بلغة أدبية، وقالب روائي، كتب د. أحمد حرب الجزء الأول من سيرته الذاتية، التي تناولت تاريخه الشخصي، وتاريخ عائلته، وتاريخ بلده ووطنه.
سيرة أدبية وتاريخية ممتعة، تنطلق من الحاضر، وتعود إلى الماضي؛ لتجرِّده من الرومانسية، دون أن يفقد جماليته.
تحكي والدته «قالت أمي»؛ فيحضر الماضي البعيد المعشعش في ذاكرته بقوة منذ الطفولة، ويحكي «حكايتي هي..»؛ لينتقل من الحاضر المؤلم – الذي أشعل الذاكرة – إلى الماضي القريب، ثم إلى الماضي الأقرب حيناً، وإلى الماضي الأبعد حيناً، بخفة ورشاقة وجمالية آسرة.
أضاءت السيرة على بعض ما هو مسكوت عنه، في ما تمّ توثيقه حول العلاقات الاجتماعية الفلسطينية في قرى وبلدات فلسطين، ما قبل 1948، ما يتقاطع مع التاريخ الشفوي، المعني بتوثيق المهمّش والناقص في التاريخ الفلسطيني المكتوب.
نتعرَّف على والدته البدوية فاطمة، التي كانت ترعى الغنم، وتشارك في الزراعة، تحرث وتحصد وتجني المحصول، وتعتني بالأغنام وألبانها. وحين قدّمها الكاتب إلى القراء، وصفها، بما أضاء على مشاركة النساء الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأضاء على العلاقات والمفاهيم الاجتماعية في القرية الفلسطينية، بإيجابياتها وسلبياتها، في تلك الفترة التاريخية.
عبر السرد تبدّت لنا فاطمة، امرأة قوية الشخصية، لها رأيها المستقلّ في قرارات رجال العائلة، ومجلس العائلة.
اعترضت على تمييز المجلس بين الأولاد والبنات، منذ الولادة، حين اجتمعوا وسمّوا الولد ولم يسمّوا البنت، وحين اجتمعوا في اليوم الثاني وقرّروا بأن ترتاح والدة الولد «تمام» مع ابنها «عبد الكريم» أربعين يوماً، أما «فاطمة» والدة البنت «مريم» فتذهب في اليوم التالي مع الحصّادين، ما يبيِّن بوضوح المكانة الرفيعة، التي يحتلّها الولد ووالدته أيضاً، والمكانة الدونية، التي تحتلها البنت ووالدتها، في المجتمع الفلسطيني، في تلك الفترة.
وتكرّر تمييز المجلس بما يتعلق بالتعليم، إذ قرّر حين كبر الأولاد إرسال ابن فاطمة «محمود» وابن عمه «عبد الكريم» إلى المدرسة، وإبقاء ابنتها «مريم» في البيت، ما جعلها تعلن موقفها بوضوح: «ليش البنت لأ؟ البنت أكبر من الولد وأشطر».
وإلى جانب والدته فاطمة، تحضر نساء عديدات، ليبرز دورهن الفاعل، بعفوية وبساطة وتلقائية.
تحضر خالته مريم، التي ترفض الزواج بمن لا تحترم: «لا يسوى بشكل»، وتحضر عندا، فتاة بدوية تبادر لإبداء إعجابها به، بطريقتها، وتصارحه بحبها: «يا ريت لما تكبر تكون من نصيبي»! وتحضر شقيقته مريم، التي قدّمت الطعام إلى الضابط «أبو دخينة» على مضض، قائلة: «سمّ الهاري».
*****
عبر صفحات سيرته الذاتية، انطلق الكاتب من الواقع المؤلم ليسلِّط الضوء على الماضي الجميل والمؤلم أيضاً، ويتطلّع إلى المستقبل الذي يأمل أن يتجاوز سلبيات الماضي.
تناول الماضي بعين الناقد إضافة إلى عين المحبّ؛ لذا كان همه حين وثَّق حياة بعض الأبطال الفلسطينيين/ الشهداء، ممن ناضلوا ضدّ الاستعمار والاحتلال، أن يرسِّخ صفاتهم الإنسانية، التي تكشف مواطن ضعفهم، بالإضافة إلى تمجيد بطولاتهم.
وكذلك فعل مع مقامات الأولياء، حين روى عن مقام «الغماري»، الذي «بات بوصلة الحياة والموت في الظاهرية» لأن الناس كانوا يلجؤون إليه في الفرح وفي الترح، يطوفون حوله، ويتوسلون إليه، ويأملون أن يستجيب لدعائهم.
جرّد الكاتب المقام من القدسية، والوهم الذي يزرعه في النفوس، ما يمكن أن ينتج شخصيات اتكالية عاجزة عن الفعل، تتوسل الحلول لمشكلاتها من خارجها، بدلاً من مناقشة أسبابها وسبل حلّها.
رسخت في ذاكرة الكاتب ما روته والدته عن الشهيد حسن، ابن عمه، الذي خالف قرار مجلس العائلة – التي تملك الأغنام والأبقار والأراضي الشاسعة - بتحمل مسؤولية ملحمة؛ ليتركها ويحمل السلاح دفاعاً عن الظاهرية، وليستشهد في معركة مع القوات الصهيونية في كفار عصيون بعد ذلك.
وعبر الحديث عن قصة الشهيد حسن، وقصص الشهداء: «علي عايش»، و»عبد القادر الحسيني»، و»عبد الحليم الجولاني – الشلف»، و»نوح إبراهيم»؛ تتبيّن مقاومة الشعب الفلسطيني للقوات الصهيونية، وفي الوقت ذاته تتبيّن نقاط ضعفه، التي تمثلت في قلة التدريب، وضعف الخبرة القتالية، وانعدام التخطيط والتنظيم؛ ما تسبّب بخسائر جسيمة.
وبالإضافة إلى توثيق تاريخ البطولات الفردية؛ أبرز الكاتب أشكالاً من البطولات الجماعية. تحدّث عن انتقال عائلته إلى «المغاور»؛ كي تتمكن من حصاد «أرض الخور» – أخصب منطقة من أراضيهم في الظاهرية وبئر السبع - رغم الإعلان عنها ضمن الأراضي الإسرائيلية.
كما وثَّق لثلاثة انتصارات حققها شباب الخليل، في «جورة بحلص» – التي تقع بين حلحول والخليل - أحدها عام 1938، حين انتصر شباب الخليل، بقيادة الشلف، على القوات الإنجليزية؛ ما دعا الشاعر «نوح إبراهيم» أن يحييهم قائلاً:
«تحيا شباب الخليل، أصحاب الباع الطويل، جورة بحلص مشهورة، همتهم فيها مشكورة»،
وانتصاران حدثا عام 1988: في «معركة العلم»، التي جرت بين جيش الاحتلال الإسرائيلي و»جنرالات الحجارة»، حين علّق الشباب علماً بحبال الهاتف، في أعلى ارتفاع من منخفض الجورة، ولم يستطع جنود الاحتلال أن ينزلوه، ما جعل الشباب يغنون: «عالي عالي علمنا يا غالي، جورة بحلص مشهودة، همّتنا فيها محدودة».
أما ما وصفه الكاتب بالانتصار الثالث، في مفارقة أدبية ساخرة؛ فهو فوز شركة إعلان ودعاية بعطاء، بنت بعدها لوحة إعلانات ضخمة لسجاير مالبورو. «يظهر فيها فارس مالبورو وقد انطلق على صهوة جواده في آفاق البريّة الساحرة، ثم يجلس ويستريح مع سيجارة مالبورو وسط طبيعة خلاّبة تداعب الأحلام والآمال».
*****
«سيرة أم رواية أم قبضة من زمن مفقود؟ سمها ما شئت».
أرى أن «مواقد الذكرى»، التي كتبها د. أحمد حرب؛ الأكاديمي والأديب الروائي، هي سيرة ذاتية، امتزج فيها الأدبي بالتاريخي، ما يضيف إلى الأدب الفلسطيني والعربي، وأدب السيرة الذاتية في آن.
www.faihaab.com
(نقلًا عن جريدة الأيام)