الرئيسية » مقالات » غانية ملحيس »   28 شباط 2024

| | |
مرة أخرى … بدعة حكومة التكنوقراط والمستقلين
غانية ملحيس

كان يفترض المضي قدما في كتابة الجزء الثاني من المقال المعنون "الهزات الارتدادية لزلزال غزة تتسع وتأخذ منحا تصاعديا يؤسس لتصويب اعوجاج مسار التاريخ".

غير أن تنامي الدعوات الخارجية والداخلية " لتطوير وتجديد السلطة الفلسطينية" استعدادا لليوم التالي لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الاستعماري الغربي الصهيوني العنصري وأتباعه ضد الشعب الفلسطيني على امتداد فلسطين الانتدابية. والمحتدمة وقائعها للشهر الخامس على التوالي في قطاع غزة. وتكثيف المطالبات بتشكيل حكومة فلسطينية من التكنوقراط والمستقلين. فرض أسبقية تناول الموضوع، رغم أنه قد سبق لي كتابة مقالين حول ذات الموضوع في العام 2019، متاحان للراغبين على موقعي الالكتروني ghanianalhees.com

غير أن ما حفزني على العودة لتناوله مجددا، استجابة البعض الفلسطيني

للضغوط العربية والإقليمية والدولية بشأن استبعاد السياسيين من السلطة لفلسطينية "المجددة". ومشاركتهم بالدعوة لحكومة من التكنوقراط والمستقلين في هذه المرحلة المفصلية، التي يواجه فيه شعبنا الفلسطيني حرب إبادة جماعية تستهدف استئصاله من الجغرافيا والديموغرافيا والذاكرة وإخراجه من التاريخ.

والملفت أن هذه الدعوات تزدهر في كل المفاصل التاريخية التي تمر بها بلادنا العربية المنكوبة منذ أن احتلها الغزاة الغربيون ومزقوها إربا، وتشظت شعوبها ما بين أعراق وأجناس وقوميات وإثنيات وأديان وطوائف ومذاهب وعشائر وتيارات متنافرة. فارتهن بقاء جزيئاتها المستحدثة بالاستعاضة عن المرجعيات الوطنية والقومية والحضارية الجامعة. بأخرى خارجية. تمليها موازين القوى الدولية والإقليمية بديلا لموازين الحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعوب في أوطانها.

واللافت تجدد هذه الدعوات في كل المرات التي تتمرد فيها شعوبنا القابضة على الجمر، وتتمسك ببلوغ حقوقها الثابتة، وتستعصي على الخضوع والاستسلام لواقع اختلال موازين القوى لصالح الطغاة الطامعين.

وبالتزامن معها يشتد الاختلاف بين المكونات الوطنية المختلفة والقوى السياسية المحلية، ويتنامى صراعها البيني حول البدائل والخيارات والمناهج. فتزداد الدعوات الخارجية للإنقاذ، ويتردد صداها في الداخل، عبر المطالبة بحكومات من التكنوقراط والمستقلين بديلا للسياسيين.

والغريب أننا لا نرى مثيلا لهذه الدعوات في الدول الغربية والمتقدمة المرغوب محاكاتها. والتي تقودها حكومات سياسية تفرزها الأحزاب المتعارضة في الرؤى والمناهج.ما يثيرعديد التساؤلات حول غاياتها.

فإذا كانت حكومات التكنوقراط والمستقلين تشكل مخرجا من الأزمات المستعصية. فلماذا لا نرى من يدعوننا للاستعاضة عن السياسيين بالتكنوقراط والمستقلين، يطبقون ذلك في بلادهم المأزومة بانقسامات أفقية وعمودية ؟!

ولماذا لا نسمع دعوات مماثلة للكيان الصهيونى المأزوم. الذي خاض خمس انتخابات تشريعية متتالية خلال أقل من أربع سنوات.( أولاها في نيسان /أبريل/ 2019، وثانيها في أيلول/ سبتمبر/ من العام ذاته، وثالثها في آذار /مارس/ 2020، ورابعها في آذار/مارس/ 2021، وخامسها الأخيرة في تشرين الثاني /نوفمبر/ 2022). أسفرت عن تشكيل حكومة ائتلافية من اليمين العنصري الفاشي القومي والديني. أعقبها احتجاجات شعبية واسعة في مطلع كانون الثاني/ يناير/ 2023 تواصلت على مدى تسعة أشهر متتالية. وتوقفت مؤقتا بعد طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر/ 2023، ثم تجددت بالدعوة لانتخابات جديدة مبكرة رغم الحرب).

فإذا كان الاختلاف بين السياسيين مؤشرا للديمقراطية التي يروج الغرب لعولمتها. ويوظف القوة القاهرة لفرضها على الدول التي يسمها بالاستبداد والتخلف.

فلماذا يحظر علينا تطبيق نموذجها الغربي في بلادنا ؟!

ثم أليست التكنوقراطية نقيضا للديمقراطية؟ حيث يتم اختيار القادة وصناع القرار في النظم الديمقراطية على أساس مقدارشعبيتهم وتأييد الناخبين لبرامجهم. ويرتبط وصولهم إلى السلطة بتصويت الغالبية. في حين يتوقف اختيار التكنوقراط على مقدار المعرفة والمهارات المهنية التي يمتلكونها.

لماذا يكون التعايش والتحالف بين القوى السياسية المختلفة حلال لهم حرام علينا ؟!

ولماذا تقتصر الدعوات لحكومات التكنوقراط والمستقلين على دول الجنوب التي تحاول الإفلات من سيطرة الشمال وسطوته ؟!

ولماذا تزدهرهذه الدعوات في بلادنا العربية كلما ثارت الشعوب وطالبت بتغيير واقعها البائس؟!

ولماذا تتكثف في فلسطين كلما تجرأ الشعب الفلسطيني على التمرد والدفاع عن نفسه ضد حروب الإبادة والتطهيرالعرقي والتهجير وتوحش المستوطنين والاغتيال والحصار ؟!

ولماذا يتعاظم الترويج فلسطينيا وعربيا وإقليميا ودوليا لحكومة التكنوقراط والمستقلين خلال حرب الإبادة الجماعية التي تحاول استئصال قطاع غزة وأهله من الجغرافيا والديموغرافيا والذاكرة والتاريخ ؟!

ولماذا باتت الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط ومستقلين أولوية أولى، فألفها العامة، حد مطالبة البعض الفلسطيني بتقديمها على وقف القتل، كما لو كانت شرطا وجوديا.

واللافت أن بعض المرشحين - وفقا لدرجاتهم الأكاديمية وخبراتهم المهنية- لقيادة المرحلة المقبلة. قد سبق وتعاقبوا على مواقع المسؤولية منذ انهيار حكومة الوحدة الوطنية بعد الضغوط الدولية التي أعقبت فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية - التي ضغط الأمريكيون والأوروبيون وسهل الإسرائيليون إجراءها في العام 2006 وشهد المراقبون الدوليون بنزاهتها-. ثم انقلبوا على نتائجها لإحداث انقسام في النظام السياسي الفلسطيني.

ولم يسهم توليهم المسؤولية،آنذاك، رغم الدعم الدولي اللافت في إخراج الشعب الفلسطيني من مأزقه السياسي. وفاقمت خياراتهم ومناهجهم الخاطئة في الفصل بين السياسة والاقتصاد في تعميق الأزمات، وإضعاف مناعة الشعب الفلسطيني، ورفع كلفة مقاومته لأسرلة وتهويد القدس والتوسع الاستيطاني،الذي تنامى بوتائرغيرمسبوقة.

والملفت أكثر انضمام بعض السياسيين الفلسطينيين مؤخرا - وبعضهم ممن تولوا المسؤوليات السياسية والأمنية والتنظيمية لسنوات، ومشاركتهم المطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط ومستقلين من خارج النظام السياسي الفصائلي الفلسطيني خلال مرحلة انتقالية، ريثما يتم اعادة بناء نظام سياسي فلسطيني جديد يتوافق مع الشروط والمتطلبات الدولية والإقليمية لليوم التالي.

ما بات يتوجب معه البحث والتدقيق مجددا في مفهوم مصطلحي التكنوقراط والمستقلين، قبل الدخول في متاهات وأزمات جديدة يتسبب بها تكرار ذات التجارب الفاشلة وتوقع نتائج مغايرة.

فمصطلح التكنوقراط لغويا - وفقا لويكيبيديا - مشتق من الكلمتين اليونانيتين: (tekhne) وتعني "المهارة" و(kratos) وتعني القوة.

وتاريخيا، فقد ظهر المصطلح(التكنوقراط) في الولايات المتحدة الأمريكية أواخرعشرينيات القرن الماضي. ونشطت الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط في مطلع الثلاثينيات في أعقاب الكساد الكبير. كرد فعل على إخفاق السياسيين إذ ساد الاعتقاد،حينذاك، بأن المهنيين وذوي المهارة العالية هم أكثر قدرة على حل مشاكل البلاد الاقتصادية من السياسيين المنتخبين على أساس شعبيتهم. وعليه، يتوجب منحهم السلطة للتحكم بالاقتصاد وتوجيهه، باعتبار ذلك الطريقة الوحيدة لتخليص البلاد من البطالة والديون.

غيرأنه بحلول منتصف الثلاثينيات، تراجع الاهتمام بخيار استبدال السياسيين بالتكنوقراط لإصلاح الاقتصاد - كما يقول المؤرخ الأمريكي وليام إي أكين- بسبب إخفاق التكنوقراط في ابتكار "نظرية سياسية قابلة للتطبيق" لتحقيق التغيير المستهدف.

بمعنى، أنهم اكتشفوا أن تغيير الواقع القائم- بما في ذلك الاقتصادي- مسألة سياسية في الأساس.

وأن عملية التغيير ترتبط بالرؤية السياسية الشاملة للتغيير المستهدف. وبالأهداف التي تحددها المصالح الوطنية، وتبلورها موازين القوى المجتمعية، ويعكسها السياسيون الملزمون حكما بعقد اجتماعي تتوافق عليه الحكومة(منتخبة أم معينة) مع الشعب، لتأمين التوازن في توزيع الأعباء والعوائد بما يحفظ الاستقرار.

يؤكد،ذلك، أن مسألة تغيير الواقع القائم للدول والشعوب لبلوغ المستقبل المرغوب المتوافق عليه وطنيا، مسألة سياسية بامتياز. وليست مسألة تقنية كما يجري ترويجه في بلادنا. دون التقليل من أهمية وضرورة توظيف المعارف العلمية والخبرات العملية للتكنوقراط في بناء وتنمية الوعي المعرفي للسياسيين،عبر تعريفهم ببدائل السياسات لبلوغ الأهداف الوطنية المتفق عليها بالسرعة القصوى والكلفة الدنيا.

وعليه، فإن اختيار المرشحين لإدارة شؤون البلاد والعباد، وفقا لمعارفهم العلمية ومهاراتهم التقنية وخبراتهم العملية (بافتراض أن القرارات التي يتخذها المسؤولون أقرب إلى الصواب. لأنهم يعتمدون في اتخاذ قراراتهم على البيانات والمناهج العلمية. ويحتكمون إلى معايير الجدوى التي تحددها حسابات الأرباح والخسائر). وليس وفقا لانتماءاتهم السياسية، والتزامهم برؤية وطنية شامله وأهداف واضحة واستراتيجيات وخطط عمل لبلوغها، سيؤدي إلى الإخفاق في الخروج من الأزمات.

أما مصطلح المستقلين، فهو لغويا، يعني غيرالمنتمين لأحزاب سياسية أو تنظيمات أو فصائل.

وقد حظيت الدعوة لتولي المستقلين زمام القيادة بقبول مجتمعي متنام في بلادنا العربية المأزومة، ومنها فلسطين. بسبب فشل الأحزاب والتنظيمات والفصائل سياسيا : بتحقيق تطلعات الشعوب للحرية. وإداريا: بتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.

ولم تلتفت الغالبية إلى أن الإخفاق على مستوى السياسة والإدارة لا يكمن في الأحزاب والتنظيمات والفصائل، فهي ليست سوى أطر مؤسسية وآليات لحشد وتنظيم وتأطير الطاقات الشعبية وتفعيلها، وزيادة قدرتها على التأثير لتغيير حاضرها وصنع مستقبلها.

وإنما يعود فشلها أساسا إلى ضعفها البنيوي كأطر مرجعية عليا للسياسة والمساءلة والمحاسبة. والى تراجعها أمام استبداد القادة، ما سمح بتفردهم وأسهم في إضعاف تأثيرالأطر في عملية التغيير، الذي يتعذر إحداثه دون إشراك الجماهير الشعبية الواسعة في الدفاع عن حقوقها الوطنيه واحتياجاتها الأمنية ومصالحها الاقتصادية والاجتماعية. ما أدى إلى توسع الفجوة بين الأهداف والشعارات الحزبية والتنظيمية والفصائلية، وبين النتائج المتحققة فعليا. والناجمة أساسا عن سوء خيارات القادة على مستوى السياسات والمناهج والخطط والبرامج التنفيذية لبلوغ الأهداف.

والتاريخ الإنساني المدون حافل بالأمثلة لقادة حزبيين دخلوا التاريخ، وما كان بإمكانهم تغيير واقع شعوبهم. لولا فاعلية أحزابهم وتنظيماتهم أمثال: فلاديمير لينين (الحزب الشيوعي السوفيتي)، وماوتسي تونغ ( الحزب الشيوعي الصيني)، وفيدال كاسترو (الحزب الشيوعي الكوبي)،وجوزيف تيتو (الحزب الشيوعي اليوغوسلافي)،والمهاتما غاندي( حزب المؤتمر الوطني الهندي)، ونيلسون مانديلا (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي)، ومهاتير محمد ( حزب سكان ماليزيا الأصليين المتحدين)، وأحمد بن بلة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية)، وجمال عبد الناصر (حركة الضباط الأحرار)، وياسر عرفات (حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح) على سبيل المثال لا الحصر.

بل يمكن القول أن الانتكاسات التي واجهتها دولنا وشعوبنا العربية وشعبنا الفلسطيني خصوصا، قد نجمت في الأساس عن إضعاف الأحزاب والتنظيمات والفصائل. وتغيرأهدافها وانحراف مساراتها.

وعليه فإن تغيير الواقع الفلسطيني لراهن لا يكمن في تفضيل المستقلين لحيادهم إزاء صراع السياسات والأهداف والمناهج المتباينة للقوى السياسية الفاعلة. فالحياد، قد يكسبهم قبول ورضا مختلف الأطراف، وخصوصا الخارجية لابتعادهم عن الصراع السياسي. إلا انه يحد من قدرتهم على الفعل المؤثر. حيث لا مجال للعامل في الحقل السياسي أن يكون مستقلا ومحايدا في الصراع على المستقبل والمصير الوطني.

وعليه، لا يمكن المراهنة على قدرة النخب المستقلة والتكنوقراط في إحداث تغيير جوهري يستجيب لحاجات الشعوب، مقارنة بالأحزاب التي تستند إلى قواعد تنظيمية وحزبية قوية، مهما امتلكوا كأفراد من كفاءة. خصوصا في ضوء افتقارهم إلى مرجعيات سياسية وأطرمؤسسية إشرافية ورقابية راسخة توجه عملهم، وتسائلهم عن الأداء.

وغني عن القول أن أهمية القوى والأحزاب والتنظيمات السياسية تتنامى في تغيير واقع الدول والمجتمعات غير المستقرة، كما هو حال دولنا ومجتمعاتنا العربية من محيطها إلى خليجها. حيث ما تزال جميعها تعاني من الإرث الاستعماري الغربي - رغم انتهاء عصر الاستعمار المباشر لغالبيتها- إما بسبب إحجام النخب الحاكمة المتغربة التابعة وخضوعها.

أو بسبب إخفاق السياسين الذين تولوا الحكم بعد الاستقلال. تارة بفعل ضغوط القوى الاستعمارية وعدم احتمائهم بشعوبهم لمواجهتها.

وتارة أخرى بسبب الافتقار إلى رؤي تحررية شاملة لتوجيه السياسات والاستراتيجيات والخطط القادرة على حشد الإمكانات الذاتية، وتوظيف الظروف الموضوعية بالإفادة مما تتيحه من فرص وتعظيمها، ودرء ما تنطوي عليه مخاطر وتبديدها. كي يتسنى تصفية الإرث الاستعماري والتأسيس للنهوض. كما فعلت دول وشعوب أخرى تحررت فتقدمت.

وتتعاظم أهمية السياسيين في الحالة الفلسطينية. وخصوصا في المرحلة الراهنة، حيث يواجه الشعب الفلسطيني حرب إبادة جماعية على امتداد فلسطين الانتدابية عموما، وفي قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا خصوصا، والذي يواجه وحده للشهر الخامس على التوالي، حرب إبادة جماعية تستهدف محوه بإبادة وتهجير سكانه، وتدمير المكان وجعله غير صالح للسكن.

ما يثير الشبهات ويضاعف الشكوك بمقاصد الداعوات لتشكيل"حكومة من التكنوقراط والمستقلين " في هذه المرحلة المفصلية الأهم والأخطر في تاريخ الصراع الفلسطيني - الصهيونى.

مشاركة: