الرئيسية » مقالات »  

| | |
الإخفاق المتكرر لليبراليين في إسرائيل والولايات المتحدة: أزمة الخطاب والمصير السياسي. بقلم: فادي البرغوثي

 على مدار العقود الماضية، شهدنا انهيارًا تدريجيًا للتيارات السياسية التي ترفع شعارات السلام والتسوية داخل إسرائيل والولايات المتحدة. هذا التراجع لم يكن مجرد مصادفة، بل كان نتيجة مباشرة لانفصال هذه القوى عن الواقع السياسي، مما أدى إلى فقدانها قاعدتها الشعبية لصالح التيارات الأكثر تشددًا التي وجدت انسجامًا مع حقائق الصراع.

في إسرائيل، كان حزب العمل نموذجًا صارخًا لهذا السقوط. فقد شكّل الحزب العمود الفقري للمشهد السياسي الإسرائيلي لعقود، لكنه بدأ في التلاشي بعد اتفاقية أوسلو، حيث لم يكن مستعدًا لتقديم الحد الأدنى من الحقوق التي طالب بها الفلسطينيون رغم التنازلات الجوهرية التي قدموها. فقد الفلسطينيون 78% من أرضهم التاريخية في الاتفاقيات السابقة، ورغم ذلك لم يستطع حزب العمل المضي قدمًا في تحقيق أي تسوية عادلة، وبدلًا من ذلك، لجأ إلى التلاعب بالألفاظ وإنتاج سلام مشوه ومفخخ لم يلبِّ الحد الأدنى من تطلعات الفلسطينيين.

في هذه المرحلة، كانت الولايات المتحدة تلعب دورًا حاسمًا. فقد دعم الرئيس بيل كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك خلال مفاوضات كامب ديفيد، وألقى باللوم على ياسر عرفات في فشل المفاوضات، رغم أن عرفات قدم تنازلات تفوق ما كان مطلوبًا منه. وهكذا، تحولت الديمقراطية الليبرالية الغربية إلى شريك في الإبقاء على الاحتلال، بدلًا من أن تكون راعيًا حقيقيًا للسلام.

 عندما عاد الحزب الديمقراطي إلى السلطة عبر جو بايدن، تكررت القصة ذاتها. فبعد هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات، كانت هناك توقعات بأن يعيد بايدن التوازن إلى السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكن ما حدث كان العكس تمامًا. فقد تخلى بايدن عن خطابه السابق بمجرد وصوله إلى السلطة، وواصل دعم الاحتلال بلا شروط، بما في ذلك الإبقاء على السفارة الأمريكية في القدس، وتقديم الدعم الكامل لإسرائيل في حربها الأخيرة، حتى تبنى مشروع التهجير الجماعي لسكان غزة. ومع ذلك، فشل هذا المشروع أمام صمود الفلسطينيين .

الخطاب المتطرف وانسجامه مع الواقع السياسي

 في المقابل، نجحت التيارات الأكثر تطرفًا في البقاء متماسكة لأنها لم تتنصل من خطابها بمجرد وصولها إلى الحكم. فالأحزاب اليمينية في إسرائيل، مثل الليكود وحلفائه، حافظوا على سياساتهم العدوانية ولم يتراجعوا عنها، مما أكسبهم ثقة جمهورهم. وكذلك الحال بالنسبة للحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، الذي بقي مخلصًا لقاعدته الانتخابية، ولم يغيّر مواقفه بشكل جذري بين حملاته الانتخابية وفترة الحكم.

أما القوى الليبرالية، فإن مشكلتها الأساسية هي التناقض بين وعودها وخطابها السياسي وهي في المعارضة، وبين ممارساتها الفعلية عند وصولها إلى السلطة. وهذا التناقض هو الذي أدى إلى انهيار مصداقيتها، وجعلها تفقد جمهورها لصالح القوى الأكثر وضوحًا في مواقفها، حتى لو كانت هذه المواقف متطرفة.

كيف يمكن لهذه الأحزاب أن تستعيد مكانتها؟

إذا أرادت القوى الليبرالية أن تعود إلى المشهد السياسي بقوة، فلا بد أن تتخلى عن ازدواجية الخطاب. عليها أن تلتزم بالمواقف التي تعلنها وهي في المعارضة، وألّا تتراجع عنها عند وصولها إلى السلطة. إن مجتمعات اليوم لم تعد تقبل بالمواقف المتقلبة، بل تبحث عن الأحزاب التي تمتلك رؤية واضحة وتطبقها على أرض الواقع.  

أما إذا استمرت هذه القوى في سياستها الحالية، فإن مصيرها سيكون التلاشي، كما حدث مع حزب العمل في إسرائيل، وكما قد يحدث للحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة إذا استمر في خذلان قاعدته الجماهيرية. في النهاية، السياسة ليست مجرد شعارات، بل هي التزام حقيقي بمبادئ واضحة، والقدرة على ترجمتها إلى أفعال ملموسة.

 

 

 

 

مشاركة: