تناول عدد من كتاب الأعمدة أو الرأي مؤخراً موضوعاً حساساً، ألا وهو موضوع الخلافة المستقبلية للرئيس أبو مازن في غياب آفاق واضحة للانتخابات، فمنهم من اقترح تعيين نائب للرئيس ومنهم من اقترح انتخاباً داخلياً في صفوف حركة فتح، ومنهم من اقترح انتخاباً في المجلس المركزي وما شابه.
والحقيقة أن جميع هذه الآراء – مع الاحترام لكاتبيها – لا تعطي الجواب الشافي لسبب أساسي: إن الرئيس هو منتخب من الشعب الفلسطيني. وجميع الأطراف، حتى المناهضة لـ أبو مازن، تدرك قوة شرعيته، مدركين أن هذه الشرعية ستبقى قوية إلى أن تجري انتخابات رئاسية جديدة.
ومن يخلف أبو مازن يجب أن يتمتع بنفس القدر من الشرعية، وإلا فإن الشعب لن يقبله إلا على مضض وربما لفترة وجيزة، وقد تنجر البلاد في أتون من المعارك الداخلية – لا سمح الله، ولن يحمي البلاد من مثل هذه الأخطار إلا شرعية الانتخابات.
وبطبيعة الحال فإن إجراء الانتخابات في الظروف الداخلية الحالية (الانقسام) هو أمر صعب للغاية، وبالتالي علينا – بدلاً من إيجاد مخارج لخلافة أبو مازن – أن نجد مخارج لإجراء الانتخابات، أي إيجاد بيئة مواتية للانتخابات، وبمعنى آخر علينا أن ننهي حالة الانقسام! فهذا هو الهدف الذي يجب أن نسعى إليه دون هوادة.
إن الرؤى المختلفة بين أكبر فصيلين في فلسطين – فتح وحماس، ليست سبباً كافياً لاستمرار الانقسام، فالأحزاب والفصائل في الدول المتقدمة تتصارع على جميع الأصعدة – سياسية كانت أو اجتماعية، والجمهوريون والديمقراطيون في الولايات المتحدة في صراع لم نشهده من قبل حول الاتفاق النووي مع إيران.
وفي بريطانيا اضطر رئيس الوزراء لإجراء استفتاء العام 2014 حول إمكانية انسلاخ أسكتلندا عن بريطانيا، ولا شك أن هذه الأمور تشير إلى وجهات نظر متباعدة جداً في داخل البلد الواحد في الدول المتقدمة.
ومع ذلك يتم حل هذه الأمور المعقدة بطرق ديمقراطية وبناءة مثل الانتخابات أو بالاستفتاء.
وعلينا كفلسطينيين أن نستفيد من تجارب هذه الدول، وأن نعيد اللحمة إلى شطري فلسطين دون الالتفات إلى المسميات (انقلاب، انقسام، حركة تمرد، انقلاب مضاد)، فنحن جميعاً الآن في معركة لحل مشكلة الانقسام وليس لتأجيجها.
ندرك أن لحماس مشروعها الخاص، كما ندرك أن لفتح ولمنظمة التحرير مشروعاً يتناقض في بعض الأمور مع مشروع حماس وفي الوقت ذاته يتقاطع مع حماس في العديد من الأمور، وعلينا التركيز على نقاط التقاطع. فمشروع حماس يتعلق بالتحرير ومشروع منظمة التحرير يتعلق بالتحرير، آخذاً بعين الاعتبار أن لكل منهما أسلوباً مختلفاً، وحتى لو كانت الرؤى متضاربة تماماً، فالانتخابات هي المرجع، والشعب وحده يقرر المسار الذي يرغبه، وهو وحده يتحمل نتائج الانتخابات.
إنني متأكد أن الطرفين في فتح وحماس يدركان أهمية المصالحة وعلى هذا الأساس تمت الاتفاقيات المتعددة، ولسوء الحظ، لم تثمر هذه الاتفاقيات عن حل جذري لموضوع الانقسام، لأسباب لا يدركها الشعب.
وكل طرف يرى تنفيذ الاتفاقيات من منظور خاص به، غير مدركين أن المصالحة، وسرعة إنجازها، هي أهم عمل إستراتيجي يمكن إنجازه على طريق التحرير والتحرر.
وفي رأيي أن استمرار الانقسام لفترة أطول، دون حل له، سيحول المشكلة إلى أزمة مستدامة مثل مشكلة اليمن، على سبيل المثال، (التي بدأت في الستينيات من القرن المنصرم وما زالت)، أو السودان التي اضطرت في العام 2011 إلى القبول قسراً بتقسيم البلاد!
والسؤال المطروح الآن يتعلق بما هو المطلوب لرأب الصدع وإنهاء الخلاف.
هنالك أكثر من طريقة وسأطرح حلين عمليين:
تعيين لجنة محايدة من الفلسطينيين – لجنة حكماء – لتكون محكِّمة لتنفيذ الاتفاقات التي تمت، ويتم اختيار اللجنة بتوافق الأطراف المتنازعة، ويمكن للجنة أن تفسر الاتفاقيات بأفضل الطرق من أجل تثبيت المصالحة فعلياً.
أن يذهب الرئيس أبو مازن نفسه، وهو متبوئ لأعلى منصب قيادي منتخب في فلسطين، إلى القطاع مع شخصيات فلسطينية – لجنة حكماء - وإنهاء جميع نقاط الخلاف الأساسية بأسلوب التحكيم الذي ذكرته أعلاه.
والحقيقة أن أبو مازن له قدرة فائقة في معالجة الأمور للصالح العام ووجود شخصيات معه تساعد في إضفاء جو من الحيادية المفعمة.
قد يتذرع البعض أن هذا ليس الوقت المناسب للحل أو المناسب لأن يذهب أبو مازن إلى القطاع، ولكنني أرجو أن يدرك الجميع أننا في مرحلة صعبة للغاية، وإن لم نتمكن من حل الإشكال بسرعة فإن الإشكال لن يتم حله، وعندئذ لا ينفع الندم ولا تنفع الحسرة.
وعلينا حينذاك أن ننسى أيضاً موضوع التحرير، ومن لا يتمكن من حل خلاف داخلي متواضع نسبياً لن يتمكن من حل قضية مثل الاحتلال.
نعم المصالحة هدف رئيسي وإستراتيجي يجب أن لا نحيد عنه، وإن تمت المصالحة ضمن الشروط المذكورة في أكثر من اتفاق فإن قضية الانتخابات تصبح أمراً قابلاً للتحقيق، وتصبح خلافة أبو مازن هي ضمن الشرعية وليس ضمن إيجاد المخارج غير الواقعية التي برع بها الفلسطينيون.
نعم الشعب تواق لدحر الاحتلال ولكنه يدرك أن دحر الاحتلال يأتي عبر بوابة المصالحة، وبوابة المصالحة يمر من عبرها أيضاً المواطنون المحاصرون في غزة، وبوابة المصالحة تسمح بالتعمير في غزة، وبوابة المصالحة تسمح بالانتخابات وباستمرار الشرعية الدستورية في الوطن، وبخلافة أبو مازن أو استمرار انتخابه إن رغب في الترشح وفاز هكذا تكون الخلافة، ودون ذلك نكون قد قضينا على النهج الديمقراطي الذي ما نزال نتغنى به، ونكون وهو الأهم، قد ابتعدنا عن مسار التحرير لأجيال قادمة.
ورجائي من قيادة الشعب الفلسطيني ألا تسقط المصالحة من برامجها، وأنا متأكد من أن القيادة الفلسطينية بجميع مكوناتها تعي، بخبرتها وحنكتها وإيمانها الراسخ بقضيتها العادلة، أنه حتى يكون صوتها مسموعاً من الشعب، فعليها أن تسمع وبدقة من الشعب نفسه.
* رئيس لجنة الانتخابات المركزية