هذه الورقة من إعداد كل من: أحمد الكومي، شيماء مرزوق، محمد الحطّاب، ضمن برنامج "رؤى شبابية فلسطينية"، الذي ينفذه مركز مسارات بالشراكة مع مؤسسة "فريدريش إيبرت"*.
مقدمة
تدخل الحرب الروسية الأوكرانية شهرها التاسع على التوالي من دون أي مؤشرات أو بوادر إيجابية لإمكانية انتهائها على المستوى القريب، في ظل تمسك وإصرار أطراف الحرب بمطالبها، واستمرار دول الغرب في دعم وتسليح أوكرانيا، وحشد العقوبات والمواقف الدولية لعزل روسيا وإدانة العملية العسكرية التي بدأت في 24 شباط/فبراير 2022، وأفرزت تحوّلات وتداعيات سياسية واقتصادية وإستراتيجية على مختلف الأصعدة والكيانات السياسية، ومن ضمنها القضية الفلسطينية، التي يمكن اعتبارها من بين أشد المتضررين من هذه الحرب، في ظل انعدام الإستراتيجية الرسمية الواضحة لمعالجة هذه التداعيات، والحدّ من آثارها، والاستفادة من الفرص المحتملة لانتهاء حقبة نظام القطب الواحد.
ويمكن رصد متغيّرات عدة قيد التشكل ستكون لها تبعات مهمة خلال المرحلة المقبلة على النظام الدولي، التي ستنعكس على القضية الفلسطينية، وهي:
- سوء العلاقة بين الاحتلال وروسيا، ولأول مرة تحدث أزمة دولية من دون أن يستفيد منها الاحتلال؛ حيث بدا واضحًا أن الحرب الروسية الأوكرانية كانت لها تداعيات كبيرة على العلاقة مع روسيا.
- التوتر في العلاقات الدولية بين رأسي النظام الدولي، وقد شكلت أزمة غير مسبوقة وحالة استقطاب دولي حاد، لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
- التداعيات الاقتصادية للحرب، وهو عامل مؤثر وأحد أهم أدوات الحرب، وقد يقود إلى إحداث متغيرات مستقبلية كبيرة.
- الدعم المباشر للحلفاء في الحرب، وهي مرحلة جديدة تتشكل، فبعدما كانت الدول الكبرى تنتهج دعم وكلائها في الحروب بدأت تتجه لدعم الحلفاء بشكل مباشر.
- هناك متغير له علاقة بالقضية الفلسطينية، ويطرح تحديات كبيرة أمام السلطة من حيث المشروعية والقدرة على إدارة الأزمة في البعدّيْن الوطني والخدمي.
الهدف العام
تهدف الورقة إلى البحث في تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على القضية الفلسطينية، واقتراح بدائل سياساتية يمكن أن تساهم في تقليل آثار هذه الحرب على الأراضي الفلسطينية المحتلة، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتقديم سياسة من شأنها أن تُمكّن صانع القرار من الاستفادة من المتغيرات الحاصلة، وتقليل التداعيات على الواقع الفلسطيني.
المشكلة السياساتية
ساهم استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة تهميش القضية الفلسطينية، وتوجيه الإعلام الدولي تركيزه نحو ما يجري في أوكرانيا، وهو ما شكّل ارتياحًا لدى محافل إسرائيلية رأت في الحرب فرصة لتخفيف الضغط عنها، وتجاهل إجراءات الاحتلال وانتهاكاته على الأرض الفلسطينية، على الرغم من أنّ دولة الاحتلال تواجه، في المقابل، مشكلة على المدى الأبعد تتعلق بالضغوط للاصطفاف ضمن التحالف الأميركي الغربي الذي يفرض العقوبات على روسيا، وظهور توترات تبدو محدودة حتى الآن في العلاقة الروسية الإسرائيلية، ولكنها مرشحة للتفاقم في حالة استجابة دولة الاحتلال للمطالب بتزويد أوكرانيا بمعدات ذات طابع عسكري.
لم تصدر السلطة الفلسطينية أي موقف رسمي من الحرب الأوكرانية، وحافظت على الحياد من الأزمة القائمة. وهو بنظر خبراء ومحللين سياسيين "أفضل من موقف خاطئ"[1] . لكنها في المقابل لم تعلن عن رؤية للتعامل مع تداعيات هذه الحرب على كل المستويات، خاصة في ظل الأزمات العديدة التي تولّدت منها عالميًا في قطاعات الطاقة والغذاء والنقل.
وتبدو انعكاسات الحرب على الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، أكبر منها على أي دولة أخرى؛ بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الصعب، وتراجع الدعم العربي والغربي للسلطة الفلسطينية، وحالة الغلاء التي تتصاعد في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية والحراكات الاحتجاجية المطلبية في قطاعات حيوية، مثل قطاع النقل، وتزايد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في قطاع غزة في ظل الحصار والانقسام.
وخلال اجتماعه في مدينة رام الله مع "مجموعة الشركاء الرئيسيين من المانحين” في نيسان/أبريل 2022؛ أكد رئيس الوزراء محمد اشتية وجود عجز مستمر تعانيه الحكومة الفلسطينية منذ أشهر، وطالب بأهمية التزام الدول المانحة بتقديم الدعم لموازنة الحكومة. كما شدد على أهمية الدعم الدولي "في ظل الأزمة المالية التي تواجهها الحكومة نتيجة الاقتطاعات الإسرائيلية غير الشرعية من الأموال الفلسطينية، وضرورة وجود ضغط جاد للإفراج عن الأموال المحتجزة".[2]
ومع تصاعد حدّة الحرب وتوجيه الدعم الدولي، سياسيًا واقتصاديًا وماليًا، نحو أوكرانيا، باعتبارها الأزمة المُلحّة والتحدّي الكبير للغرب في الوقت الحالي، فإن ذلك يدق ناقوس الخطر بشأن المزيد من التهميش للقضية الفلسطينية، الأمر الذي برهنت عليه زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة في تموز/يوليو 2022؛ حيث قال خلالها: "خيار حل الدولتين هدف بعيد جدًا الآن"[3]؛ ما يفرض البحث في بدائل سياساتية طارئة، باعتبار أن انعكاس ما يحدث سياسيًا واقتصاديًا يرتكز على قدرتنا على التعامل مع تداعيات الحرب.
تضارب المواقف الفلسطينية
دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا، شهرها التاسع، في ظل استمرار التصعيد الميداني على الأرض، وتنامي الخسائر العسكرية والاقتصادية؛ حيث تواصل القوات الروسية استهداف المواقع العسكرية الأوكرانية، بينما تتلقى "كييف" الدعم الغربي والأسلحة لوقف التقدم الروسي، من دون أن تكون هناك حصيلة إجمالية دقيقة للقتلى الذين خلّفتهم المعارك حتى الآن.
وقدرت المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، في تصريح لمديرها وليام بيرنز، يوم 20 تموز/يوليو 2022، خسائر روسيا البشرية في حرب أوكرانيا، بنحو 15 ألفًا قتيلًا و45 ألف مصاب.[4] في وقت اتجهت فيه روسيا إلى سياسة توسيع الأهداف لتشمل مناطق جديدة؛ حيث صرّح سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بأن "الأهداف العسكرية الروسية في أوكرانيا لم تعد تقتصر فقط على الشرق، بل تشمل أيضًا أراضي أخرى، ويمكن أن تمتد"[5]، وهو ما يعني أن تداعيات هذه الحرب ستتجاوز الحدّ الذي هددت فيه فعليًا مصالح العديد من الدول في العالم والشرق الأوسط، وخاصة القضية الفلسطينية.
ومنذ اندلاع الحرب، اتضحت مواقف دول العالم بين غالبية رافضة للغزو وهي الدول الغربية التي ذهبت أبعد من ذلك بدعم "كييف" بالسلاح والعتاد، وأخرى تماهت مع الموقف الروسي، الذي حذّر مرارًا من سياسة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونبهت إلى أن عسكرة دول أوروبا الشرقية لن تؤدي إلى مزيد من الاستقرار، بينما التزمت دول الحياد، ومنها السلطة الفلسطينية، وهو موقف قوبل بالإيجاب على المستويين الشعبي والوطني؛ على قاعدة عدم جلب الضرر من بوابة الاصطفافات، فقد صرح رياض المالكي، وزير الخارجية الفلسطيني: "لسنا دولة مضطرة لأخذ موقفٍ معين".[6]
وسخر رئيس الوزراء محمد اشتية من الوساطة الإسرائيلية لحلّ الأزمة الأوكرانية، قائلًا في مستهل جلسة الحكومة الفلسطينية، في 8 آذار/مارس 2022: إنه "من سخريات السياسة الدولية أن تحاول إسرائيل، الدولة المحتلة لفلسطين، أن تكون وسيطًا لحل الأزمة في أوكرانيا"، مضيفًا: "نحن نتطلع إلى أن تضع الحرب أوزارها هناك، بما يكفل الأمن والسلام الدوليين، ويحافظ على سلامة المدنيين الذين هم ضحايا الحروب، ونتطلع أيضًا إلى أن يقوم المجتمع الدولي بتطبيق القانون الدولي على إسرائيل وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة بفلسطين".[7]
ويُعدُّ تصريح اشتية في حينه، الأول من نوعه، لمسؤول رسمي كبير في السلطة، حول الأزمة الأوكرانية، ويعكس تحفظ السلطة الشديد تجاه إصدار أي موقف.
ووفق صحيفة "الشرق الأوسط"، فإن السلطة الفلسطينية تجد نفسها في موقف حساس؛ إذ يعدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حليفًا جيدًا للفلسطينيين، ولا تريد السلطة خسارته، ومقابل ذلك لا تريد أي ضرر في العلاقات مع واشنطن، وهي علاقات تنمو ببطء شديد بعد سنوات عجاف.[8]
اجتمعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بتاريخ 6 آذار/مارس 2022؛ بعد أيام من اندلاع الحرب، برئاسة الرئيس محمود عباس لمناقشة الأزمة الأوكرانية، في ظل تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية، ولم يصدر أي بيان أو تصريح أو موقف عنها. وهو موقف انتهجته كذلك فصائل المعارضة الكبيرة، مثل حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وحركة الجهاد الإسلامي، اللتين آثرتا التزام الصمت، باستثناء تغريدة لموسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي لحماس، عبر تويتر، كتب فيها أن "الحرب الروسية الأوكرانية تشي بأن عهد أميركا بوصفها قطبًا متفردًا بالعالم قد انتهى، لعدم قدرتها على اتخاذ قرار الحرب ضد روسيا"، وقال إنه "على إثر ذلك لن تكون أميركا مقررًا في السيادة الدولية، وهنا يمكن الحديث عن مستقبل كيان الاحتلال".[9]
ولكن الفصائل اليسارية القريبة من موسكو عبّرت عن دعمها المطلق لروسيا. فقد أكد بسام الصالحي، الأمين العام لحزب الشعب الفلسطيني، خلال اتصال هاتفي مع ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، في 9 نيسان/أبريل، رفض مخططات الولايات المتحدة الأميركية وحلف الناتو التي قادت إلى هذه الحرب التي لا تخدم الشعبين الروسي أو الأوكراني"، وأعلن رفضه "ازدواجية المعايير التي تحكم سياسات الولايات المتحدة، الداعم الأساسي للاحتلال الإسرائيلي والمعطل الأساس لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، عوضًا عن كونها عملت على الدوام لمنع اتخاذ هذه القرارات المتعلق بحقوق شعبنا الفلسطيني".[10]
بينما أعلن أحمد مجدلاني الأمين العام لجبهة النضال الشعبي الفلسطيني، دعم موقف روسيا الاتحادية المطالب بضمان أمنها ومنع تهديد حلف الناتو "الذي يشكل تهديدًا للأمن القومي الروسي"، وقال إنه "آن الأوان لإنهاء التفرد والهيمنة الأميركية، التي تحاول فرض سيطرتها على النظام الدولي ومقدرات الشعوب وحقها في تقرير المصير".[11]
من جهتها، لم تصدر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أي بيان رسمي تعلن فيه دعمها لنظام بوتين واجتياحه لأوكرانيا. وعلى الرغم من ذلك، نشرت على موقعها الرسمي افتتاحية بتاريخ 24 شباط/فبراير بعنوان "أوكرانيا والبطن الرخوة"، فسرت فيها هذا الاجتياح على أنه محاولة "استباقية"، "لمنع انضمام كييف إلى حلف الناتو". كما بررت الخطوات الروسية تجاه شبه جزيرة القرم، ما بدا وكأنه تأييد ضمني للموقف الروسي.
في المقابل، نقل الموقع التابع للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تصريحات الرئيس بوتين، التي قال فيها: "إن هدف روسيا يتلخص في حماية الأشخاص الذين تعرضوا على مدى ثماني سنوات إلى سوء المعاملة وإبادة جماعية من قبل نظام كييف"، وكذلك قراره بشن عملية عسكرية خاصة.[12] وبدت الجبهة مؤيدة للخطوات التي يقوم بها الرئيس الروسي، وظهر ذلك في بيان أصدرته، استنكرت فيه ما وصفتها بـ "الإجراءات العدوانية" للولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية ضد روسيا.
ساد إجماعٌ فلسطيني على "ازدواجية المعايير" في تعاطي الدول الغربية مع الحرب الروسية الأوكرانية، وفي موقف المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة والدول الغربية، من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وانتهاكاته في الضفة الغربية والقدس المحتلة والداخل المحتل وقطاع غزة؛ الأمر الذي لاقى انتقادات حادة فلسطينيًا ودوليًا.
فقد فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، عقوبات هي الأولى من نوعها على روسيا ورئيسها بوتين، فور بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شملت البنوك الروسية، وشخصيات روسية بارزة، ومنع الواردات الروسية، وحظر المعاملات مع البنك المركزي والمالية الروسية، ومراقبة الأصول الأجنبية وغيرها؛ بهدف إجبار روسيا على وقف الحرب، في الوقت الذي لم يُفرض فيه هذا الحجم من العقوبات على الاحتلال الإسرائيلي لوقف انتهاكاته بحق الشعب الفلسطيني واحتلال الأرض منذ 1948، وما تخلّلها من قتل وتدمير واعتقال وحصار.
تهميش القضية الفلسطينية
عكست تفاصيل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الأراضي الفلسطينية، الموقف الأميركي، وحجم التهميش للقضية الفلسطينية التي لم تكن حاضرة في أولويات الزيارة، فقد حرص ب على تكرار مقولات سياسية حول حلّ الدولتين دون أي أفق سياسي، والاستعاضة عن الحلول السياسية بالتركيز على الملف الاقتصادي ودعم السلطة الفلسطينية ماليًا.[13]
وأعلن بايدن عن تقديم مساعدة لشبكة مستشفيات القدس بقيمة 100 مليون دولار، إضافة إلى 200 مليون دولار لدعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا)، مع تجاهل تام لكل القضايا السياسية، وذلك في إطار دعم تطبيق خطة "السلام الاقتصادي" و"تقليص الصراع"، لضمان استمرار بقاء السلطة لمواصلة دورها الوظيفي، مقابل فتات من المساعدات ضمن سقف سياسي أمني اقتصادي بعيدًا عن إنهاء الاحتلال والحقوق الفلسطينية كافة.
في المقابل، يشكل الاتحاد الأوروبي فاعلًا أساسيًا بشأن السلطة الفلسطينية، على صعيدين، وهما: أنه المانح المالي الأكبر للسلطة والداعم الأبرز لخيار حلّ الدولتين، وأحد أكثر الأطراف محورية في تشكيل بنية السلطة الفلسطينية وسياساتها؛ حيث دفع الاتحاد خلال المدة (2017-2020) نحو 2.3 مليار يورو مساعدات مباشرة ومشاريع إلى السلطة الفلسطينية ومناطقها.[14]
وبناء عليه، فإن أبرز ما قد تنتجه الأزمة الروسية الأوكرانية هو خروج القضية الفلسطينية من قائمة الأولويات الأوروبية، على المستويين السياسي والمالي، وانزياح الموقف الأوروبي أكثر نحو السياسة الأميركية؛ بمعنى تهميش القضية الفلسطينية سياسيًا، على اعتبار أن أوروبا تؤدي دورًا أكبر من مجرد ممول، فهي الداعم الأكبر لحل الدولتين، وتجييش موقفها خلف أميركا في الأزمة الأوكرانية قد ينسحب على ملفات المنطقة، ومنها القضية الفلسطينية.
وفي هذا السياق، زار وفد فلسطيني رفيع المستوى، يضم وزراء الخارجية والمالية والاقتصاد والتعليم والعدل، وموظفين كبارًا في الوزارات المعنية، بروكسل، في منتصف شهر آذار/مارس 2022؛ للمشاركة في الاجتماع السنوي للجنة الأوروبية الفلسطينية المشتركة. واستعرض الوفد الوضع الاقتصادي "شبه المنهار"، وقد أثمر إلى جانب جهود سابقة في استئناف الدعم الأوروبي للفلسطينيين، وخاصة تمويل الموازنة.
ويشكل الدعم المالي الأوروبي رسالة سياسية أكثر منها اقتصادية، خاصة أن الأزمة المالية الفلسطينية أكبر بكثير من حجم الدعم للموازنتين العامة والتطويرية، فقد أعلنت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بتاريخ 15 حزيران/يونيو عن عودة صرف المنح المالية المخصصة للفلسطينيين عن العام 2021.
ارتبط الموقف الفلسطيني الرسمي من الحرب الروسية الأوكرانية، بمجموعةٍ من المحددات، تمحور أهمها حول الخشية الفلسطينية من اعتبارِ أي موقف واضح في دعم روسيا، قد يدفع إلى انقطاع الأموال عن السلطة الفلسطينية أوروبيًا، ورُبما أميركيًا، لذلك لم يُحسن الموقف الفلسطيني الرسمي استثمار الأزمة، ولم تكن هنالك خطوات حقيقية لتوظيف الصراع الحاصل فلسطينيًا مثلما تفعل دولة الاحتلال، في توظيفها للحرب من أجل تشجيع الهجرة إليها. فلم يكن هناك تصريحات ممنهجة، أو حملة دولية تقودها المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وتسعى من خلالها إلى تنفيذ قواعد القانون الدولي على (إسرائيل)، أو التلويح بالخيار الديبلوماسي والحقوقي القوي، وهو التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، كونها دولة احتلال مثلما تُطبَّق على روسيا، علمًا أنَّ نُضج الأزمة يُعد فرصة سانحةً لذلك.[15]
البدائل
البديل الأول: خطة وطنية فلسطينية لاستقطاب الدعم السياسي والإنساني
يعدّ تدشين خطة وطنية لمواجهة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية أولوية وطنية قصوى، وترتقي الخطة لكونها "إدارة أزمة" بمشاركة المستويات الرسمية وغير الرسمية، وتتضمن مشاريع وبرامج عمل، ضمن إطار زمني يرصد التحولات الدولية الجارية وانعكاساتها المباشرة على القضية الفلسطينية.
يبدأ الوصول إلى الخطة بإدراك جميع الفلسطينيين بكل مستوياتهم، بخطورة تداعيات الحرب على القضية الفلسطينية وانتقالها إلى الهوامش، وتبعات ذلك على استقرار الحالة الداخلية ومسار الدعم الخارجي المقدّم إلى الفلسطينيين، ثم التوافق الوطني على الخطة بوصفها مرحلة ثانية، وقد تكون مدخلًا لإنهاء الانقسام.
يتم التعبير عن الخطة والتسويق لها عبر صياغة خطاب وطني فلسطيني يشمل الجميع ويُعبّر عنهم، ويواكب تطورات الأحداث الدولية، ويسهم في إعادة القضية الفلسطينية إلى قلب الاهتمام الدولي، ويراعي إثارة "ازدواجية المعايير" لدى الإعلام الغربي، والبناء على المقاربات بين نموذجي المقاومة الفلسطينية والأوكرانية.
يستند هذا البديل إلى مجموعة من السياسات والآليات، أبرزها:
- تبنّي إستراتيجية موحدة لمقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة والممكنة.
- تصدير القضايا الوطنية الكبرى وتعزيز الثوابت.
- حشد طاقات الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة.
- تعزيز التواصل الخارجي وتفعيل "الديبلوماسية النشطة" مع العالم العربي والإسلامي؛ لتبنّي مطالب الشعب الفلسطيني وإعلان دعم حقوقه.
- إثارة وتصعيد انتهاكات الاحتلال بحق شعبنا، والتأكيد على خرقه الدائم لقواعد وقوانين حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.
محاكمة البديل الأول
المقبولية: لا تتوفر مبررات لرفض الخطة؛ كونها تمثل واحدة من أبرز مطالب الفلسطينيين منذ اندلاع الحرب، والطرف الذي يرفض سيكون مُلزمًا بتقديم إجابة مقنعة إلى المواطن الذي بات يدفع من جيبه ثمن الحرب.
إمكانية التطبيق: ستواجه الخطة صعوبة في التطبيق؛ كونها ستصطدم بتراكمات الانقسام، وعدم وجود "وحدة حال" بين الضفة الغربية وقطاع غزة، واختلاف البرامج والرؤى السياسية داخليًا تجاه حلّ الصراع، وإضاعة المزيد من الوقت، ومن دون خطة وطنية سيصعّب إمكانية تطبيقها، بحكم أن النتائج مرتبطة بمدى قدرتنا على الفعل.
المنفعة: النجاح في تطبيق الخطة سيقلل من تداعيات الحرب على القضية الفلسطينية، بالحد الذي يضمن عدم تغييبها.
الربح والخسارة: ستحظى الخطة بدعم وطني وشعبي واسع؛ تحت ضغط الحاجة إلى تجنب دفع المزيد من الأثمان السياسية لأزمة ليس الفلسطيني طرفًا فيها، لكنه الأشد ضررًا منها.
البديل الثاني: مؤتمر دولي برعاية متعددة الأقطاب
تقوم فكرة هذا البديل على الاستفادة من الحرب الروسية الأوكرانية وصراع الأقطاب الناتج منها في تنظيم مؤتمر سياسي دولي، بمشاركة دولية تتجاوز الرعاية الأميركية للصراع.
محاكمة البديل الثاني
المقبولية: يعدّ هذا البديل مطلبًا رسميًا نادت به السلطة الفلسطينية لفترات طويلة، في ظل انسداد أي أفق لخيارها الوحيد، وهو "إحياء عملية التسوية"، لكنه سيواجه بمعارضة شديدة من (إسرائيل) والولايات المتحدة بشكل أساسي؛ باعتباره يقلّص هامش الدور الأميركي في الصراع، ويهدد مصالحها في الشرق الأوسط، فضلًا عن أنه يعدّ تجاوزًا فلسطينيًا لا تسمح به الإدارة الأميركية.
إمكانية التطبيق: ستؤثر المعارضة الإسرائيلية، وكذلك الأميركية في هذا التوجه، وتشكّلان أكبر مُعرقل له، لكن تطبيق البديل يعتمد على حجم الإرادة لدى المستوى الرسمي الفلسطيني، الذي قد لا يرغب في إثارة غضب الولايات المتحدة بوصفها الداعم الأكبر لميزانية السلطة.
إضافة إلى أن اشتداد الحرب الروسية والأوكرانية، وتفاقم تداعياتها على دول العالم، قد لا يسمحان بتنظيم هذا المؤتمر؛ باعتبار أنه يتم في الوقت الخطأ، لكن تصاعد التأثير والاقتراب الروسي والصيني بوصفهما الأقطاب المقابِلة للنفوذ الأميركي، يشكل فرصة مهمة في الوقت الحالي للدفع باتجاه لعب دور أكبر في الصراع العربي الإسرائيلي.
المنفعة: يسمح هذا البديل بإنهاء احتكار الولايات المتحدة للصراع ورفع الحماية عن الاحتلال الإسرائيلي، ويسمح بخلق أفق سياسي يستند إلى حلّ الدولتين وإلزام (إسرائيل) به، وبالقوانين والقرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
الربح والخسارة: يشكل التوجه نحو هذا البديل استثمارًا أمثل لحالة الاصطفاف القائمة إثر الحرب الروسية الأوكرانية، ويسهم في تحرير الصراع وإعادته إلى الواجهة، والضغط دوليًا لإيجاد صيغ وحلول سياسية تجنّب المنطقة أي انفجار لا يرغب فيه كل الأطراف في الوقت الحالي. لكن السلطة ستكون مطالبة بدفع ثمن كبير، على المستويين السياسي والاقتصادي، بحجم هذه الخطوة.
البديل الثالث: تفعيل ملف المحكمة الجنائية الدولية
إنّ زيادة الأزمات الدولية وتراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية، الذي وفّر غطاء لاستمرار انتهاكات وجرائم الاحتلال بحق شعبنا، خاصة في الضفة والقطاع، أصبح يحتّم على السلطة الفلسطينية الاستجابة لدعوات تحريك ملف "الجرائم" المتمثلة في الحرب والحصار على قطاع غزة والاستيطان بالضفة والأسرى، وغيرها.
ويمكن الاستناد، ضمن هذا البديل، إلى قرار المحكمة الأخير، الذي أقرّ، في شباط/فبراير 2021 باختصاص المحكمة وولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ بصفتها دولة طرفًا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية، وهذا في حينه مهّد الطريق أمام ادعائها لفتح تحقيق بارتكاب جرائم حرب من جانب قوات الاحتلال.
وقد رحّب حينها رياض المالكي، وزير الخارجية والمغتربين الفلسطيني، بقرار الولاية القضائية، ودعا المدعية العامة لضرورة فتح التحقيق الجنائي "في أسرع وقت ممكن"، وصولًا إلى إجراءات محاكمة مسؤولي سلطات الاحتلال عن سجلهم الإجرامي بحق أبناء شعبنا.[16] علمًا أن فلسطين حصلت على حق الانضمام إلى المحكمة في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، عندما نالت صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة، وأصبحت في حينه العضو 123 في المحكمة التي تأسست في العام 2002.
محاكمة البديل الثالث
المقبولية: يعدّ هذا التوجّه مطلبًا شعبيًا ووطنيًا منذ اللحظة التي انضمت فيها فلسطين إلى المحكمة رسميًا في نيسان/أبريل 2015 بصفة عضو كامل الحقوق.
إمكانية التطبيق: ستجد السلطة الفلسطينية صعوبة في التوجّه نحو المحكمة، في ظل المعارضة الشرسة التي تبديها (إسرائيل)، وسعيها الدائم إلى عرقلة أي تحرّكات للطرف الفلسطيني نحو المنظمات الدولية، وعادة ما تذهب (إسرائيل) إلى تجميد تحويل أموال الضرائب الفلسطينية إلى السلطة أو اقتطاعها؛ لإحداث أزمة مالية تصبح ورقة ضغط ضد هذا التوجه وتقيّد حركة الطرف الفلسطيني، أو - بتعبير آخر - تفرض حصارًا سياسيًا عليه، فضلًا عن أن (إسرائيل) ليست عضوًا في المحكمة، وبالتالي لن تتعاون معها، إضافة إلى وجود دول ذات تأثير كبير ترفض محاكمة (إسرائيل).
والأهم، أن السلطة لا تملك الإرادة الحقيقية للتوجه نحو المحكمة، وتستجيب بسهولة للضغوط الإسرائيلية في هذا الجانب؛ كونها تؤمن بالحلّ السلمي للصراع، ولا ترغب في فتح أي مواجهة مع (إسرائيل).
المنفعة: يضمن تبنّي هذا البديل والعمل به تعزيز الوضع الدولي والقانوني لفلسطين، في مواجهة التراجع والتهميش، كما يعود بالقضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث الدولية؛ في ظل اطمئنان (إسرائيل) لعدم توجه السلطة نحو هذا الخيار؛ ما يجعله "عاصفة سياسية" وخيارًا لا بد منه.
الربح والخسارة: يندرج هذا البديل ضمن "النضال القانوني والحقوقي" لفلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته في الأراضي المحتلة، ويمكن اعتباره مقدمة لتدويل الصراع، إذا ما علمنا أن السلطة كانت تمتنع لوقت طويل قبل العام 2012، عن تقديم طلب الانضمام إلى المحكمة آنذاك، تحت ضغوطات إسرائيلية وأميركية، وبالتالي فإن هذا البديل يمكن أن تتجدد معه المحاولات الرسمية لتمرير مشروع قرار دولي عبر مجلس الأمن، يضع جدولًا زمنيًا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي 1967.
وستواجه (إسرائيل) هذا التوجه بفرض مزيد من القيود والتضييق على شعبنا وقيادة السلطة أو "معاقبة الفلسطينيين"؛ ما يعني تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الضفة والقطاع.
البديل الرابع: "موازنة تقشفية" طارئة للعام الحالي 2022
يرتكز هذا البديل على تداعيات الحرب في الجوانب الاقتصادية والمالية، بالنظر إلى العقوبات الدولية المفروضة دوليًا على روسيا التي تُصنف على أنها "الأكبر في التاريخ"، وردود موسكو ومحاولاتها المستمرة للردّ بالسلاح نفسه، وانعكاسات كل ذلك على الأمن الغذائي العالمي وإمدادات الطاقة والنقل، وخاصة على الأراضي الفلسطينية.
تقوم الموازنة على تخفيض النفقات إلى الحد الأدنى للقطاع العام، بما يشمل فاتورة الوقود والطاقة والرواتب والعلاوات. كما تستند إلى البحث عن مصادر بديلة للتمويل.
وتبدو الفرصة مثالية في الوقت الحالي لإعادة تفعيل وتدويل قضية "غاز غزة" على غرار غاز لبنان، في ظل تزايد حاجة السوق الدولي إلى الغاز.
محاكمة البديل الرابع
المقبولية: قد لا يحظى هذا البديل بالقبول الشعبي والنقابي واتحادات العمل والمشغّلين، في ظل حاجة هذه القطاعات إلى دعمها لمواجهة الغلاء، وليس العكس.
إمكانية التطبيق: يمكن تطبيق هذا البديل، على الرغم من المعارضة التي قد يواجهها؛ وهذا مرتبط بمدى قدرة الجهات الرسمية على تقديم مبررات مقنعة للموازنة وإقناع الرأي العام بها، والإحاطة بالمحاذير والأخطار التي قد تترتب على رفضها، على المدى القريب.
المنفعة: سيعزز هذا البديل من قدرة الحكومة على الصمود لفترة أطول في مواجهة تداعيات الحرب، وتقليل الفوارق التي قد تترتب على تقليص الدعم الخارجي.
الربح والخسارة: لا يوجد خاسر من هذا البديل، وهو خيار جميع الحكومات في أوقات الأزمات؛ للحفاظ على تماسك الدولة وترشيد مصادرها، وتجنّب الوصول إلى عتبة الإفلاس.
المفاضلة بين البدائل
كل البدائل المطروحة مهمة وتعدّ خيارات وطنية مطلوبة، لا تكتفي بإدارة هذه الأزمة واحتواء آثارها، بل بالدفع نحو دعم وإسناد القضية الفلسطينية، ووقف تراجعها في ذروة الانشغال الدولي عنها، وتأكيد صدارتها للأحداث الدولية، وتحفّز صانع القرار على خوض كل المسارات لمصلحة القضية وتنشيط الديبلوماسية الرسمية وتجنيدها ضمن هذا المضمار.
كما أن هذه البدائل لا تتعارض مع الحياد في الموقف الفلسطيني الرسمي من الحرب الروسية الأوكرانية، بل تقفز به إلى مرحلة توظيف هذا الموقف في خدمة القضية الفلسطينية.
الهوامش
* ما يرد في هذه الورقة من آراء تعبر عن رأي الباحثين، ولا تعكس بالضرورة موقف مركز مسارات ومؤسسة فريدريش إيبرت.
[1] رائد حلس، انعكاسات الأزمة الروسية الأوكرانية على الاقتصاد في مناطق السلطة الفلسطينية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 5/4/2022:cutt.us/eb8CR
[2] اشتية في بروكسل لحضور اجتماع المانحين، جريدة الشرق الأوسط، 9/5/2022: cutt.us/miHpa
[3] بايدن: حل الدولتين يبدو بعيدًا الآن، الأناضول، 15/7/2022: cutt.us/FHWWb
[4] مدير الـ «CIA»: عدد القتلى الروس في حرب أوكرانيا يقدر بنحو 15 ألفًا، أخبار اليوم، 21/7/2022: cutt.us/bGOhI
[5] "سي أي إيه"، تكشف حصيلة "ضخمة" لخسائر روسيا في أوكرانيا، العين الإخبارية، 21/7/2022: bit.ly/3Q0Yuek
[6] فلسطين: نتعرض لضغوط لاتخاذ موقف مما يجري في أوكرانيا، الأناضول، 6/3/2022: bit.ly/3RZEWJc
[7] السلطة الفلسطينية تتحفظ على إصدار موقف في الأزمة الأوكرانية، الشرق الأوسط، 8/3/2022: bit.ly/3zajCIh
[8] المصدر السابق.
[9] أبو مرزوق: أبلغ دروس الحرب الروسية الأوكرانية أن عهد أميركا انتهى، وكالة شهاب، 26/2/2022: bit.ly/3bdRV9B
[10] الصالحي: مصلحة شعوب العالم تكمن في ألا تكسب الولايات المتحدة والناتو حرب تكريس هيمنتها على العالم، موقع منظمة التحرير الفلسطينية، 9/4/2022: bit.ly/3JaKFI4
[11] مجدلاني يؤكد دعم موقف روسيا المطالب بضمان أمنها، وكالة خبر، 22/2/2022: bit.ly/3vgwUBW
[12] بوتين: لدينا صواريخ بحرية لا مثيل لها في العالم وقواتنا البحرية على كفاءة عالية، الحرية، 31/7/2022: https://bit.ly/3UwrugA
[13] بايدن يجدد من بيت لحم التزام واشنطن بحل الدولتين ويتعهد بتقديم 300 مليون دولار للأونروا ومستشفيات القدس، الجزيرة نت، 15/7/2022: bit.ly/3cInFnw
[14] عرفات الحاج، تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على فلسطين، مركز رؤية للتنمية السياسية، 12/4/2022: bit.ly/3fJaZ1V
[15] إياد أبو زنيط، المواقف الفلسطينية من الحرب الروسية الأوكرانية .. بين منطلقات التأييد والمعارضة، مركز رؤية للتنمية السياسية، 5/4/2022: bit.ly/3WNR7vg
[16] المحكمة الجنائية الدولية تحكم بولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية، العربي الجديد، 5/2/2021: bit.ly/3zOwbKM