتلكها حركة فتح الشرعية العربية والدولية التي تتجسد في شخص الرئيس عباس ومؤسسات منظمة التحرير، كما تمتلك الحركة قوة جماهيرية كبيرة تظهر خلال مهرجانات انطلاقة الحركة، ما يؤهلها للبقاء في هرم السلطة لفترات قادمة.
إضافة إلى شرعية مؤسسات منظمة التحرير، والاعتراف الدولي والإقليمي والعربي بها، تمتلك حركة فتح عوامل قوة أخرى، ربما من أهمها مكانة الحركة في العقل الجمعي الفلسطيني، كونها حافظت على الهوية الوطنية واستقلال القرار الوطني الفلسطيني. فتح الفكرة والهوية والقرار الوطني المستقل تختلف عن فتح التنظيم، وهي لها مكانة خاصة لدى العقل الجمعي الفلسطيني، وهذا ما يظهر خلال مهرجانات انطلاقة الحركة التي تمثل انطلاقة حقيقية لفكرة الثورة والتحرير.
أما على مستوى عوامل الضعف التي تعاني منها "فتح"، فيتمثل العامل الأول في صراعها الداخلي مع حماس، كما تعاني الحركة من تكلس النظام السياسي الذي تقوده، وتآكل رهيب في شرعية مؤسسات المنظمة، إضافة إلى الانقسامات الداخلية التي برزت من خلال تشكيل ثلاث قوائم انتخابية محسوبة على الحركة خلال التحضير للانتخابات التشريعية التي تأجلت في العام 2021. فالصراع داخل "فتح" أصبح يأخذ أكثر من شكل، وهو مرتبط بمرحلة ما بعد الرئيس عباس التي يستعد لها جميع الأطراف بشكل جدي.
على الرغم من جماهيرية حركة فتح الكبيرة، وامتلاكها أدوات قوة داخلية ترتكز على شرعية مؤسسات منظمة التحرير، وتاريخ نضالي طويل، فإن مظاهر الضعف والترهل في جسم الحركة وبرنامجها السياسي، وتآكل شرعية مؤسسات المنظمة، وارتفاع أعمار القيادة الفلسطينية والصراع داخلها؛ لا يساهم بأي حال من الأحوال في بقاء الحركة في هرم السلطة في النظام السياسي لفترات طويلة قادمة، فهل نشهد مزيدًا من التحولات في النظام السياسي قريبًا عبر تولي "حماس" مقاليد الأمور بصورة كلية؟
سيناريو حسم الصراع لصالح "حماس"
تملك حركة حماس عوامل قوة تعتمد، في الأساس، على مشروع المقاومة ضد إسرائيل، وخوضها حروبًا على فترات متباعدة، لتذكير المجتمع الفلسطيني والعربي والإسلامي أنها ما زالت حركة مقاومة، ولم تتخل بعد عن السلاح، وتحاول الحصول على القبول الدولي والإقليمي من خلال توطين فكرها السياسي وخطابها لمزاحمة حركة فتح على الشرعية الدولية والإقليمية.
كما تمتلك الحركة جهازًا تنظيميًا قويًا ومتماسكًا، تتفرع منه أجهزة دعوية وعسكرية وإعلامية وجماهيرية قوية. وتلعب أدوارًا مهمة ومؤثرة، على المستويات الداخلية الفلسطينية. كما أنها استطاعت فرض نفسها على المعادلة الدولية والإقليمية رغم وجودها في التنصيف الأميركي للحركات الإرهابية، بعد أن عدّلت ميثاقها السياسي، ووطنت فكرها السياسي في وثيقة المبادئ والسياسات العامة التي صدرت عنها.
ومن أهم عوامل القوة لدى الحركة نجاحها في توظيف برنامج المقاومة في خدمة مشروعها للحكم، فقد وظفته لحماية سلطتها في غزة وتعزيزها، عبر ضبط أداء فصائل المقاومة بما يتلاءم مع مشروعها للحكم في غزة، من خلال ما يعرف بالغرفة المشتركة، التي تعمل على التصعيد والتهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي بما يخدم مشروع الحكم والزعامة.
ترتكز قوة حركة حماس في المعادلة الداخلية الفلسطينية على ورقة غزة، باعتبارها ورقة قوة في يد الحركة، لا تريد التفريط بها في المنظور القريب، لأن بقاء سيطرتها على غزة يساهم في بقاء الحركة لاعبًا رئيسًا في المعادلة الفلسطينية، لكن هذه الورقة كما تشكل مصدر قوة فإنها تشكل أيضًا مصدر ضعف، خاصة في ظل تردي الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في، ما يحملها جزءًا رئيسًا عن استمرار معاناة سكان القطاع.
أما عوامل الضعف التي تعتري طريق حركة حماس للوصول إلى هرم النظام السياسي الفلسطيني، فتتمثل في أنها تعاني تحديات دولية وإقليمية نتيجة الشروط الدولية التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية للتعامل مع الحركة (الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف، والقبول بالاتفاقيات الموقعة)، وكذلك تحديات في البيئة الدولية نتيجة وضعها ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية على المستوى الأوروبي والأميركي، ما يحول دون التعامل معها بشكل مباشر، إضافة إلى أن الحركة ليست لديها الخبرة السياسية الكافية لتولي دفة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، فضلًا عن تحديات الوضع الإنساني المتدهور في قطاع غزة.
كما ساهم التحول في السياسات الإسرائيلية تجاه حكم الحركة في القطاع عقب جولة التصعيد التي اندلعت في أيار/ مايو 2021، في وضع تحديات جديدة أمام الحركة في غزة، ويمثل هذا التحول قوة ضغط على "حماس"، بعد أن ربطت إسرائيل وإدارة بايدن بين إعادة الإعمار وعودة السلطة إلى غزة وتسلم جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزة لدى حماس.
على الرغم من كثرة أوراق القوة التي تمتلكها حركة حماس في المعادلة الفلسطينية الداخلية، فإن الشروط الدولية والمواقف الأميركية والأوروبية والإسرائيلية تجاه الحركة، وتجاه عملية إعادة الإعمار، والتحوّل النوعي والمهم في السلوك الإسرائيلي تجاه حكم الحركة في غزة عقب العدوان الأخير؛ يضعف من قدرة الحركة على الصعود إلى هرم النظام السياسي الفلسطيني، وتولي الزعامة الفلسطينية في المنظور القريب؛ إلا إذا التزمت بالشروط الدولية. فتولي حماس زعامة الشعب الفلسطيني يتطلب منها الالتزام بشروط الرباعية، والاعتراف بإسرائيل، والتخلي عن مشروع المقاومة، فهل ستقبل الحركة بهذه الشروط والالتزامات من أجل الحصول على القبول الدولي والإسرائيلي؟
سيناريو بقاء الوضع الراهن
تمثل حركتا فتح وحماس خطين متوازيين من الصعب أن يتلاقيا، ومن الصعب أيضًا حسم الصراع لحساب طرف بالضربة القاضية. فـ"فتح" تمثل التاريخ النضالي والأكثر بروزًا في الساحة النضالية الفلسطينية، والفصيل المهيمن على منظمة التحرير والثورة الفلسطينية على مدار عقود، بينما تمثل "حماس" عنفوان التيار الإسلامي الذي برز وتصدر المشهد العربي خلال السنوات الماضية، ويمتلك كل طرف منهما العديد من عوامل الضعف والقوة تجعله قادرًا على الاستمرار في الصراع الدائم على الزعامة.
في ضوء هذا التنافس والصراع المحتدم، نرى أن فرصة أي طرف على حسم المعركة لصالحه غير متوفرة في المنظور القريب، مع أن الكفة تميل لصالح حركة حماس رغم المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الناتج عن آثار حرب 2021 والموقف الأميركي والإسرائيلي من عملية إعادة الإعمار؛ بسبب ضعف الأداء السياسي لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، وارتكابها بعض الأخطاء السياسية الكبيرة، مثل الدعوة للانتخابات التشريعية والتراجع عنها، وتآكل شرعية مؤسسات منظمة التحرير، وتحجيم دور السلطة في الضفة الغربية، وبروز خلافات عميقة داخل حركة فتح، فكل هذه عوامل تجعل الكفّة تميل لصالح حركة حماس.
تعتمد حركة فتح على تاريخها النضالي، وما تمتلكه من شرعية دولية وعربية، وعلى مؤسسات المنظمة والسلطة، وهي شرعيات بدأت في التآكل والتلاشي، بينما تعتمد حركة حماس على صعودها الكبير في الساحة الفلسطينية، وجهازيها العسكري والإعلامي، ومؤسساتها التعليمية والاجتماعية، كما تعتمد على ما حققته من نجاحات في مواجهة الاحتلال خلال الحروب التي خاضتها على جبهة غزة.
تساهم عوامل القوة التي يتمتع بها كل طرف في استمرار حالة الصراع وتعقده، وصعوبة الوصول إلى تفاهمات وقواسم مشتركة، فضلًا عن تحوّل القوى الفلسطينية الأخرى إلى قوى تابعة لهذا الفصيل أو ذاك، في ظل استمرار حالة الاصطفاف السياسي، وعدم القدرة على الوصول إلى تيار ثالث قادر على تغير قواعد اللعبة ليؤدي دور بيضة القبان.
إن سيناريو بقاء حالة الصراع في ظل ما يمتلكه كل طرف من أدوات قوة مقابل الطرف الآخر، هو الأكثر ترجيحًا في المنظور القريب؛ لكن هذا لا يمنع إمكانية حدوث تحولات نوعية وجوهرية في بنية النظام السياسي في مرحلة ما بعد الرئيس عباس. فإذا استمرت حالة تراجع "فتح"، سياسيًا وتنظيميًا، وتقدم "حماس"، فهل يشهد النظام السياسي مزيدًا من التحوّلات داخل هياكله ومؤسساته قريبًا؟
خاتمة
لا يمثل الصراع المحتدم بين حركتي فتح حماس صراعًا فكريًا وأيديولوجيًا بين خطين متوازيين من الصعب الجمع والتوافق بينهما فحسب؛ وإنما يمثل صراع مصالح ونفوذ على السلطة بعد اقتراب "حماس" من برنامج التسوية، فرغم جسر الفجوة بين مشروعي الحركتين السياسي، واقتراب مشروع "حماس" من أسس التسوية عبر قبولها صراحة الدولة على حدود 1967، إلا أن ذلك لم ينعكس على علاقة الحركتين، وإمكانية التوصل =إلى مصالحة داخلية فلسطينية تنهي مرحلة الانقسام، وتعيد توحيد مؤسسات النظام الفلسطيني المنقسم على نفسه تحت الاحتلال.
ترى "فتح" أنها الأكثر قدرة على الاستمرار في قيادة الشعب الفلسطيني، من خلال مؤسسات منظمة التحرير التي تحوز على الشرعية العربية والدولية، بينما ترى "حماس" أنها الأجدر على قيادة الشعب الفلسطيني بعد النجاحات التي حققتها من خلال مشروع المقاومة.
إن حالة الضعف التي تعاني منها "فتح" وتآكل شرعية مؤسسات المنظمة؛ يجعل إمكانية حدوث تحولات جذرية في بنية النظام السياسي واردة جدًا، خاصة في مرحلة ما بعد الرئيس عباس، التي قد تشكل نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة مختلفة تمامًا.
في المجمل: في ضوء استمرار هذا الصراع في أبعاده الفكرية والسياسية، وفي دلالاته وتداعياته، من المرجح استمرار حالة الانقسام، وتعززها في الحالة الفلسطينية، إلى حين توفر معطيات سياسية وميدانية لطرف من أطراف العادلة تمنحه القدرة على حسم الصراع لصالحه، كون الصراع الداخلي الفلسطيني بين "فتح" و"حماس" يمثل صراع بقاء بين خطين سياسيين من الصعب أن يتلاقيا، وهو صراع عمودي يصعب جسره، ويمثل ذلك مرض الحقل السياسي الفلسطيني، الذي بات يؤثر في مجمل الأوضاع الفلسطينية، خاصة في ظل صعوبة حسمه لطرف ضد طرف آخر، رغم ما تعانيه حركة فتح من تراجع في شعبيتها، وتآكل في شرعية المؤسسات التي تقودها.
الهوامش
([1]) سميح حمودة، الحركات الإسلامية: المشروع الوطني والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في: الحركات الإسلامية وأسس الشراكة السياسية في النظام السياسي الفلسطيني، ط1، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، البيرة، 2014، ص 15-16.
([2]) باسم الزبيدي، الانقسام الفلسطيني ومتطلبات التخطي، مركز مسارات، 6/4/2016: bit.ly/3vOAUHu
([3]) عدنان أبو عامر، الحركات الإسلامية والمشاركة السياسية والديمقراطية ... "حماس" نموذجًا، في: الحركات الإسلامية وأسس الشراكة السياسية في النظام السياسي الفلسطيني، ط1، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، البيرة، 2014، ص 45.
([4]) خليل شاهين، "فتح" والبحث عن تجديد الشرعية، مركز مسارات، 8/5/2016: bit.ly/3x8LdqO
([5]) عدنان أبو عامر، الحركات الإسلامية، ص 48.
([6]) وثيقة الوحدة الوطنية، مركز مسارات، البيرة، 2015، ص 3.
([7]) عبد الإله بلقزيز: أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، من "فتح" إلى "حماس"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2006، ص 95-97.
([8]) أحمد يوسف، أسس الشراكة السياسية بين التيارات والقوى الفلسطينية، في: المؤتمر السنوي الخامس: إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، ط 1، مركز مسارات، البيرة، 2017، ص 192.
([9]) إبراهيم أبراش، الانقسام الفلسطيني وصناعة دويلة غزة، دار الكلمة للنشر والتوزيع، غزة، 2018، ص 35.
([10]) مريم عيتاني، محسن صالح (محرر)، صراع الصلاحيات بين فتح وحماس في إدارة السلطة الفلسطينية 2006-2007، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2008، ص 115.
([11]) عدنان أبو عامر، المشروع الوطني الفلسطيني والمقاومة المسلحة في ضوء الحرب على غزة، مجلة سياسات، العدد 30، 2014، ص 38.
([12]) أمجد عابد، إشكالية الوطني والإسلامي في الفكر السياسي الفلسطيني، (رسالة ماجستير)، جامعة الأزهر، غزة، 2017، ص 159.
([13]) نديم روحانا، المفاوضات وأزمة المشروع الوطني، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 96، 2013، ص 9.
([14]) إبراهيم أبراش، المشروع الوطني: التباس التأسيس وتحديات التطبيق، مجلة سياسات، 2009، ص 39.
([15]) منصور أبو كريم، مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني في ضوء تعثر مشروع التسوية والمصالحة الفلسطينية، المركز العربي للدراسات التطبيقية (مدى الكرمل)، حيفا، 2019، ص 10.
([16]) محسن صالح، أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، الجزيرة نت، 24/9/2012: goo.gl/aL77pn
([17]) هاني المصري، أين المشروع الوطني الفلسطيني؟، مركز مسارات، 24/7/2007: goo.gl/L2crKs
([18]) أمجد عابد، إشكالية الوطني والإسلامي، ص 159.
([19]) محمد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته، وتجلياته، ط 4، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000، ص 15.
([20]) تيسير محيسن، النظام السياسي الفلسطيني: إعادة التموضع في إطار الجغرافيا السياسية الجديدة في المنطقة!، بوابة الهدف الإخبارية، 23/7/2019.
([21]) جميل هلال، إشكاليات التغيير في النظام السياسي الفلسطيني، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 87، صيف 2011، ص 32.
([22]) ماجد كيالي، صعود وأفول الهوية الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 90، 2012، ص 21.
([23]) محسن صالح، "حماس" وانعقاد المؤتمر السابع لـ(فتح)، الجزيرة نت، 21/11/2016: goo.gl/mSf9no
([24]) محمد هواش، الحوار الفلسطيني بين تطابق البرامج وتعارض المصالح، مجلة سياسات، العدد 8، 2009، ص 83.
([25]) باسم الزبيدي، الانقسام الفلسطيني ومتطلبات التخطي، مصدر سابق.
([26]) عاطف أبو سيف، النظام السياسي الفلسطيني. الحاجة للتغير، مجلة سياسات، العدد 8، 2009، ص 10.