الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   20 نيسان 2022

| | |
هل يمكن للفلسطينيين استخلاص الدروس من الحقائق التي كشفتها الحرب في أوكرانيا (2)؟
غانية ملحيس

تناول الجزء الأول خصائص النظام الدولي الذي دشنه عصر الحداثة الأوروبية. المغاير لما سبقه من عصور، بسعيه لتوظيف الإرث المعرفي التراكمي للحضارات البشرية من أجل إحكام سيطرة الإنسان على العالم. عبر إخضاع الطبيعة بالعلوم لتعظيم عوائد استغلالها. واعتبار الغالبية الساحقة من بني البشر موردا للاستغلال. وإدراج القوى العاملة ضمن بند التكاليف في حساب الأرباح والخسائر، واعتبار أجرها عبئا يتوجب خفضه إلى الحدود الدنيا لتعظيم أرباح المستثمرين.

وأعاد تعريف الحقوق الإنسانية وفقا لمعادلة الثروة والقوة. ما غير مفاهيم الحياة الإنسانية ومقومات العيش على كوكب الأرض. وعلى أساسها صاغ العلاقات بين الشعوب والدول، وبين الأفراد داخلها. كما أعاد تعريف حاجات البشر وفقا لاعتبارات تحركها الغرائز التي لا حدود لجموحها. ولا رادع لعواقب انفلاتها، ولا قيود على طرق إشباعها باستخدام ما يبتدعه العقل البشري من فنون الإخضاع والسيطرة بأدواتها الناعمة والخشنة للاستحواذ على قوت الضعفاء.

ومنذ ذلك الحين، بات تطور التاريخ الإنساني رهنا بالتنافس بين الإمبراطوريات الإمبريالية للسيطرة على الموارد والأسواق عبر العالم. فاندلعت الحروب وتنقلت مراكز القيادة الدولية بين المنتصرين وفقا لمدى اتساع نفوذهم العسكري والاقتصادي. توسعت الإمبراطوريات البلجيكية والهولندية والإسبانية والبريطانية خلال القرن السابع عشر في قارات العالم القديم والحديث. وهيمنت الإمبراطورية الفرنسية في القرن الثامن عشر على معظم القارة الأوروبية وامتدت سيطرتها إلى إفريقيا. وسيطرت الإمبراطورية البريطانية على ربع الكرة الأرضية خلال القرن التاسع عشر. فباتت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

ومع تفاقم الصراع بين القوى الإمبريالية المتنافسة. اندلعت في مطلع القرن العشرين أول حرب كونية تواصلت أربع سنوات، فقسمت الأوطان وغيرت الخرائط الجغرافية والديموغرافية. وكبدت العالم نحو 17 مليون قتيل وحوالي 20 مليون جريح، واعتبر نحو 6 مليون شخص في عداد المفقودين. ناهيك عن ملايين اللاجئين، والدمار الشديد والخسائر الاقتصادية الجسيمة.

وبما أن الانتصار في الحروب لا يمثل ربحا لأولئك الذين تجري الحروب على أراضيهم. فهم خاسرون وإن انتصروا. فلا يعودون بعد الحرب بذات القوة والسطوة التي كانوا عليها قبلها. وعليه، فبالرغم من انتصار بريطانيا وفرنسا وتثبيت موقعهما كقوى عظمى في الحرب العالمية الأولى واستيلائهم على إرث الإمبراطوريات المهزومة وتقاسمه بينهما.

كانت الولايات المتحدة الأمريكية - التي أسسها المستعمرون المستوطنون الأنجلو - سكسون بعد إبادة السكان الأصليين. قد توسعت في الشمال والشرق والجنوب. وأطلقت يد المستثمرين. واستقدمت ملايين العمال والمزارعين الأجانب الذين تحتاجهم للبناء والتطور. ووحدت البلاد بالقوة في إطار اتحاد فيدرالي. وأرست منظومة قانونية تحفظ تفوق العرق الأبيض. واستكملت سيطرتها على محيطها الجيوب -استراتيجي للتأهب للقيادة الدولية. فتدخلت اقتصاديا في الحرب لدعم الحلفاء عبر “برنامج الإعارة والتأجير". وأمدتهم ا بالسلاح والمؤن، ثم شاركت فيها عسكريا قبيل عام من انتهائها. ما رجح موازين القوى وسرع بهزيمة الإمبراطوريات الوازنة (الألمانية والنمساوية والمجرية والعثمانية). بالتزامن مع انهيار الإمبراطورية الروسية بفعل الثورة البلشفية عام 1917 وانسحابها من الجبهات واندلاع الحرب الأهلية فيها.

وباتت الرابح الأكبر من الحرب التي جرت بعيدا عن حدودها، وأسهمت في تطوير صناعاتها العسكرية. وضاعفت صادراتها بنحو ثلاثة أضعاف، فأصبحت القوة الصناعية الرائدة في العالم، وتضاعف ناتجها المحلي الإجمالي، وتراجع معدل البطالة إلى الثلث، وتضاعفت أجور العاملين، وارتفعت مستويات المعيشة فيها بشكل ملموس، وتحولت من دولة مدينة إلى دائن عالمي. فتأهلت للقيادة العالمية.

وبالنظر إلى إجحاف التسويات التي تجري في أعقاب الحروب وفقا لموازين القوى، لإمعان المنتصرين بإذلال المهزومين وتحميلهم كامل أعباء الحرب. فلم يكد يمض عقدين على انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى انفجرت في 1/9/1939 حرب عالمية ثانية أشد ضراوة. قادتها القوى القومية والفاشية التي تولت الحكم في ألمانيا وإيطاليا واليابان، لاستعادة ما فقدوه بالحروب وللتوسع الإقليمي. ثم انزلقت إليها الدول تباعا، فانخرطت فيها ثلاثون دولة، وتواصلت ست سنوات. وقتل فيها نحو سبعون مليون إنسان معظمهم من المدنيين. شكلوا، آنذاك، أكثر من 2.5% من إجمالي سكان العالم. وتركز نحو 95%من مجموع القتلى في عشر دول: الاتحاد السوفييتي (34.3%) والصين (28.6%) وألمانيا (12.6%) وبولندا (8%) واليابان (4.4%) والهند (3.6%) والفليبين (1.4%) ورومانيا (1.2%) واليونان (1.1%) والمجر (0.83%). وتسببت باقتلاع وتشريد عشرات الملايين. وكبدت البشرية خسائر مادية واقتصادية فادحة. وغيرت الخرائط السياسية والجغرافية والديموغرافية والبنى الاقتصادية والاجتماعية في العالم. فولدت دول واختفت أخرى. وانهزمت قوى دولية مركزية (ألمانيا واليابان). وانحسر، أيضا، نفوذ القوى الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا) رغم انتصارهما، لتكبدهما خسائر فادحة، واستقلال غالبية مستعمراتهما في آسيا وإفريقيا.

وبرزت الولايات المتحدة الأمريكية، كقوة عظمى أولى اقتصاديا وعسكريا. كما برز الاتحاد السوفييتي الذي سيطر جيشه على أوروبا الشرقية والوسطى كقطب ثان وازن على الساحة الدولية.

وتوافق المنتصرون على إنشاء نظام دولي جديد لإدارة العالم /الأمم المتحدة /. سرعان ما انقسم فور تشكله إلى نظامين متعارضين يختلفان في الرؤى والأهداف والمناهج وأنماط الإدارة: 

نظام رأسمالي وازن عسكريا ومتفوق اقتصاديا بفعل مكتسبات الثورة الصناعية والتكنولوجية. يحتفظ بإرث استعماري راكم ثرواته من استعباد الشعوب عبر قرون. يسيطر على أمريكا الشمالية وأستراليا وأوروبا الغربية واليابان. ويمتد نفوذه في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، التي أثرت عبر حربين كونيتين. يقدس الملكية الفردية ويعتمد الاقتصاد الحر الذي يتيح للأقوى التفوق عند تفعيل آليات السوق. ويدير في مناطق سيطرته العالمية منظومتين متباينتين: - الأولى: منظومة رأسمالية - قيمية وسياسية واقتصادية وقانونية - خاصة بالمراكز الرأسمالية المتقدمة (الأسياد). تعطي الأولوية للحقوق الفردية، وتوفر هامشا واسعا للحريات الشخصية، وتعتبر الربح المادي معيارا رئيسيا للنجاح وإن كان على حساب الموارد الطبيعية والبيئة والمناخ. وتوفر الفرص للقادرين على استغلالها وتوظيفها. وتعتمد على التراكم الرأسمالي كوسيلة للنمو والتنمية. وتنتهج سياسات اقتصادية / مالية ونقدية/ تحابي الأقوياء. وتدير مجتمعاتها بنظام حكم ديموقراطي يقبل التعددية السياسية والحزبية، ويتداول السلطة سلميا عبر انتخابات دورية تخضع لضوابط قانونية محكمة تضمن استقرار وتطور النظام الرأسمالي. وتعززه منظومة إعلامية موجهة تتسع لحرية التعبير والتنافس بين الأفراد والجماعات. والثانية: منظومة رأسمالية استنزافية خاصة بالمستعمرات السابقة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية( العبيد). تخضع للسيطرة الإمبريالية العسكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية عبر نظم محلية مستبدة موالية ومطواعة، تحظى بامتيازات لقاء التزامها بتأمين الموارد الطبيعية والمعدنية والبشرية والطاقة التي تحتاجها المراكز الرأسمالية الغربية المتقدمة، والأسواق لتصريف فوائضها الإنتاجية، وتكفلها بإخضاع الشعوب.

ونظام اشتراكي استحدثته ثورة الفقراء والعمال في روسيا بعيد الحرب العالمية الأولى، ضعيف اقتصاديا ومتخلف تكنولوجيا، يقوده قطبان: الاتحاد السوفييتي(المثقل بأعباء حرب أهلية وحربين كونيتين في عقود ثلاثة ) سيطر عسكريا على دول أوروبا الشرقية والوسطى وكوريا الشمالية خلال الحرب العالمية الثانية. والصين/ التي استعادت الأراضي التي فقدتها في حروبها مع اليابان/ واختلفت لاحقا مع الاتحاد السوفيتي حول تطبيق الاشتراكية). يتبنى العقيدة الماركسية - اللينينية، التي تؤمن بتساوي الحقوق والحاجات الإنسانية. وتسعى لإزالة الفوارق الطبقية بالارتكاز على الملكية العامة لوسائل الإنتاج. يعطي الأفضلية للحقوق الجماعيه على الفردية، ويؤمن بعدالة توزيع عوائد التنمية بين جميع أفراد المجتمع. ويعتمد نظام حكم شمولي. ويدير البلاد بسلطة الحزب الواحد، وينتهج التخطيط المركزي في تخصيص الموارد المتاحة وفقا لأولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يحددها الحزب الحاكم.

وبالرغم من الفجوة الواسعة التي تفصل النظام الرأسمالي المتجذر عن النظام الاشتراكي الناشئ على صعيد الموارد والثروات والتطور الحداثي (المعرفي والصناعي والتكنولوجي والمؤسسي).

إلا أن نجاح الاتحاد السوفييتي في السيطرة عسكريا على أوروبا الشرقية والوسطى خلال الحرب العالمية الثانية، وتمكنه عام 1949 من كسر الاحتكار الأمريكي لامتلاك الأسلحة النووية ذات القدرة التدميرية الشاملة. أسس لثنائية قطبية في النظام الدولي، ترتكز على توازن الرعب بين النظامين. ما أبعد شبح اندلاع حرب عالمية ثالثة على غرار الحربين الأولى والثانية لحسم الصراع المستجد بينهما. فاستعاض عنها النظام الرأسمالي بحرب باردة، تختلف نوعيا عما سبقها من حروب، فتتجنب الصدام العسكري المباشر لمخاطره التدميرية. وتنشأ في الآن ذاته أحلافا عسكرية: - حلف شمال الأطلسي/الناتو/ الذي أنشئ عام 1949. وحلف وارسو الذي أنشئ بالمقابل عام 1955. ما فرض سباق تسلح محموم بينهما، وانخرطا في حروب ساخنة تجري بينهما بالوكالة عبر الأطراف المتناحرة في دول العالم الثالث.

وشكلت الحرب الاقتصادية ميدان الصراع المباشر بينهما. حيث يختل ميزان القوى بشدة لصالح النظام الرأسمالي. فتم إنشاء التكتلات الاقتصادية، واستخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية والتجارية الفتاك، ومشروطية المؤسسات الاقتصادية المالية والنقدية والتجارية الدولية التي يسيطر عليها النظام الرأسمالي /البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسة التمويل الدولية والجات إلخ …) لمحاصرة الدول الاشتراكية الوليدة، ذات البنى الزراعية والصناعات الصغيرة المتخلفة تكنولوجيا، ومنعها من الوصول للموارد والطاقة والتمويل والتكنولوجيا الحديثة التي تحتاجها للنهوض وتحديث اقتصاداتها من جهة. ولتقييد فرص وصول فوائضها الإنتاجية للأسواق الخارجية، وعزلها عن الاقتصاد الدولي من جهة أخرى.

وزاد الصعوبات أمام الدول الاشتراكية الناشئة، اضطرارها لتركيز استثمار الموارد المحدودة المتبقية المتاحة على البنية الأساسية المادية والاجتماعية والصناعات الثقيلة، ذات المردود بعيد المدى. على حساب الصناعات الاستهلاكية والترفيه ذات المردود السريع على مستويات المعيشة. ما وسع الفجوة بين الوعود الطموحة التي بشرت بها النظرية الماركسية - اللينينية، وبين النتائج المتواضعة المحسوسة لعموم المواطنين. وعمقها انقسام النظام الاشتراكي بسبب تنامي الخلافات بين الصين والاتحاد السوفييتي على مناهج التطبيق. وفاقمها تراجع الحريات الفردية والسياسية والدينية والإعلامية وتشديد القيود على تنقل المواطنين خارج دول المنظومة الاشتراكية. وظهور طبقة سياسية مستبدة متنفذة تستأثر بالامتيازات وتنفرد بالحكم.

وأدى تفاعل هذه العوامل مجتمعة إلى تراجع الحماسة والتأييد الشعبي للنظام الاشتراكي. خصوصا بين الأجيال الفتية التي ألفت العيش في ظل الاشتراكية، وباتت ترى في المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية التي تحققت كمسلمات. ما حفزها على التمرد والتطلع لمحاكاة الديموقراطية الغربية، ومستوى الرفاه وأنماط الحياة الجذابة في المجتمعات الرأسمالية، التي تم تجنيد المنظومة الإعلامية العالمية بكثافة للترويج لها.

وعزز قوى المعارضة التي بدأت تتنامى في الدول الاشتراكية وتطالب بالإصلاح والتغيير. وحظيت بدعم القوى الرأسمالية الغربية المتربصة بالنظام الاشتراكي التي سارعت لتوظيف الفرصة، فاندلعت احتجاجات شعبية في عديد الدول الاشتراكية، ووجهت بعنف من الأنظمة لقمعها رافقها أحيانا تدخل عسكري سوفييتي. ما أجج السخط الشعبي داخل الدول الاشتراكية، واتجاه المركز السوفييتي.

وزاد الوضع سوءا التدخل العسكري السوفييتي في أفغانستان عام 1979 لدعم الحكومة الموالية ضد هجمات المعارضة المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية والصين وباكستان والسعودية. وأشعلت حربا تواصلت نحو عشر سنوات. واستنزفت جزءا مهما من الرصيد الأخلاقي والقيمي الذي ميز النظام الاشتراكي، والكثير من الموارد المادية والبشرية. دون أن ينجح في القضاء على المعارضة الأفغانية. ما اضطره للانسحاب في مطلع العام 1989.

وسرع تردي الأداء العسكري والسياسي والاقتصادي، والإخفاق في تحقيق الوعود الجذابة للاشتراكية، التمرد على النظام الاشتراكي الذي بلغ ذروته في ثمانينيات القرن الماضي، ونجح في إيصال قيادات المعارضة إلى الحكم في غالبية الدول الاشتراكية. ومكن، أيضا، قيادات المعارضة في الحزب الشيوعي السوفييتي المطالبة بالإصلاح من السيطرة على مراكز صنع القرار. وقامت بتغييرات دراماتيكية قاربت الانقلاب، فعزلت القيادات الشيوعية التقليدية، وتقاربت مع الغرب الرأسمالي، ووثقت بالوعود التي قطعها قادة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية -أثناء التفاوض لإنجاز الوحدة الألمانية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي - بعدم توسع حلف الناتو في أوروبا الشرقية عند حل حلف وارسو.

وغالت القيادات الجديدة في تفاؤلها، فعمدت في مطلع التسعينيات إلى تفكيك مجموعة الكوميكون، وحل حلف وارسو، وحل الاتحاد السوفييتي والاعتراف باستقلال دوله الراغبة بالانفصال دون أية ضمانات أمريكية أو أطلسية مقابلة موثقة.

وبانهيار النظام الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، انتهت الحرب الباردة التي تواصلت أكثر من أربعة عقود (1945-1989). ولم يتبق من الدول التي تتولى إدارتها أحزاب شيوعية / ماركسية- لينينية/ سوى جمهوريات كوبا، وفيتنام، ولاو، وكوريا الشمالية. والصين الشعبية - التي كان لها السبق في منتصف سبعينيات القرن الماضي بالانفتاح على النظام الرأسمالي. والسماح بالملكية الخاصة. والتحول نحو تشجيع الاستثمار الأجنبي المصحوب بالتكنولوجيا الغربية، الذي تدفق عليها بكثافة لرخص اليد العاملة. وأسفر عن تحول تدريجي طوعي للصين نحو اقتصاد السوق -دون التفريط بسيطرة الحزب الشيوعي الحاكم والتخطيط المركزي- وتأسيس نظام مختلط بين رأسمالية الدولة، والاستثمار الخاص المنفتح على الاستثمار الخارجي المتبادل مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية.

وبذلك نجح النظام الرأسمالي باستعادة سيطرته على النظام الدولي، وانفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة العالمية.

وعوضا عن توظيف اللحظة أحادية القطب والقيادة، لبناء عالم أكثر توافقا وسلاما. عمدت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عولمة نموذجها النيوليبرالي. حيث يتنامى تركز الثروة والقوة والسلطة في يد قلة ضئيلة من المجمعات الصناعية العسكرية والنفطية والمالية التي تسيطر على القرار الأمريكي والأطلسي. ووظفت الفرصة المواتية لإنشاء النظام العالمي الجديد الذي بشر به الرئيس بوش الأب في مطلع التسعينيات، وتنفرد أمريكا بتحديد قواعده، ليخلف النظام القديم الذي ساد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عبر عسكرة الأمن الدولي لفرضه على العالم وإخضاعه لجبروتها بالقوة. فانتهكت التعهد بعدم توسيع حلف الناتو شرقا. واستغلت عدم وجود منافس عسكري نظير، لإطلاق مرحلة جديدة من التوسع العسكري الأمريكي، دون خوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة. وشرعت بضم عديد الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي ودول المنظومة الاشتراكية تباعا لحلف الناتو. فوصل عدد أعضائه إلى ثلاثين دولة (14 منها من دول الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية السابقة). وتدخلت لتغيير أنظمة الحكم في عدد من دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا والشرق الأوسط، وتنصيب حكومات موالية. وشنت وحلفاؤها سلسلة من الاعتداءات العسكرية ضد الدول والشعوب الأضعف عسكريا في إيران وأفغانستان والعراق ولبنان والصومال وباكستان وليبيا وغزة وسوريا واليمن وغرب إفريقيا.

وعوضا عن أن يؤدي النظام العالمي الجديد إلى تقليص العسكرة. جرى تسريعها وتكثيفها بوتائر غير مسبوقة. فازداد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة الأمريكية (التي لم يزد عدد سكانها /المستوطنين والأصليين/ وفقا لبيانات العام2020 عن 332 مليون نسمة، يمثلون نحو 4.3% فقط من إجمالي سكان العالم البالغ تعداده في نفس العام 7.752 مليون). فتجاوز مجموع إنفاق العالم بأسره (عند إضافة ميزانيات وكالات الاستخبارات ووزارات الأمن الداخلي والطاقة، وشؤون المحاربين القدامى إلى ميزانية البنتاغون البالغة 780 مليار دولار). وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك أكثر من 5500 سلاح نووي استراتيجي -ما يكفي لتفجير العالم 50 مرة- وأقامت 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة أجنبية. وأنشأت 300 مصنعا ومختبرا للأسلحة البيولوجية والجرثومية حول العالم. ونشرت قواتها وخبراءها العسكريين في حوالي 160 دولة ومنطقة أجنبية.

في الوقت الذي لا يمتلك فيه من باتت الولايات المتحدة الأمريكية تصنفهم كأعداء (الصين وروسيا) سوى ثلاث قواعد عسكرية خارجية.

فلا تمتلك الصين (التي بلغ عدد سكانها وفقا لبيانات العام 2020 أكثر من مليار وأربعمائة مليون نسمة يمثلون 18.5% من سكان العالم)، سوى قاعدة عسكرية واحدة في القرن الأفريقي. ومع ذلك اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية " أكبر تهديد وجودي منذ الحزب النازي في الحرب العالمية الثانية"-وفقا لتوصيف الجنرال روبرت سبالدينغ، الذي قاد فريقا في البنتاغون لصياغة استراتيجية جديدة للتعامل مع صعود الصين الاقتصادي- فاعتبرها أكبر من التهديد السوفييتي بكثير "بوصفها القوة الاقتصادية الثانية في العالم، ولديها القدرة- على حد تعبيره - للوصول للحكومات والمؤسسات في الغرب بدرجة تتجاوز ما كان عليه السوفييت بكثير".

وعوضا عن أن تحذو الولايات المتحدة الأمريكية والغرب حذو الصين في توجيه الموارد الهائلة للتنمية والتقدم الاقتصادي والتكنولوجي. فيعملون، بذلك، على تعزيز الأمن والسلم الدوليين. بدأوا بشن حرب باردة على الصين على غرار الحرب الباردة السابقة مع الاتحاد السوفييتي. بلغت ذروتها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. ولم تتورع حكومة الولايات المتحدة الأمريكية - قائدة النظام الرأسمالي وزعيمة اقتصاد السوق والتجارة الحرة - عن التدخل المباشر في الاقتصاد: تارة بفرض رسوم جمركية بلغت قيمتها 200 مليار دولار على الصادرات الصينية بدعوى "الممارسات التجارية غير العادلة وسرقات الملكية الفكرية". وتارة ثانية بحظر بيع منتجات شركة هواوي في السوق الأمريكية بذريعة خطرها على الأمن القومي. وتكثيف الضغوط على حلفائها الأوروبيين لمنعهم من استخدام التكنولوجيا الصينية. وتارة ثالثة بفرض عقوبات اقتصادية عليها بذريعة انتهاكها لحقوق الإنسان. وتارة رابعة بتمويل المعارضة الصينية والمنظمات غير الحكومية لتأليب الأقليات وتشجيع النزعات الانفصالية. وتارة خامسة بإثارة توترات أمنية في محيطها الجيو - سياسي.

وقد أوضحت بوني غليسر مديرة مشروع قوة الصين بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأسباب الحقيقية للقلق الأميركي بقولها: "لو نجحت الصين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، فربما تتجاوز الولايات المتحدة كقوة أولى في العالم".

والملفت أنه بالرغم من ارتفاع حدة الاستقطاب بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي على نحو غير مسبوق خلال العقد الأخير. إلا أنهما يتفقان معا على اعتبار الصين أكبر تهديد للأمن القومي والاقتصادي الأميركي. وبأنه يتوجب وقف تقدمها، بمعاقبتها وحرمانها من سلاسل التوريد الأميركية بذريعة ضمان "تجارة عادلة". وبالسعي لإشراك حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية وعموم المجتمع الدولي في الضغط على "الصين الشيوعية" كي تمتثل لقوانين التجارة الأميركية والدولية.

ولم تتورع زعيمة العالم الحر، أيضا، عن ممارسة الضغوط على اللجنة الأولمبية الدولية لنقل ألعابها الشتوية لعام 2022 إلى خارج الصين، بدعوى "تهديدات الصين في الخارج، وطغيانها في الداخل".

وفور وصول الرئيس بايدن للبيت الأبيض تبنى وثيقة" التوجيه الإستراتيجي المؤقت لإستراتيجية الأمن القومي "تضمنت توجيهات الإدارة الديموقراطية الجديدة لوكالات الأمن القومي في مواجهة التحديات العالمية. وورد ذكر الصين 20 مرة في الوثيقة التي لم يتعد عدد صفحاتها 20 صفحة.

والغريب أنه لم يرد ذكر روسيا الاتحادية في الوثيقة إلا خمس مرات. رغم أن الولايات المتحدة الأميركية تشن عليها حاليا حربا اقتصادية عالمية غير مسبوقة في التاريخ. وبالرغم من أنها لا تشكل خطرا اقتصاديا أو عسكريا، ولا تمتلك سوى قاعدتين فقط خارج الفضاء السوفياتي السابق.

وأوضحت الوثيقة الأميركية أنه "يجب علينا أن نتأهب لحقيقة أن توزيع القوة والسلطة في جميع أنحاء العالم يتغير. ما يخلق تهديدات جديدة". وأن الصين على وجه الخصوص "أصبحت المنافس الوحيد القادر على الجمع بين القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، وتحدي النظام الدولي المنفتح والمستقر". الأمر الذي يتوجب عدم السماح به. ما يعني أن الولايات المتحدة الأميركية لن تألو جهدا ولو بالقوة، لمنع ظهور منافسين وازنين على المسرح الدولي، حتى وإن كانوا شركاء لها في النظام الرأسمالي النيوليبرالي المعولم.

وتبرر الولايات المتحدة الأمريكية - صاحبة السجل العدواني الأكبر في التاريخ والسلوك العنصري الأعنف عبر العصور - حروبها الخارجية تارة بالدفاع عن حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، رغم أنها أكثر الدول استباحة لهذه الحقوق. وتارة أخرى بالدفاع عن حقوق الإنسان، رغم أنها أكبر منتهكيها حتى في الداخل الأمريكي ضد مواطنيها الأمريكيين الأفارقة والملونين واللاتينيين والعرب والمسلمين. وتتذرع بنشر الديموقراطية، في الوقت الذي تطيح فيه بالقادة المنتخبين ديموقراطيا، عندما يحاولون الحفاظ على مصالح ناخبيهم ويرفضون الإذعان لجبروتها. وسجلها وحلفاؤها حافل بالانقلابات (ليس أولهم محمد مصدق في إيران عام 1953 ولن يكون آخرهم عمران خان في باكستان الأسبوع الماضي) وبالاغتيالات للقادة الذين يتجرؤون على التمرد لحماية مصالح شعوبهم (الملك فيصل، وسلفادور إليندي، وياسر عرفات على سبيل المثال لا الحصر) وعشرات القادة غيرهم على امتداد الكرة الأرضية. ولا تكتفي الولايات المتحدة الأمريكية بتغيير القادة في دول العالم الثالث. بل يعطي رئيسها لنفسه الحق بالقول بان" الرئيس بوتين لا يمكنه البقاء في السلطة"!!

وفي ضوء ما تقدم، يتضح أن لا علاقة للحرب العالمية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو حاليا على روسيا عبر أوكرانيا، بالحرص على استقلال أوكرانيا (التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي /1919-1991/ واستقلت عنه بعد انهياره قبل ثلاثة عقود، وخمس سكانها روس).

فلم يكن استقلال أوكرانيا الذي اعترفت به روسيا الاتحادية رسميا بعد حل الاتحاد السوفييتي مهددا، لو رفض نظامها القيام بدور الوكيل الأمريكي والتزم الحياد الإيجابي. ولم يكن مهددا لو التزمت الولايات المتحدة الأمريكية بالتعهدات التي سبق أن قدمتها بعدم توسع حلف الناتو في أوروبا الشرقية -كما كشفت الوثائق التي رفعت عنها السرية في الأرشيف القومي الأمريكي-. ولو اكتفت بما سبق وضمته لحلف الناتو من دول الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية (أربعة منها تقع على الحدود الروسية. إذ ضم حلف الناتو كلا من بولندا والمجر والتشيك عام 1999. وضم رومانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ودول البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وإستونيا عام 2004. ثم ضم ألبانيا وكرواتيا عام 2009. وجمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) عام 2017 وجمهورية شمال مقدونيا عام 2020).

ولم يكن استقلال أوكرانيا مهددا لو توقف حلف الناتو عن مواصلة تسليحها وإجراء المناورات العسكرية على أراضيها المجاورة لروسيا. ولو أصغى لمخاوف روسيا الأمنية التي أوضحها الرئيس بوتين في مؤتمر الأمن الأوروبي بميونيخ عام 2007 وحدد فيها "الخطوط الحمراء" التي يتعذر على روسيا القبول بها. غير أنه لم يلتفت إلى جدية اللحظة، آنذاك، سوى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، اللذين عارضا انضمام جورجيا وأوكرانيا لحلف الناتو، لتلافي التصعيد مع روسيا. ربما لأنهما كانا يدركان أن أوروبا ليست بعيدة عن دائرة الاستهداف الأمريكي وسعيها لمنع تطور قوة اقتصادية أوروبية وازنة تهدد استمرار الهيمنة الأمريكية على القرار الأوربي. وقيامها بحث بريطانيا على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لإضعافه. ومحاولاتها الدؤوبة لتعطيل تنفيذ مشروع نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا الاتحادية/ نورد ستريم 2/ الذي سيغطي كامل احتياجات أوروبا من الوقود الأزرق النظيف والرخيص نسبيا. وفرضها العقوبات على الشركات المنفذة للمشروع. واشتراطها - عندما تعذر وقف المشروع - تقديم ضمانات ألمانية بالإبقاء على أوكرانيا ممرا للطاقة (بالضغط على روسيا لتجديد اتفاق نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا الذي ينتهي عام 2024). والتعهد أيضا، بتقديم مليار دولار لأوكرانيا لمساعدتها في التحول للطاقة النظيفة. وآخرها توقيع الاتفاق الأمني الثلاثي بين الولايات الأمريكية وبريطانيا وأستراليا "أوكوس" لتبادل تقنيات عسكرية متقدمة، وإلغاء العقد الأسترالي الموقع عام 2016 مع فرنسا بقيمة 66 مليار دولار أمريكي.

وعوضا عن مراعاة تحفظ الحلفاء الغربيين، والمخاوف الأمنية الروسية. سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي في قمة بوخارست عام 2008 إلى الإعلان رسميا عن منح العضوية لكل من جورجيا وأوكرانيا، عندما "تتوافقان مع معايير الحلف".

وردت روسيا على ذلك بدعم الانفصاليين في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، واعترفت عام 2008 باستقلالهما عن جورجيا، ورحبت بانضمامهما إلى الاتحاد الروسي (كانت جورجيا منذ بداية القرن التاسع عشر جزءا من الإمبراطورية الروسية. واستقلت عنها بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 ثم جرى ضمها للاتحاد السوفييتي عام 1922، وبقيت جزءا منه حتى استقلالها في أعقاب تفككه عام 1991).

وعند الإطاحة بالرئيس الأوكراني المنتخب الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش باحتجاجات عنيفة في العاصمة كييف عام 2014، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية. قامت قوات موالية لروسيا في شبه جزيرة القرم - حيث غالبية السكان من أصول الروسية - بالسيطرة عليها، ونظموا استفتاء عاما طالبوا فيه بالانضمام إلى روسيا الاتحادية، التي سارعت بضمها واعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الجديد في أوكرانيا والغرب استفتاء غير شرعي. (كانت شبه جزيرة القرم جزءا من الإمبراطورية الروسية منذ العام 1802، وتمتعت بحكم ذاتي داخل الاتحاد السوفييتي حتى عام 1945، تم إلغاؤه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، وضمت لجمهورية روسيا الاتحادية. ثم ألحقها الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف /الأوكراني الأصل/ عام 1954 بأوكرانيا، التي كانت إحدى الجمهوريات المؤسسة للاتحاد السوفييتي، للتقريب بين الروس والأوكرانيين. وبقيت شبه جزيرة القرم (التي تضم القاعدة البحرية الروسية الوحيدة في المياه الدافئة، ومقر الأسطول الروسي في البحر الأسود) مع أوكرانيا عند استقلالها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991).

وأعقب ضم شبه جزيرة القرم لروسيا اشتباكات مسلحة في إقليم الدونباس في منطقتي دونيتسك (75% من سكانها يتحدثون اللغة الروسية و43% منهم روس/، ولوغانسك 69% من سكانها يتحدثون الروسية و38% منهم روس). وجرت عدة محاولات لتطويقها، فتم توقيع اتفاق (مينسك 1) في بيلاروسيا في 5/9/2014، لكنه أخفق في وقف إطلاق النار بين القوى الموالية لروسيا، وبين قوات الحكومة الأوكرانية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية. ثم جرت محاولات ألمانية - فرنسية لمنع تدهور الموقف وإنهاء الأزمة الأوكرانية. فعقد اتفاق (مينسك 2) في 12/2/2015 بين روسيا وأوكرانيا بمشاركة فرنسا وألمانيا ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. (تضمن الاتفاق 13 بندا بدءا بوقف فوري لإطلاق النار في دونيتسك ولوغانسك، وسحب جميع الأسلحة الثقيلة مسافة متساوية بهدف إنشاء منطقة أمنية عازلة بين الطرفين. وإشراف منظمة الأمن والتعاون الأوروبي على عملية التنفيذ، وإطلاق حوار وطني حول إجراء الانتخابات المحلية وفق الدستور الأوكراني، ووضع قانون نظام الحكم الذاتي المؤقت في مناطق محددة من مقاطعتي دونيستك ولوغانسك، والنظام المستقبلي لهذه المناطق وفق القانون المذكور. والعفو العام والعمل بقانون منع ملاحقة ومعاقبة الأشخاص المرتبطين بالأحداث في دونيستك ولوغانسك، وإطلاق سراح وتبادل كافة الأسرى والموقوفين وفق لمبدأ "الجميع مقابل الجميع"، خلال 5 أيام كحد أقصى بعد سحب القوات. وتأمين وصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين وفق الأنظمة الدولية، وتحديد أشكال الاستئناف الكامل للاتصالات الاجتماعية والاقتصادية، بما فيها التحويلات الاجتماعية مثل رواتب التقاعد وغيرها. واستعادة الحكومة الأوكرانية سيطرتها الكاملة على حدود الدولة في جميع مناطق النزاع. على أن تبدأ هذه العملية في اليوم الأول من الانتخابات المحلية، وتنتهي بعد تسوية سياسية شاملة. وسحب جميع التشكيلات الأجنبية المسلحة والأسلحة الثقيلة والمرتزقة من الأراضي الأوكرانية تحت مراقبة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ونزع سلاح جميع المجموعات غير القانونية، وإجراء إصلاحات دستورية في أوكرانيا مع بدء سريان الدستور الجديد حتى نهاية العام 2015، الذي يفترض اللامركزية، وسنّ تشريعات دائمة حول الصفة الخاصة لمناطق محددة في مقاطعتي دونيستك ولوغانسك حتى نهاية العام 2015. والاتفاق على المسائل الخاصة بالانتخابات المحلية مع ممثلي المناطق المحددة من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك في إطار مجموعة الاتصال الثلاثية /تضم ممثلين عن أوكرانيا والاتحاد الروسي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي/ وإجراء انتخابات مع التقيد بمعايير منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وتكثيف مجموعة الاتصال الثلاثية من خلال إنشاء مجموعات عمل لتنفيذ البنود الخاصة باتفاقية مينسك التي من المفترض أن تنهي الأزمة الأوكرانية).

غير أنه تم خرق اتفاق مينسك 2 عدة مرات، وتواصلت الاشتباكات المسلحة المتقطعة بين الحكومة الأوكرانية التي يسيطر عليها القوميون المدعومون من الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وبين الانفصاليين المدعومين من روسيا. وأخفق 29 اتفاقا متتابعا لوقف إطلاق النار بإنهاء الاقتتال في أوكرانيا.

وواصلت دول الناتو شحن الأسلحة إلى أوكرانيا وتدريب قواتها المسلحة، وإشراكها بالتدريبات الجوية والبحرية المشتركة. وتفاقم التوتر الروسي - الأوكراني في شهر تموز/ يوليو /2021 عندما استضافت أوكرانيا وأمريكا تدريبات بحرية كبيرة في منطقة البحر الأسود، شاركت فيها قوات بحرية من 32 دولة. وكادت عملية "نسيم البحر" أن تستفز روسيا لإطلاق النار على مدمرة تابعة للبحرية البريطانية، تعمدت دخول المياه الإقليمية الروسية.

وبلغ التوتر الروسي- الأمريكي ذروته في تشرين الأول / أكتوبر/ 2021، عندما سربت وسائل الإعلام خبر مصادقة وزراء دفاع الناتو على خطة سرية خاصة بـ “ردع العدوان الروسي المحتمل على أوكرانيا "، تنص على تحضير الحلف لشن هجوم متزامن على روسيا في البحر الأسود وبحر البلطيق، بما يشمل استخدام أسلحة نووية وفضائية وعمليات سيبرانية. فتقدمت روسيا على إثر تسريب الوثيقة" بمبادرة الضمانات الأمنية" وأعدت مسودتي اتفاقيتين: الأولى مع حلف الناتو، والثانية مع الولايات المتحدة الأمريكية، للالتزام الجماعي بمبدأ "الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا". والامتناع عن نشر منظومات هجومية تشكل خطرا على أي طرف. وتقديم ضمانات خطية بوقف تمدد حلف الناتو، وتخليه عن وعوده بشأن انضمام جورجيا وأوكرانيا. الأمر الذي رفضته الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو.

فحذرت روسيا أوكرانيا من مخاطر استمرار التعزيزات العسكرية في منطقتي دونيتسك ولوغانسك، دون جدوى. وبدأت بحشد جيشها على الحدود الأوكرانية. واجتاحتها في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير/ الماضي. بذريعة الدفاع عن الروس في المنطقتين وعن أمنها القومي الذي باتت تراه مهددا، إذا ما واصل حلف الناتو مساعيه لضم أوكرانيا وإقامة القواعد العسكرية على الحدود الروسية.

وفي ضوء ما تقدم، يتضح أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا، لم يكن حدثا معزولا، أو رغبة في التوسع واستعادة الماضي السوفيتي كما يروج. وإنما رد فعل على الحرب التي تواصل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو شنها على روسيا الاتحادية منذ انتهاء الحرب الباردة لإخضاعها وتكريس هزيمتها، ودفع النظام في أوكرانيا لخوضها بالوكالة.

وهي ذات الحرب التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية على الصين، المنافس الرئيسي الذي تستهدف عرقلة تقدمه بتصعيد العقوبات الاقتصادية، وتتعمد استفزازها عسكريا في محيطها الجغرافي. بعبور المدمرات الصاروخية الأمريكية في مضيق تايوان. وإرسال الوفود من وزارة الدفاع / البنتاغون/ والأمن القومي، وزيارة المشرعين الأمريكيين لتايوان، والترويج إعلاميا بأن الصين ستتبع خطوات روسيا ضد تايوان.

أردت بهذا الاستعراض المسهب الذي بدأه المقال الأول بتاريخ 13/3/2022، استكمال تحديد الإطار المعرفي لبيئة الصراع الدولي المحتدم التي يتعين علينا فهمها بدقة لاستخلاص الدروس الصحيحة، التي كشفتها الحرب العالمية الجارية على الساحة الأوكرانية والتي يمكن إيجاز أهمها بما يلي: -

أولا: أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تتمتع بأي أهلية قانونية أو مكانة أخلاقية، للتنديد بالغزو الذي تشنه أي دولة أخرى على غيرها. نظرا لسجلها الإجرامي الأكبر في التاريخ الإنساني المدون. فمنذ إعلان استقلالها عن بريطانيا قبل 246 عاما، شرعت الدولة الوليدة - التي أسسها المستعمرون المستوطنون الأوروبيون بعد إبادة السكان الأصليين- بشن الحروب في الخارج لنهب الموارد وبيع السلاح لتعظيم الأرباح وحفز النمو وتحقيق الازدهار الاقتصادي وحفظ الأمن والاستقرار في الداخل الأمريكي.

فتوسعت في جوارها الجغرافي، وضمت أقاليم انتزعتها من دول الجوار في الشمال والشرق والجنوب. وشنت الحروب على امتداد الكرة الأرضية بذريعة حماية مصالحها الحيوية. وعلى مدار تاريخها الممتد لقرنين ونصف، غاب تورط الجيش الأمريكي في الحروب العسكرية الخارجية سبعة عشر عام فقط. فكانت "الحرب هي السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية” كما وصفها بدقة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي.

ثانيا: أن الولايات المتحدة الأمريكية، وليست روسيا ولا الصين، تمثل الخطر الأكبر على البشرية. برفضها التسليم بحقائق التغيير في توزيع القوة في العالم. وعدم قبولها بالتعايش في نظام دولي متعدد الأقطاب، وإصرارها على الانفراد بالقيادة العالمية بالقوة، ولو اقتضى الأمر الانتقال إلى حرب نووية قد تنهي حياة الإنسان على كوكب الأرض

ثالثا: أن الأقطاب الدولية المتصارعة على القيادة العالمية لا تتورع عن التضحية بأي من الدول والشعوب الضعيفة التي تقودها نخب سياسية واقتصادية تستظل بالخارج عوضا عن الاحتماء بشعبها.

رابعا: على الرغم من أن روسيا الاتحادية تتحمل مسؤولية كبيرة عن الحرب الجارية في أوكرانيا وتداعياتها التدميرية. إلا أن المسؤولية الرئيسية في اندلاعها تقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية، البعيدة جغرافيا عن ساحة الصراع الأوروبية، والتي تسيطر عليها مجمعات صناعية وعسكرية ومالية يبرع قادتها في تحديد ملامح وسمات ونوايا منافسيهم وتصنيفهم كأعداء شديدي الخطورة على "استقرار النظام العالمي" الذي تنفرد فيه بالهيمنة. ما يستوجب معه مواجهتهم وإخضاعهم بالقوة.

فلم يتورعوا لتحقيق غاياتهم عن التضحية بدول وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ولا يتورعون اليوم عن التضحية بالدولة والشعب الأوكراني من أجل تحقيق هدفهم بإذلال روسيا. ولن يبالوا بالتضحية، أيضا، بتايوان وتوريطها في صراع مع الصين من أجل استنزافها لإدامة الهيمنة والتفرد الأمريكي بالقيادة العالمية.

وتقع مسؤولية الحرب في أوكرانيا، أيضا، على عاتق حلفائها في الناتو، وخصوصا الغربيين منهم لتقاعسهم عن وقف جموحها وإذعانهم لجبروتها.

كما تقع على عاتق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي ارتضى القيام بدور الوكيل في الحرب الأمريكية والغربية ضد جارته روسيا الاتحادية. فورط وطنه وشعبه في حرب خاسرة، وامتنعوا عن إنقاذه، وما يزالون، بذريعة الحرص على منع الانزلاق إلى حرب عالمية مدمرة. حيث قتل الآلاف من العسكريين والمدنيين الأوكرانيين لا يثير قلق أسياد السياسة الواقعية الأمريكية والغربية. وأقصى ما يستعدون تقديمه لدعم أوكرانيا، تزويدها بالسلاح والعتاد والمواد الإغاثية لإطالة زمن الحرب لاستنزاف روسيا. وفتح حدودهم للاجئين الأوكرانيين الشباب -من الغرق الأبيض- المؤهلين لتعويض النقص الكبير في اليد العاملة في الدول الأوروبية التي شاخت بنيتها الديموغرافية، وأصبحت عاجزة عن تجديد نفسها. وباتت أغلبيتها البيضاء تتراجع باضطراد في الميزان الديموغرافي داخل دولها.

خامسا: أن أنظمة الحكم ذات الولاءات الخارجية، شديدة الهشاشة والانكشاف لداعميها. ويسهل توريطها في خوض حروب خاسرة تجري بالوكالة نيابة عنهم، لخدمة أهدافهم في صراعات لا علاقة لها بمصالح الدول أو الشعوب التي تجري الحروب على أراضيها.

سادسا: أن الدخول في تحالفات غير متكافئة / عسكريا واقتصاديا/ تحد من استقلالية الدول المتحالفة، ومن قدرتها على اتخاذ القرار الذي يخدم مصالحها. وقد كشفت الحرب في أوكرانيا محدودية هامش الاستقلال المتاح لدول حلف الناتو، بما في ذلك الدول الأوروبية الوازنة كألمانيا وفرنسا وهولندا مثلا، في الدفاع عن مصالحها الوطنية، واضطرارها إلى الإذعان للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية البعيدة جغرافيا عن ساحة الحرب، والمحصنة اقتصاديا من انعكاسات العقوبات على اقتصادها، لمحدودية التداخل الاقتصادي والتجاري الأمريكي - الروسي، ودون حتى التشاور مع حلفائها المتأثرين بشدة من تداعيات العقوبات.

سابعا: يزداد ضيق الهوامش كلما ازداد اختلال موازين القوى، فتضطر الأطراف الأضعف في التحالف إلى القبول بالإملاءات الأمريكية سواء على صعيد تقديم الدعم العسكري والمجازفة بالانزلاق للحرب كما هو جار مع ليتوانيا وبولندا والمجر وبلغاريا، أو على صعيد فتح الحدود لملايين اللاجئين دون مراعاة القدرات الاستيعابية المتفاوتة للدول المتحالفة.

ثامنا: ينعدم هامش الاستقلال بالنسبة للدول عندما يندلع صراع داخلي بين مكوناتها الوطنية ويستقوون بالخارج لحسمه. فيتعمق الانقسام وتتراجع فرص استعادة الوحدة الوطنية ما يهدد وحدة الدول. يؤكد انعدام هامش الاستقلال بعد بدء الحرب الروسية - الأوكرانية، واستقواء أوكرانيا بالولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو لدعمها في حربها ضد روسيا، فقدانها القدرة على اتخاذ قرار بوقف الحرب عندما تبدت لها الأخطار الوجودية، فتراجعت عن تفاهمات مفاوضات استانبول بتاريخ 29/3/2022 لإنهاء الحرب، والتي وافقت خلالها على تبني وضع محايد وعدم الانضمام إلى أي تكتلات، أو استضافة قواعد لقوات أجنبية، لقاء ضمانات دولية لحمايتها من التعرض لهجوم، وعدم القيام بتدريبات عسكرية إلا بموافقة الدول الضامنة للاتفاق، وأن تبقى دولة غير نووية. وأبدت استعدادها، أيضا، للدخول في مفاوضات مدتها 15 عاما بشأن وضع شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا. الأمر الذي لقي تجاوبا من روسيا واعتبرت المفاوضات بناءة وأعلنت استعدادها للقيام بخطوات عسكرية وسياسية لتخفيف التصعيد في أوكرانيا. غير أنها اضطرت للتراجع عن التفاهمات بضغط أمريكي، ووعود بزيادة الدعم العسكري والإغاثي، ما أوصل المفاوضات إلى طريق مسدود. حيث قتل الآلاف من الأوكرانيين لا يثير قلق الساسة الأمريكيين الجاهزين للتضحية بأوكرانيا وشعبها، لتدمير روسيا. فعلى حد تعبير المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي في مقابلته مع صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية: "عندما تقرأ عنوانا عريضا في صحيفة بارزة في الولايات المتحدة يقول (علينا تدمير روسيا) ويطالب بذلك، فهذا يعني الرغبة الأمريكية في القضاء على كل من في أوكرانيا ".

تاسعا: أن لا مكان لحسن النوايا في نظام دولي يحتكم لموازين القوى. وأن التنازلات خارج إطار التفاوض لا مقابل لها مهما كانت الوعود. وأن الطرف الأضعف هو الأحق بتطمينات الجانب الأقوى، والتزامه الصريح الموثق والمسبق بنفاذ التفاهمات، وبضمانات الشرعية الدولية لإلزامية تنفيذها.

عاشرا: أن هيمنة قطب واحد - أيا كان- على النظام الدولي يشكل خطرا على البشرية. وأن نظاما دوليا متعدد الأقطاب الوازنة، رغم أنه قد لا يشكل ضمانة لإنصاف الشعوب الصغيرة والضعيفة وتحقيق العدالة. إلا أنه يوفر مظلة حماية نسبية لها، عند امتلاكها الإرادة لتوفير موجبات بلوغ أهدافها المشروعة. ويمنع التغول الذي يتيحه تفرد أي من القوى العالمية بالقيادة الدولية. ويؤمن التوازن الضروري لحماية الأمن والسلم العالمي

 
 
 
 
 
 
مشاركة: