اليوم تدخل الانتفاضة عامها الخامس ولا تزال الاسئلة التي طرحتها منذ البداية مطروحة بدون إجابة شافية. فما هو اسم ما يجري انتفاضة او حرب عسكرية؟ وما هي اهداف هذه الانتفاضة واشكال نضالها وعملها؟ وهل اشكال النضال التي استخدمت كانت مجدية؟ وهل حققت الانتفاضة اهدافها؟ أم اقتربت من تحقيقها او ابتعدت عنها؟ هل كنا قبل الانتفاضة في وضع افضل عما نحن فيه الان؟ هل كان يمكن تجنب الانتفاضة؟ ام انها كانت نتيجة حتمية سعى اليها الطرفان الفلسطيني والاسرائيلي؟ الاول من اجل تحسين شروط المفاوضات وايصال عملية السلام الى نهايتها المنطقية: الدولة الحرة المستقلة وحل مشكلة اللاجئين حلا عادلا. والثاني من اجل كسر ارادة الشعب الفلسطيني وتغيير الوعي الفلسطيني، بحيث تخضع القيادة الحالية او تفسح المجال لقيام قيادة فلسطينية جديدة ومختلفة حسب المفهوم المحبب لدى بوش، وحتى تقوم هذه القيادة بوقف المقاومة وتصفية بنيتها التحتية ومطاردة المقاومين واعتماد الحوار والمفاوضات كاسلوب وحيد لحل الصراع، وتكون مرنة ومستعدة للتعاطي او لتمرير الحل الاسرائيلي حتى لو جاء على شاكلة خطة شارون للفصل احادي الجانب من قطاع غزة التي لا تقود سوى الى دولة مسخ، دولة البانتوستانات والكانتونات المنفصلة عن بعضها البعض والتي تفتقد الى التواصل الجغرافي والبشري والى كافة مقومات السيادة المتعارف عليها بين جميع دول العالم.
لا يطمح هذا المقال الى الاجابة على كل هذه الاسئلة، ولكنه يريد أن يتوقف عند سؤال وحيد: هل انتصرت الانتفاضة او هزمت والى اين تسير؟
هناك من يقول ان الانتفاضة انتصرت او هي قاب قوسين او ادنى من الانتصار، ويدعو الى المزيد من الصبر والصمود والانتفاضة والمقاومة حتى تنضج ثمار النصر ويحين قطفها.
وهناك من يقول ان الانتفاضة هزمت منذ لحظة عسكرتها واضعاف طابعها الشعبي السلمي، والدليل انهيار أوسلو وعملية السلام واعادة احتلال الضفة واستباحة غزة والضفة، وان المطلوب الان انقاذ ما يمكن انقاذه، وتقليل حجم الاضرار الناجمة عن استمرار الانتفاضة والاستعداد لدفع ثمن هذه المغامرة الكبرى.
الانتفاضة لم تهزم ولكنها لم تنتصر كذلك وبكل صراحة هي الان اقرب الى الهزيمة منها الى النصر. لم تهزم لان اهداف اسرائيل منها لم تتحقق كلها ولم تتحق الاهداف الاسرائيلية بكسر ارادة الشعب الفلسطيني وتصميمه على انجاز الحرية والاستقلال وحسم الصراع عسكريا وتغيير الوعي الفلسطيني. فرغم التضحيات الغالية والمعاناة الهائلة لم يخضع الشعب ولم تخضع القيادة الحالية ولم تظهر القيادة الموعودة. ولا تزال المقاومة والانتفاضة مستمرتين. بوتيرة اضعف ولكنهما مستمرتان. ولكن عدم حسم الصراع لا ينفع حجة دامغة على انتصار الانتفاضة. لان عدم حسم الصراع، والثمن الباهظ الذي تدفعه اسرائيل جراء استمرار الانتفاضة بشريا وسياسياً واقتصاديا ومعنويا (أكثر من ألف قتيل والاف الجرحى الاسرائيليين وخسارة 03 مليار دولار، وفقدان الأمن الفردي والعام، وظهور علامات سؤال حول وجود ومستقبل اسرائيل، يجب ان لا يخفى ان المشروع الاستعماري الاسرائيلي حقق نقاطاً مهمة بدليل تكثيف الاستيطان وتوسيعه بمعدلات غير مسبوقة، وتعميق تهويد القدس، وقطع شوط واسع على طريق استكمال بناء جدار الفصل العنصري، واستمرار العدوان العسكري الاسرائيلي الشامل الذي يستهدف البشر والحجر ومقومات الحياة الفلسطينية. اسرائيل تقترب مع فجر كل يوم جديد، من خلق امر واقع احتلالي استيطاني عنصري يجعل الحل الاسرائيلي الدائم، حلا مفروضا على الارض من طرف واحد، وما على الطرف الثاني سوى أن يقبله او يتعايش معه أو يواصل الصمود والانتفاضة والمقاومة التي تجعل اسرائيل تدفع ثمناً، وتضطرها الى ابطاء معدلات تطبيق مشروعها الا ان هذا المشروع يتقدم رغم الصمود والمقاومة الحالية بصورة اصبحنا فيها نقترب من لوحة نجد فيها بقايا ارض فلسطينية تضم بقايا وشظايا شعب، وبقايا مقاومة مختلف عليها، وبقايا قضية.
يجب عدم محاكمة الانتفاضة على اساس انها لم تنتصر على اسرائيل المتفوقة عسكريا لان هذا يحمل للانتفاضة ما لا طاقة لها به. ولكن محاكمة الانتفاضة ممكنة فقط على اساس قدرتها على تحقيق الاهداف الوطنية التي اندلعت من أجلها، واقترابها من تحقيقها او ابتعادها عنها- ولا شك أننا الان ابعد ما نكون عن اقامة الدولة الحرة المستقلة وتحقيق حق العودة.
لقد استطاعت الانتفاضة ان تعيد الصراع الى طبيعته الاصلية باعتباره صراعا بين شعب محتل والاحتلال. واعادت الاعتبار لخيار المقاومة والانتفاضة، وجعلت العالم كله بما في ذلك الكثير من الاسرائيليين يقرون بمبدأ قيام دولة فلسطينية وعادت القضية الفلسطينية الى موقع لائق في صدارة الاجندة الدولية لدرجة انها استطاعت انجاز الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي الدولية، وقرار الجمعية العامة للامم المتحدة الذي اعتبر الاحتلال غير شرعي ولا قانوني وباطلاً، وكل ما بني على الاحتلال من استيطان وجدران وانتهاكات لحقوق الانسان الفلسطيني وحقوقه الوطنية باطلة وغير شرعية مما وضع اسرائيل أكثر من اي وقت مضى كدولة خارجة عن القانون الدولي وفوق الشرعية الدولية-واستطاعت الانتفاضة تجاوز قيود اوسلو المجحفة خصوصا التي تمنع المقاومة رغم استمرار الاحتلال والاستيطان وانهت حالة الانقسام الفلسطيني حوله. الا ان هذا الانجاز لم يكتمل الى حد تحقيق الوحدة الوطنية على اساس برنامج وطني مشترك يستمد من استراتيجية وطنية واقعية ديمقراطية تنهي حالة التعددية في السلطات والاستراتيجيات ومصادر القرار، الا انه خطوة الى الامام وفي الاتجاه الصحيح.
الأخطار أكبر من الفرص
كل ما تقدم، يؤشر بوضوح على ان حجم الاخطار والتحديات أكبر بكثير من الفرص والامال، ويكفي للبرهنة على ذلك القول ان شارون بطل المغامرات والمجازر وابو الاستيطان واحد دعاة اسرائيل الكبرى، والذي تصور الكثير من الفلسطينيين انه سيكون لقمة سهلة وسيكونون قادرين على عزل اسرائيل وهي تحت قيادته، واسقاطه بسهولة ها هو ينجح على الأرض في استكمال مشروع الاستيطان وبناء الجدار وتدمير فرص قيام كيان فلسطيني قادر على الحياة بصورة مستقلة عن اسرائيل، كما نجح جزئياً كذلك على المسرح الدولي حيث عزل القيادة الفلسطينية وحملها اوزار الانهيار الذي تعيشه عملية السلام، ولقد تمكن من ترميم صورته، فأخذ يظهر تارة كرجل سلام، وانتزع زمام المبادرة تارة اخرى، وظهر كرجل دولة قادر على اتخاذ قرارات مصيرية (مثل خطة فك الارتباط) رغم تحدي العناصر والقوى الاكثر تطرفا منه في اسرائيل، ورغم انها خطة معادية للسلام وتعطي لاسرائيل اقصى ما يمكن بأقل الخسائر واسرع وقت.
لقد تمكن الرجل الذي هلّل الكثيرون بأنه ليس لديه برنامج سياسي او رؤية استراتيجية من قبض كل الاثمان من دون ان يزيح كرفانا استيطانيا واحدا من موقعه، فهو يتحدث منذ سنة عن "فك الارتباط" ويقبض ثمن ذلك بدون سحب او حتى اعادة انتشار جندي واحد او مستوطن واحد.
لا يكفي ان نقول اننا صامدون، وان المقاومة مستمرة، وان شارون او غيره من حكام اسرائيل لم يأخذوا ولن يأخذوا الشرعية الفلسطينية للاحتلال المكشوف او المموه. فلم يأخذ بن غوريون الشرعية الفلسطينية والعربية ولم يعقد اتفاقات سلام ولكنه أقام اسرائيل. واذا استمرت الاحوال على ما هي عليه، سنفيق يوما لنرى ان بقية فلسطين قد ضاعت، وان ما تبقى من شعبها فيها يعيش في سجون منفصلة عن بعضها البعض تسمى أو لا تسمى دولة مما سيجعله يعيش في جحيم سيدفعه الى "الهجرة الطوعية". فاخلاء الفلسطينيين من أرضهم لا يزال هدف اسرائيل. لم تستطع استكماله، ولكنه هدف ينتظر الوقت المناسب والظروف المناسبة. لم يكن ما حصل حتمياً، والسيناريو الاسوأ ليس هو الاحتمال الوحيد، شرط ان نعي دروس المرحلة السابقة والحالية، ولا نكرر الاخطاء والخطايا التي ارتكبناها، وننهي حالة التعددية في السلطات والقرار والاستراتيجيات؟