
ليست تصريحات دونالد ترامب عن "صديقه" رجب طيب أردوغان مجرد مجاملة دبلوماسية عابرة، بل تعبير عن لحظة سياسية تكشف تحولات عميقة في خرائط النفوذ داخل الجغرافيا السورية. فالتاريخ يُعلّمنا أن التفاهمات بين الكبار لا تُبنى على المواقف العاطفية، بل على المصالح الدقيقة وموازين القوى التي لا ترحم. ما جرى في سوريا منذ بدء الحرب لم يكن سوى إعادة تدوير لسياسات السيطرة، حيث تقاسمت الدول الفاعلة—وخاصة الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران—المشهد السوري بما يخدم أمنها القومي ومصالحها الاقتصادية، تحت غطاء شعارات مكافحة الإرهاب أو دعم "التحول الديمقراطي .
في هذا السياق، يبدو أن تفاهمًا أمريكيًا–تركيًا قد نضج مؤخرًا، يقوم على منح تركيا حيزًا من النفوذ داخل الأراضي السورية، لا سيما في الشمال، في مقابل أن تلتزم تركيا بضبط حدود توسعها وعدم الاصطدام بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية. إلا أن ما يُعقّد هذا التفاهم هو السلوك الإسرائيلي الذي لا يخضع لأي منطق تقاسمي بقدر ما يتحرك بدافع التوسع الاستباقي والتفوق الأمني الدائم، لا سيما في ظل نظرته التقليدية إلى الجوار العربي كساحة مفتوحة للمناورة والضغط والابتلاع.
إسرائيل، ومنذ بدايات الأزمة السورية، لم تخفِ أطماعها في هضبة الجولان وما بعدها. ومع كل خطوة تقاربية بين أنقرة وواشنطن، تُبدي تل أبيب انزعاجها، ليس خوفًا على سوريا، بل لأن أي تفاهم لا يمر عبرها، يُعتبر تهديدًا مباشرًا لمشروعها التوسعي المستتر. هذا ما يفسر جزئيًا التصريحات الأمريكية التي تأتي أحيانًا على شكل "طمأنة" لإسرائيل، وأحيانًا على شكل تذكير لتركيا بعدم تجاوز الخطوط الحمراء.
تصريحات ترامب الأخيرة يمكن قراءتها ضمن هذا الإطار: فهي ليست فقط إشارة إلى التفاهم مع أردوغان، بل أيضًا رسالة غير مباشرة لإسرائيل مفادها أن هناك حدودًا للتوسع، حتى بالنسبة لـ"الحليف الأول". فالتقاسم المقترح للنفوذ في سوريا بين تركيا وإسرائيل ليس حبًا في النظام السوري ولا اهتمامًا بمستقبل شعبه، بل هو نتاج توجه أمريكي أوسع، يسعى لإعادة ضبط التوازنات في المنطقة، بما يضمن استمرار النفوذ الأمريكي دون الانزلاق إلى مواجهات إقليمية مفتوحة، خصوصًا بعد تجربة العراق وأفغانستان.
أما من زاوية أعمق، فإن هذا المشهد يُظهر كيف أصبحت الدول الإقليمية أدوات تُحركها القوى الكبرى لتحقيق أهداف جيوسياسية تتجاوز حدود الأوطان. لقد تحولت سوريا إلى ساحة مفتوحة لتجريب كل صنوف الهيمنة والتقسيم، من خلال ما يُسمى "إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
في النهاية، تبقى الحقيقة المُرّة أن الشعوب وحدها تدفع ثمن هذه التفاهمات، بينما تُرسم على الأرض حدود جديدة، لا علاقة لها بالتاريخ ولا بالهوية، بل بمن يملك القوة ليعيد تشكيل الواقع على صورته.