كشفت تداعيات الزلزال المدمر الذي شهدته تركيا وسوريا، والتشفي الذي يبديه المأفونون بالعنصرية والتفوق العرقي في بلاد الغرب الاستعماري لذي تتسع فيه الديموقراطية وحرية التعبير للتشفي في عذابات ضحايا الزلزال الذي أودى بحياة آلاف الأتراك والسوريين وما تزال آلاف مؤلفة غيرهم تحت الانقاض، وشرد الملايين في الشوارع في ظروف مناخية شديدة القسوة، صحيفة تشارلي ايبدو الفرنسية نموذجًا.
والتقاعس عن إغاثة الشعب السوري الصامد الذي يتعرض منذ اثني عشر عام لحرب عالمية شنها عليه الأعداء وذوي القربى على السواء لحماية المستعمرة الصهيونية وفرض تسيدها الإقليمي، وتخلف غالبية دول العالم عن مد يد العون للشعب السوري التي تذرعت ذات الدول بنصرته في مواجهة ظلم حكامه، فحاصرته عقابا لجعله عبرة لمن يجرؤون على التمرد على السيد الأمريكي وشريكه الصهيوني، ويفكرون بالتسبد في بلادهم من كل عرق ولون ودين - الموالين والمعارضين على السواء، ألمانيا وعموم أوروبا، وروسيا والصين ودول امريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا عموما، والدول العربية والإسلامية خصوصًا؛ ما يكشف بوضوح كامل فشل النظام الدولي وانهيار منظومة القيم الإنسانية عالميا، ويجعل بقاء هذا النظام واستمراره خطرا وتهديدا للوجود البشري على كوكب الأرض.
يدلل تقرير أوكسفام الصادر في 16/1/2023، تحت عنوان "بقاء الأغنى"، على عمق الخطر الذي تواجهه البشرية على امتداد الكون، بما في ذلك شعوب الدول الاستعمارية الغربية ذاتها، ويقدم رؤية مرعبة لعالم تتفاقم فيه الفجوة بتسارع غير مسبوق، بين الأغنياء والفقراء على المستويات العالمية والمحلية وخصوصا منذ تفجر وباء كوفيد.
يقول التقرير أن أغنى 1٪ في العالم قد استحوذوا خلال العامين الأخيرين على ما يقرب من ثلثي جميع الثروة الجديدة، أو ضعف ثروة 99٪ الأدنى.
ويشير التقرير إلى أن العالم يعيش لحظة غير مسبوقة من الأزمات المتعددة. وأن مئات الملايين من الناس يعانون من الجوع وارتفاع تكلفة السلع الأساسية. وأن انهيار المناخ يؤدي إلى شل الاقتصادات، فيما يرغم الجفاف والأعاصير والفيضانات، ومؤخرا الزلازل، الناس على النزوح عن منازلهم.
ويكشف التقرير حقيقة أنه فيما ما يزال الملايين من البشر يعانون من التأثير المستمر لجائحة كورونا التي أودت بحياة أكثر من 20 مليون شخص، مع تفاقم الفقر بشكل غير مسبوق. هناك ثمة رابحون من جميع هذه الأزمات المتعّددة. إذ أصبح الأغنياء أكثر ثراء، وبلغت أرباح الشركات الكبرى مستويات قياسية.
فخلال العشر سنوات الماضية استحوذ أغنى 1 بالمئة من البشرية على أكثر من نصف الثروة العالمية الجديدة. ومنذ عام 2020، تسارع استيلاء أصحاب الثراء الفاحش على الثروة، فاستحوذ أغنى 1 بالمئة من البشر على ما يقرب من ثلثي جميع الثروة الجديدة التي تراكمت خلال العامين الماضيين. ويشكل ذلك ستة أضعاف ما حصل عليه أفقر 90% من البشرية. ومنذ العام 2020 جنى أحد أصحاب المليارات في العالم 1.7 مليون دولار، مقابل كل دولار من الثروة العالمية الجديدة التي كسبها شخص من أفقر 90 بالمئة من البشرية.
وأشار التقرير إلى تداعيات التحول الذي طرأ على السياسات الاقتصادية والمالية في عصر النيوليبرالية المعولمة، وتناول نتائج السياسات التي روج لها المنظرون الاقتصاديون والمؤسسات الدولية وخصوصا البنك الدولي وصندوق البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وتبنتها غالبية الحكومات طوعا أو كرها، وخصوصا سياسات الخصخصة وتحرير التجارة وأسعار العملات والتغيرات الهيكلية في النظام الضريبي ومنح الحوافز الضريبية للاثرياء، والتراجع المضطرد في الضرائب المفروضة عليهم. وترافقها مع الانخفاض المضطرد في الإنفاق العام. وبين التقرير ان هذه السياسات لم تؤد إلى زيادة الاستثمار والرخاء كما كان يروج. وإنما قادت العالم إلى الكوارث. فلم تفشل فقط في التقدم باتجاه القضاء على الفقر المدقع في العام 2030 كما كانت تدعي، وإنما أدت إلى إفلاس دول بأكملها، مع تضخم مدفوعات الديون التي باتت خارج نطاق السيطرة. حيث ضاعفت البلدان الأشد فقرا إنفاقها أربع مرات لسداد ديونها للمقرضين الجشعين من الدول والأثرياء من القطاع الخاص.
وها هي حكومات الكثير من البلدان تخطط لخفض الإنفاق العام على الخدمات الأساسية الصحة والتعليم وبرامج الرعاية الاجتماعية.
وقد قدرت منظمة أوكسفام أنه على مدى السنوات الخمس المقبلة، تخطط ثلاثة أرباع الحكومات لخفض إنفاقها العام، ليبلغ إجمالي التخفيضات 7.8 تريليون دولار.
وها هو صندوق النقد الدولي يعلن توقعاته بأن ثلث الاقتصاد العالمي سيكون في حالة ركود في العام 2030.
ويظهر تقرير منظمة أوكسفام أن ما لا يقل عن 1.7 مليار عامل في جميع أنحاء العالم، سيشهدون تآكلا في أجورهم بسبب التضخم في عام 2022 ؛ ما يعني انخفاضا حقيقيا في قدرتهم على شراء الطعام وسداد فواتير العلاج والتعليم والطاقة.
تطرق تقرير أوكسفام،أيضا، إلى العلاقة الوثيقة بين تركز الثروة والسلطة في النخب، والانعكاسات الكارثية لذلك التركز، التي لا تقتصر على الاقتصاد واتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء وتفاقم حالة اللامساواة فحسب، وإنما تطال تداعياتها البنىى والهياكل السياسية والاجتماعية واتساع الفجوات المعيشية بين الطبقات والأعراق والنوع الاجتماعي داخل الدول، وعلى المستوى الدولي.
وأشار التقرير إلى أن ثروات المليارديرات نمت بوتائر غير عادية منذ عام 2020، فزادت ثرواتهم بمقدار 2.7 مليار دولار في اليوم. يأتي هذا على رأس عقد من المكاسب التاريخية حيث تضاعف عدد المليارديرات وثرواتهم خلال العشرية التي سبقتها، بالتزامن مع تدهور مستويات المعيشة بشكل غير مسبوق، واستحوذ أغنى 1% من الأشخاص حول العالم، خلال الفترة 2010- 2020 على 26 تريليون دولار (63 %) من جميع الثروات الجديدة، بينما ذهب 16 تريليون دولار (37%) إلى بقية العالم مجتمعين. وحصل كل ملياردير على ما يقرب من 1.7 مليون دولار مقابل كل دولار واحد من الثروة العالمية الجديدة التي يكسبها شخص واحد.
تقول غابرييلا بوشر، المديرة التنفيذية لمنظمة أوكسفام إنترناشونال: «في حين أن الناس العاديين يقدمون تضحيات يومية للحصول على الضروريات مثل الطعام، فقد تفوق الأثرياء بعد عامين فقط من الوباء حتى على أحلامهم. وبدأ هذا العقد في الظهور ليكون الأفضل حتى الآن بالنسبة لأصحاب المليارات فقط، وهو ازدهار هائل منذ مطلع العشرينات لأغنى أغنياء في العالم".
ويتناول الملخص التنفيذي لتقرير أوكسفام بعض الحقائق التي توضح الاتجاه العام للتطورات في تركز الثروة وبالتالي السلطة والقوة :
أولًا: يدفع آيلون ماسك، أحد أثرى رجال العالم، معدل ضريبة حقيقي يزيد قليًلا عن 3% فقط
في حين تدفع آبر كريستين، وهي تاجرة في سوق بشمال أوغندا تبيع الأرز والدقيق وفول الصويا، وتجني ربًحا قدره 80 دولارا شهريا،معدل ضريبة مقداره 40 بالمئة.
ثانيًا: استحوذ أغنى 1 بالمئة من البشر منذ عام 2020، على ما يقرب من ثلثي جميع الثروات الجديدة المراكمة – أي حوالي ضعف الأموال التي يمتلكها أفقر 99 بالمئة من سكان العالم.
ثالثًا: زادت ثروات أصحاب المليارات بمقدار 2.7 مليار دولار يوميا مع التآكل بسبب التضخم لأجور ما لا يقل عن 1.7 مليار عامل(ة)، أي أكثر من عدد سكان الهند.
رابعًا: ارتفعت ثروة المليارديرات في عام 2022 مع الارتفاع السريع في أرباح الغذاء والطاقة. وضاعفت 95 شركة للغذاء والطاقة أرباحها بأكثر من الضعف في العام 2022 وحققت ارباحا مفاجئة بقيمة 306 مليار دولار، ودفعت منها 257 مليار دولار (84 %)للمساهمين الأثرياء. في حين يبيت أكثر من 800 مليون شخص جائعين.
خامسًا: يتأتى 4 سنتات فقط من كل دولار من الضرائب على الثروة، ويعيش نصف أصحاب المليارات في العالم في بلدان لا تفرض ضريبة ميراث على الأموال التي يتركونها لورثتهم.
سادسًا: يمكن لضريبة بنسبة لا تتجاوز 5 بالمئة على أصحاب المليارات والملايين في العالم أن توفر 1.7 تريليون دولار سنويا، أي ما يكفي لانتشال ملياري شخص من براثن الفقر، وتمويل خطة عالمية للقضاء على الجوع.
ربما آن الأوان ليدرك الجميع أن النظام الليبرالي الجديد المعولم القائم على أسس وفرضيات خاطئة، قد بات يشكل خطرا على الوجود البشري. فقد تكشفت الأكاذيب التي تم تسويقها منذ سبعينيات القرن الماضي، وتكثفت منذ انهيار الثنائية القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ومرتكزها أن عوائد ومكاسب تركز الثروة والسلطة والخصخصة والتخفيضات الضريبية التي ستحفز استثمارات القلة، ستعم الجميع. فتبين أن الغالبية الساحقة من سكان العالم قد تم افقارهم لإشباع نهم الأثرياء التي لا حدود لها، واستغلالهم وتسخيرهم لخدمة قلة من المليارديرات البيض الغربيين العنصريين الجشعين، الذين راكموا ثرواتهم عبر إبادة واستعمار واستغلال الشعوب وتوظيف العملاء لإدامة هيمنتهم على النظام العالمي. وما يزالون يعتقدون بتفوقهم العرقي وبأحقيتهم في تكريس كل الآخرين لخدمتهم وتأمين رفاههم.
فهل ستتمكن شعوب العالم المظلومة في العالم أجمع والمهددة بقوت يومها من توحيد قواها لفرض التغيير الضروري؟
وهل ستستعيد هذه الشعوب الإيمان والثقة بإمكاناتها الهائلة عند مراكمتها، وبقدرتها على فرض التغيير عند تفعيل إرادتها الجمعية؟
هل سيحشد الفقراء والمظلومين في عموم الكرة الأرضية طاقاتهم الوفيرة لصنع التغيير الضروري، وإجبار النخب في بلادهم على تبين الحكمة في التعاون، قبل أن يجرف الزلزال الذي تتبدى مقدماته عموم البشرية؟