الرئيسية » مقالات » فيحاء عبد الهادي »   09 أيار 2023

| | |
سلمى الخضراء الجيوسي: الرائدة والمثقفة الموسوعية
فيحاء عبد الهادي

"ليس من عمل أهم من أن نفرض ثقافتنا على العالم، وأن نجبر العالم على أن يرى الدور الذي لعبناه، وأن يتمثله، وأن يحترمه، وأن يقدِّرنا.
الشبيبة العرب يجب أن يشعروا بالفخر والاعتزاز الكبير بأنهم ورثة إحدى أكبر الحضارات الفكرية الأدبية في العالم".
د. سلمى الخضراء الجيوسي
لا تنتظر د. سلمى الخضراء الجيوسي أن يعرِّفها أحد؛ عرَّفت عن نفسها كما تحبّ أن تعرَّف؛ شاعرة أولا، ثم ناقدة، ومترجمة، ومديرة "مشروع بروتا" لربط الشرق والغرب، ولوضع حدّ لغربة الأدب العربي والثقافة العربية عن العالم.
د. سلمى عرفها العالم الغربي، عبر عملها الدؤوب في الحقل الثقافي الإنساني؛ ولم يعرفها فحسب؛ بل عرف الكثير عن الأدب العربي، والأدباء العرب، وعن الثقافة العربية.
عشقت الشعر؛ أودعته نبضها، وحلمها، وأشواقها، وتوقها إلى اجتياز السدود، وتحطيم القيود، واقتحام الصعاب. ولم يفتر حبها له - وإن شغلت عنه خلال مسيرتها الأكاديمية والأدبية الطويلة – منذ ديوانها الأول: "العودة من النبع الحالم"، الذي صدر العام 1960، وحتى ديوانها الثاني "صفونا مع الدهر"، الذي صدر العام 2022.
نذرت نفسها لمهمة كبرى؛ مهمة التغيير الثقافي والاجتماعي؛ ما جعلها تنهل من العلم في بيروت، وتمارس عملها الأكاديمي التربوي في دار المعلمات في رام الله، وتستزيد؛ لتحصل على دكتوراة دولة، العام 1970، من جامعة لندن، وتدرِّس في السودان والجزائر والولايات المتحدة الأميركية، وتترجم إلى العربية كتباً تعرِّف القراء العرب على بعض من أهم كتب الأدب والشعر والنقد، في أميركا، وأوروبا.
ولم تكتف د. سلمى بدورها التربوي؛ فبادرت إلى تأسيس "مشروع بروتا" لترجمة الأدب والثقافة العربية إلى العالم الأنغلوسكسوني في العام 1980، لتصدر، وتحرِّر، بمساعدة كفاءات عربية؛ عشرات الكتب في الأدب العربي، والحضارة العربية الإسلامية، والسير الشعبية.
وبسبب نشاطها الثقافي الممتدّ، الذي تخطّى الحدود الجغرافية والدولية؛ رشَّحتها المنظمة النسوية: "نساء من أجل السلام حول العالم"، مع سبع نساء فلسطينيات، واثنتين وخمسين امرأة عربية، ضمن ألف امرأة عبر العالم، لنيل جائزة نوبل للسلام، بشكل جماعي، العام 2005.
*****
لم يعرف عن د. سلمى أنها عملت في الحقل السياسي؛ لكنها وهي تروي عن مشاركتها السياسية منذ الثلاثينيات (ضمن مشروع بادرت إليه إدارة تخطيط وتطوير مشاركة المرأة، العام 1998)؛ تحدّثت عن نضالها السياسي والنقابي، إلى جانب عملها الثقافي؛ منذ مرحلة الطفولة والشباب، كما أعادت تعريف العمل السياسي كنسوية متميزة.
نشأت في عكا، في بيت علم، وثقافة، ووطنية، وانفتاح ثقافي، واحترام للكرامة الإنسانية. والدها هو ابن صفد؛ "صبحي سعيد الخضراء"؛ الحقوقي والمناضل السياسي العروبي الفلسطيني. ووالدتها هي ابنة الشوف في لبنان؛ "أنيسة يوسف سليم".
وصفت والدها بأنه عاش كي يحقق هدفه السياسي والوطني، وليدافع عن القضية الفلسطينية، وأنه نتيجة عمله الوطني تنقل مدة طويلة ما بين السجن والمنفى.
ووصفت والدتها بالقوة والجمال والحكمة معاً: أسد في مواجهة الصعاب، وأنثى رقيقة وحساسة وشاعرية المزاج؛ مع الزوج والعائلة. وتحدَّثت عن تجربة والدتها السياسية، حيث كانت رئيسة "لجنة الدفاع الوطني"، في عكا، ما جعلها تشارك في "أول مؤتمر نسائي عربي فلسطيني"، عقد في القدس، العام 1929، وتنتخب لعضوية اللجنة التنفيذية، التي انبثقت عنه، والتي ضمت أربع عشرة سيدة.
ولا شكّ أن الطفلة تأثرت كثيراً بالوالد والوالدة؛ ما جعلها تشارك في أول تظاهرة في عكا، وتقودها، وهي في العاشرة من عمرها.
وتروي عن تظاهرة أزعجت الإنجليز إلى حدّ كبير؛ ما جعلهم يقولون للأطفال المشاركين في التظاهرة: "بِنبشِّركم، وأعطيناكم مطالبكم":
"وفزّعنا عكا إن الإنجليز أعطونا مطالبنا. وصدَّقوا الناس، وذهبوا بتظاهرة إلى تحت بيتنا". هذا ما جعل والدتها تسفِّرها مع شقيقتها إلى عمان. لكنها أضربت عن الطعام في بيت خالها، وأصرَّت على العودة، لتشارك في التظاهرات وتتصدّرها.
وفي العام 1938؛ ذهبت الصغيرة للتعلّم في "مدرسة شميدت"، وبقيت في القسم الداخلي مدة خمس سنوات، حيث لم يكن هناك مجال لأي عمل سياسي. انتقلت بعدها إلى بيروت للدراسة الجامعية. وأكَّدت: "السياسة لا تغيب عني أبداً؛ لكن ما كانش عندي نشاط سياسي".
*****
لم تغب السياسة حقاً عن حياة الرائدة، حيث بادرت العام 1963؛ لتأسيس "التنظيم النسائي الفلسطيني في الكويت"، بناء على طلب بعض النساء الفلسطينيات، أثناء إقامتها مع عائلتها هناك: "فلسطينيات بالكويت، قالوا لي: إنتِ إجيت عِنّا، نَظّمينا؛ نَظَّمتهم.
(عبر التنظيم النسائي) نعلِّم النساء، ندرِّب المرأة على حمل السلاح والتمريض، وجمعنا ثياباً من الكويت، وأرسلناها للاجئين".
تحدّثت عن منحى إيجابي ديمقراطي لتجربة التنظيم النسائي (إجراء انتخابات)، رغم لهجة المرارة، التي تخلَّلت شهادتها، نتيجة إحساسها بإنكار جهودها، كمؤسِّسة للتنظيم: "إحنا ما بنعترف بالآخرين، أنا أسَّست (التنظيم) ومَشّيتُه، ما بيصير إنتوا تمحوا اسم المؤسِّسة"، وأعلنت: "لم أستمتع أبداً بهذا التنظيم. ما بَكون سعيدة بالعمل الجماعي دون أن أتمتّع به".
*****
أرادت د. سلمى أن تنتج، وأن تؤسِّس، وأن تقدِّم جهداً فكرياً ومعرفياً، يمتدّ ويلهم؛ وهذا ما يفسِّر ابتعادها عن التجمعات، ونفورها منها، ومن التنظيمات.
آمنت أن العمل هو الأساس، وأن الوطنية الحقيقية هي الخدمة التي يمكن أن يقدِّمها الإنسان مما يتقن. أرادت أن تنجز: "بِدّي أنجِز، تِدَّخَّلوش في أفكاري، تِدَّخَّلوش في حياتي، لوحدي بَنجِز، أنا لست قائدة على الآخرين، أنا رائدة لكن لست قائدة".
وقدَّمت مفهوماً نسوياً للعمل السياسي؛ ربطت بين العام والخاص، وربطت بين حقول المعرفة؛ فاعتبرت أن عملها على "مشروع بروتا" هو عمل سياسي محض.
*****
د. سلمى الخضراء الجيوسي،
قد عبرتِ الحدود، ودخلتِ إلى منبع النار؛ شاعرة متمرِّدة، ومثقفة موسوعية، ومترجمة، وأكاديمية، ونسوية، ووصلتِ إلى العقول والقلوب في وطنك، والوطن العربي، والوطن الإنساني. نعم، وصلتِ؛ "وسينبع عند خطاكِ الغدير".    
faihaab@gmail.com
www.faihaab.com

(نقلًا عن جريدة الأيام)

 
 
 
 
 
 
مشاركة: