التقى ايهود باراك وزير جيش الاحتلال بهنري كيسنجر السياسي الأميركي المخضرم وصاحب سياسة الخطوة.. خطوة وسأله بماذا ينصح الحكومة الإسرائيلية إزاء كيفية التعامل مع ابو مازن، فقال له: ابو مازن رجل سلام ولن يبلع العالم اتهامه بالارهاب مثل سلفه ياسر عرفات. لذا لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية أن ترفض التفاوض معه، عليها أن تتفاوض معه بدون أن تعطيه شيئاً. وهكذا كان.
رغم حماسها للمفاوضات لا تعطي حكومة نتنياهو ابو مازن شيئا سوى خطوات بناء الثقة، أما بالنسبة للتفاوض حول القضايا الأساسية فأقصى ما تعهدت به تكرمها بإدراجها على طاولة التفاوض بدون الالتزام بأي شيء.
ابو مازن رجل سلام، ويؤمن حتى النخاع بالمفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، وأن ما لا تحققه المفاوضات يمكن تحقيقه بالمزيد من المفاوضات. وعندما قرر وقف المفاوضات الى أن يتم تجميد الاستيطان وتحديد مرجعية واضحة للمفاوضات والتفاوض من النقطة التي وصلت إليها المفاوضات السابقة، لم يفعل ذلك كفرا بالمفاوضات وإنما يفعل ذلك كتكتيك لانقاذها. وهذا أمر بقدر ما يقويه كونه يحرج إسرائيل ولكنه يضعفه لأن إسرائيل تعرف أنه لا يستطيع البقاء طويلا بعيدا عن المفاوضات، فلدى إسرائيل أوراق كثيرة للضغط عليه ما دام في إطار نفس المعادلة التفاوضية، ولن تبقى إسرائيل والإدارة الأميركية طويلا بانتظاره.
ابو مازن يخشى أن يواجه مصير ياسر عرفات لذلك يحرص كل يوم للتأكيد على إيمانه بالمفاوضات وأن البديل عن السلام هو السلام، ويرفض الدعوة الى أو التلويح بشن انتفاضة ثالثة لدرجة أنه تعهد بمنع ذلك طالما بقي رئيسا، بدون أن يضمن ذلك بعدة، على أمل أن يؤدي ذلك لاعطاءه شيئا يسمح باستئناف المفاوضات.
ومضى ابو مازن في مقابلة مع قناة اوربت أبعد عندما رفض أن يبدأ الفلسطينيون حتى بإلقاء الطوب على الإسرائيليين مؤيدا المقاومة الشعبية السلمية على شاكلة ما يجري في بلعين ونعلين والقدس، فهو يخشى أن تجر إسرائيل الفلسطينيين الى "دائرة العنف"، لأنه يخشى من أنها تستطيع أن تظهر بحكم تفوقها الاعلامي أمام العالم كضحية وليس على حقيقتها بوصفها الجلاد.
"كعب اخيل" سياسة ابو مازن، أي نقطة ضعفها الكبيرة، أنها لا تزال تراهن على الوقت، وتتبع سياسة الانتظار على أمل قيام الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لكي توافق على تنفيذ التزاماتها الواردة في خارطة الطريق الدولية المقرة منذ عام 2003 ولم تنفذ إسرائيل شيئاً منها.
على الفلسطينيين خصوصا قيادتهم أن يدركوا أن تراجع إدارة اوباما عن وعودها خضوعا لضغوط إسرائيل واللوبي المؤيد لها في الولايات المتحدة الأميركية، ليس أمرا جديدا أو عارضا على السياسة الأميركية، وإنما يؤكد الحقائق المعروفة عن طبيعة العلاقة العضوية والتحالف الاستراتيجي الذي يربط إسرائيل بأميركا، ويوضح لمن وقع تحت الأوهام أن رئيسا أميركيا أسود جاء من خارج المؤسسة الأميركية لا يستطيع أن يغير هذه الحقائق. ولن يستطيع أن يغيرها فورا أو من الجولة الأولى، وبدون توفير دوافع تشجعه على ذلك مثل قيام ضغط فلسطيني وعربي ودولي متزايد على اميركا، يوازي ويزيد الضغوط المؤيدة لإسرائيل. عندها يمكن أن تتغير السياسة الأميركية.
إن المطلوب كسر المعادلة التفاوضية المعتمدة منذ اوسلو وحتى الآن، والتمرد عليها وإيجاد معادلة تفاوضية جديدة، وهذا لا يمكن من خلال الترقيع ويتطلب بلورة وتطبيق استراتيجية بديلة وجديدة قادرة على إحداث اختراق جوهري في الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات.
إن استئناف المفاوضات على أساس "تخريجات" وليس مخارج، مثل منح ورقة ضمانات أميركية للفلسطينيين وورقة ضمانات تناقضها لإسرائيل، أو اعتماد صيغة لمرجعية المفاوضات يفسرها كل طرف كما يحلو له، أو حتى لو كانت واضحة فالمهم التزام إسرائيل وليس المجتمع الدولي، أو تتضمن أخذ التطورات التي حدثت منذ عام 1967 بالحسبان ما يعيد انتاج ورقة الضمانات الأميركية التي منحها بوش لشارون عام 2004، او اعتماد وقف سري للاستيطان لمدة 5 أو 6 أشهر، أو القبول بخطوات بناء ثقة إسرائيلية مثل إزالة بعض الحواجز وتسهيلات للشخصيات الهامة وللاستيراد وتحويل جزء من مناطق "ج" الى "ب"؛ ومن "ب" الى "أ"، او التفاوض حول مسألة الحدود أولا لكي يتم الاتفاق حولها وبعد ذلك يجري التفاوض حول القضايا الأخرى، وهذا إذا اتبع سيقضي على وحدة وترابط القضية الفلسطينية ويمثل تجاوزا للقضايا الأخرى خصوصا اللاجئين والقدس وهذه تقليعة جديدة يتبناها جورج ميتشل.
إن الإدارة الأميركية التي تخشى فشل سياستها ضاقت ذرعا بالموقف الفلسطيني الرافض لاستئناف المفاوضات وبدأت تعتبره عقبة في وجه تطبيق السياسة الأميركية في المنطقة ككل وليس إزاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
فإدارة اوباما تعتبر أن استئناف المفاوضات أفضل من لا شيء، ووقفها لا يوقف الاستيطان واستئنافها يمكن أن يؤدي الى اتفاق أو الى تنفيذ خطوات تخفف من حدة التوتر، والأهم يساعد على بلورة اصطفاف دولي - عربي - إسرائيلي ضد إيران في مرحلة يقترب فيها زمن المجابهة معها.
والحجة التي تقدم هي أن استمرار جمود التسوية يساعد الاسلام السياسي المتطرف بقيادة طهران ويضر الإدارة الأميركية وإسرائيل وكافة الأطراف العربية "المعتدلة".
المثير للانتباه، أن أطرافاً عربية ودولية عديدة تتبنى المقاربة الأميركية وبدأت تضغط هي الأخرى على ابو مازن لاستئناف المفاوضات من خلال صيغة لا تلبي كل مطالبه، ولا تتضمن تجميد الاستيطان.
بمقدور ابو مازن أن يستفيد من الجمود والحاجة لاستئناف المفاوضات لبلورة اصطفاف دولي ضد ايران للحصول على مطالبه، وليس العكس.
تأسيساً على ما سبق فإن الموقف الفلسطيني في وضع حرج:
فإما الاستمرار برفض استئناف المفاوضات ورفض فتح الخيارات والبدائل الأخرى انتظارا لمجيء حكومة إسرائيلية جديدة، موقف لا يقنع الكثيرين ولا يؤدي الى المساعدة على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية وينذر باستمرار حالة الجمود الذي يمكن أن تحدث فراغا تستفيد منه أساسا إسرائيل التي يمكن أن تعود الى اسطوانة غياب الشريك الفلسطيني وأن ابو مازن ضعيف وتمضي في تطبيق مخططاتها التوسعية والعنصرية والاستيطانية، وتستعد للخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، مهما أخذت من مسميات فرض دولة ذات حدود مؤقتة، أو رسم حدود إسرائيل من جانب واحد، كما دعا حاييم رامون.
أو استئناف المفاوضات وفقا للتخريجات بدون مخارج حقيقية، وهكذا سيكون بمثابة انتحار سياسي للقيادة الفلسطينية ويعرضها لضربات قوية ويمس بمصداقيتها وشعبيتها فهي دعت الشعب الى تأييد موقفها من استئناف المفاوضات وتقوم بعد ذلك بالتخلي عن هذا الموقف.
أو اتباع طريق الكفاح لتغيير ميزان القوى وبلورة استراتيجية جديدة متكاملة باتت معالمها واضحة لمن يريد التغيير. إن هذا هو الطريق الوحيد لحماية الموقف الفلسطيني من الضغوط المتزايدة وقطع الطريق على محاولات إدانة ابو مازن ودفعه للتراجع عن موقفه او التنحي السريع وفتح الباب أمام خليفته.
إن إسرائيل، وليست الحكومة الإسرائيلية الحالية لوحدها، غير جاهزة للسلام، وإذا لم يسع الفلسطينيون لإحداث أزمة محسوبة تهدف الى تغيير ميزان القوى، لا يمكن أن تصبح جاهزة. لا بد أن تدفع إسرائيل ثمن الاحتلال والعدوان والاستيطان والعنصرية حتى تفكر فعلا بالانسحاب والسلام!!.