لا أتفق مع الرأي بأن تشكيل حكومة وحدة وطنية امر مستحيل، انه هدف صعب التحقيق، بل وصعب جدا، ولكنه ممكن التحقيق، وذلك لأن التوقيع على وثيقة الاسرى، التي كان يبدو من المستحيل الاتفاق عليها، يعتبر بداية طريق بالاعتراف، باستحالة السيطرة المنفردة على القرار والنظام الفلسطيني. فحماس بحاجة الى فتح والقوى الاخرى. وفتح بحاجة الى حماس والقوى الاخرى. الصراع بات الان يدور على شروط الشراكة والحصص والادوار، حيث يسعى كل طرفه لتحقيق اقصى ما يمكن. تشكيل حكومة وحدة وطنية هدف ممكن، خصوصاً اذا توفرت الارادة اللازمة، وتعززت القناعة بأن هذه الحكومة هي افضل الخيارات او اهون الشرور. لقد حاولت حماس ان تحكم وحدها ولم تنجح. وحاولت فتح ان تعود للحكم منفردة ولم تنجح. والبحث الان يدور حول كيفية الشراكة واذا لم يتم الاتفاق على حكومة وحدة وطنية او غيرها، سيواجه الوضع الفلسطيني الكوارث، ويسير نحو المجهول. اهم الاسباب التي تجعل تشكيل حكومة وحدة وطنية ممكناً، ان الخيارات والبدائل الاخرى اصعب واسوأ منه. وحتى اوضح ما اقصده، لننظر الى الخيارات والبدائل الأخرى: - استمرار الوضع الحالي كما هو، او بعد تعديله. - اللجوء الى حكومة طوارئ او حكومة انقاذ وطني. - تشكيل حكومة خبراء من المستقلين. - تشكيل حكومة مختلطة سياسية-خبراء. - تشكيل حكومة برئاسة ابو مازن. - الدعوة لانتخابات مبكرة. - حل السلطة. المدقق بهذه الخيارات والبدائل يجد ان بعضها لا يمكن اللجوء اليه، الا على اساس توافق وطني، مثل تشكيل حكومة خبراء او مختلطة، او برئاسة الرئيس او الانتخابات المبكرة، لانها اما غير منصوص عليها بالقانون الاساسي، او لانها تحتاج للمرور في المجلس التشريعي الذي تسيطر عليه حماس.
وبعض الخيارات الاخرى ينذر بالمجهول والفوضى والانقسام والاقتتال. فعلى سبيل المثال، حكومة الطوارئ والتي تسمى احيانا حكومة انقاذ وطني، والتي يتصور البعض انها خشبة الخلاص تعتبر دون جدال كبير خيارا تفجيريا، وليس عمليا. فالقانون الاساسي يتيح للرئيس تشكيل حكومة طوارئ لمدة شهر فقط. وبعد ذلك على الرئيس ان يعرض الحكومة على المجلس التشريعي لكي تنال الثقة. وعندما تعرض سيحجب المجلس التشريعي الثقة عنها لانه سيعتبرها انقلابا على الديمقراطية وعلى ارادة الشعب. الا اذا كان هناك من يراهن ويعتمد على فقدان حماس اغلبيتها البرلمانية بسبب حملة الاعتقالات المستمرة لنوابها. ان مثل هذا الرهان ان وجد عند البعض، فهو رهان غير وطني ولا أخلاقي ولا ديمقراطي. ان اي حكومة تحصل على الثقة البرلمانية بسبب اعتقال عشرات النواب وليس بسبب القناعة من الاغلبية البرلمانية بها ستكون حكومة دون مصداقية ولا شرعية وستسقط حتماً وبسرعة منقطعة النظير. لقد فعل المجلس التشريعي حسنا، عندما قررت كافة الكتل البرلمانية، دون استثناء توفير شبكة امان للحكومة الحالية، ما دام الوزراء والنواب قيد الاعتقال، ويجب التمسك بهذا الموقف الوطني المسؤول حتى لا تتحكم اسرائيل بالحكومات الفلسطينية، ومن تحصل منها على الثقة ومن تحجب الثقة عنها واذا توقفنا امام خيار الانتخابات المبكرة الذي يروج له البعض، أكرر أن هذا الخيار لا يمكن اللجوء اليه الا بموافقة وطنية اجماعية، بسبب عدم وجود نص في القانون الاساسي يتيح للرئيس حل المجلس التشريعي. كما ان اللجوء الى انتخابات مبكرة لن يقدم حلاً، فلم يحدث خلال الستة اشهر الاخيرة تغييرات دراماتيكية على موازين القوى والخارطة السياسية. مثلما هناك في فتح من يعتقد ان الانتخابات المبكرة ستعيد فتح الى الحكم منفردة بسبب فشل حكومة حماس، هناك في حماس من يعتقد ان الانتخابات المبكرة ستؤدي الى حصول حماس على عدد من المقاعد في المجلس القادم اكبر من حصتها في المجلس التشريعي الحالي، لان الناخب الفلسطيني سيتعاطف مع حماس التي أفشلت حكومتها ولم تفشل لانها لم تمنح فرصة للحكم. وبصرف النظر عن مدى صحة ما سبق من اراء وتوقعات فإن اجراء انتخابات مبكرة بعد عدة اشهر على الانتخابات السابقة، ليس ديمقراطيا ولا عمليا، وهو بحاجة الى موافقة اسرائيلية واميركية، وهي موافقة لن تتم بعد ان جاءت رياح الانتخابات الفلسطينية بما لا تشتهي السفن الاميركية-الاسرائيلية. اما بالنسبة الى حل السلطة، فهو خيار مستبعد فلسطينياً حتى الان، لأن الفصائل والأحزاب المختلفة لا تؤيده، مع ان حماس أخذت تلوح به، كما ظهر في احد تصريحات رئيس الحكومة اسماعيل هنية حول إمكانية اللجوء الى حل السلطة، وكأن لسان حماس في هذا التصريح وغيره يقول اذا لم تتمكن حماس من الحكم فلتذهب السلطة الى الجحيم. وبذلك تصبح السلطة مجرد ورقة تنظر لها حماس بشكل فئوي وليس كإنجاز وطني، كما جاء في وثيقة الأسرى، التي وافقت عليها حماس. ان السلطة انجاز وطني ولكن هذا لا يمنع دراسة امكانية حلها، اذا لم تتوفر الشروط اللازمة لقيامها بعملها، ولكن ذلك يتحدد بناء على شروط وعوامل وطنية وليست مصلحة هذا التنظيم او ذاك.... ويبقى بعد ما تقدم الخيارات التالية: تشكيل حكومة وحدة وطنية أو تشكيل حكومة خبراء او حكومة مختلطة سياسية-خبراء، ودون شك كبير، ان تشكيل حكومة وحدة وطنية افضل لان اكتافها عريضة وهي قوية، وتستطيع ان تحمل الاعباء الجسيمة التي تعترض الفلسطينيين في هذه المرحلة، إلا ان تشكيل هذه الحكومة امامه العقبات التالية: اولاً: عقبة البرنامج السياسي، وهذه هي العقبة الرئيسية، فالحكومة القادمة يجب ان تكون قادرة على الاقلاع، من خلال قدرتها على ازالة الحصار المالي وكسر العزلة الدولية، وهذا هو الشرط الرئيس لنجاح اي حكومة قادمة. وبدون برنامج سياسي يستند اساسا الى وثيقة الاسرى، ويتعامل مع الشروط الدولية الثلاثة بصيغة فلسطينية مقبولة، تحفظ الاهداف والحقوق وتؤمن القدرة على الحركة النضالية، لا يمكن ان تحدث الحكومة القادمة التغيير المطلوب، فبقاء الوضع الحالي، على حاله، ينذر بالكوارث على كافة الاصعدة، وكيف اذا ازداد الامر سوءاً؟؟ ثانياً: عقبة الرفض من أوساط داخل حماس وداخل فتح، التي لا تريد تشكيل حكومة وحدة وطنية، بأي حال من الاحوال. فهناك اوساط في حماس لا تؤمن بالمشاركة والتعددية والديمقراطية، وتريد الاقصاء والهيمنة، وتعتقد ان صمود حماس والحكومة طوال هذه الفترة يدل على التفاف شعبي حولها، والمزيد من الصمود سيؤدي خصوصاً وأن فتح ليست في احسن احوالها، اذا لم تصل، في اسوأ حالاتها، وبعد انتصار حزب الله في لبنان، وفي كل التفاعلات الجارية في المنطقة والمفتوحة على احتمالات عديدة، الى الاعتراف بحكومة حماس وفك الحصار عنها، أو الموافقة على حكومة وحدة وطنية تهيمن عليها "حماس". وبعض الأوساط في "فتح" لا تريد حكومة وحدة وطنية إلا إذا هيمنت عليها "فتح"، وهي أوساط لا تزال تراهن على عملية سلام ماتت أو على بعث لعملية السلام، كما تراهن على فشل وإفشال حكومة "حماس" ولا تحاول أن تثبت جدارة "فتح". وهذه الأوساط ستجد أنها تراهن عاجلاً أو آجلاً على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية لإعادتها إلى الحكم وتدرك هذه الأوساط أن حكومة وحدة وطنية على أساس برنامج وطني وواقعي تحتفظ بحق الفلسطينيين بمقاومة الاحتلال وتتمسك بانطلاق عملية سلام حقيقية سيقلل من دورها وسيحد من مصالحها ونفوذها الذي بنته اعتماداً على العلاقات مع إسرائيل التي نسجتها خلال السنوات الطويلة الماضية، ومنذ تأسيس السلطة وحتى الآن. ثالثاً: إن الإدارة الأميركية وإسرائيل لا تفضلان قيام حكومة وحدة وطنية، وإنما حكومة مطواعة قابلة للشروط المعروفة من خلال خفض السقف الوطني الفلسطيني ونبذ المقاومة كلياً، والانخراط في مظلة العمل على إقامة شرق أوسط جديد تحت الرعاية الأميركية والهيمنة الإسرائيلية، ولكن حكام واشنطن وتل أبيب لا يمكن أن يرفضوا أو يستطيعوا أن يرفضوا لفترة طويلة، قيام حكومة وحدة تطرح برنامجاً وطنياً واقعياً، خصوصاً بعد حرب لبنان، فمن أجل امتصاص تداعيات هذه الحرب يمكن أن تتم محاولة استيعاب الوضع الفلسطيني من خلال إطلاق دعوات حول بعث عملية السلام والمفاوضات والتلميح لإمكانية القبول بعقد مؤتمر دولي، وبذلك لاحظنا أن كوندوليزا رايس بعد أن كانت قد دعت الرئيس "أبو مازن" في البداية لتشكيل حكومة طوارئ، وبعد أن حذرت "فتح" وغيرها من الفصائل بعيد الانتخابات المشاركة في حكومة مع "حماس"، أبدت مرونة من خلال الدعوة إلى تشكيل حكومة موسعة توافق على الشروط الدولية الثلاثة، فلا صحة لما يشاع ان ادارة بوش ترفض تماما مشاركة حماس او غيرها في الحكومة القادمة. ان السياسة الاميركية تركز الآن على برنامج الحكومة وليس على من يشارك بها، صحيح انها ستصر على قبول الشروط الدولية كما هي بالحرف والفاصلة، ولكن هذه قضية نضال يمكن الانتصار فيها عندما يكون الفلسطينيون موحدين أكثر بكثير مما هم متفرقون فلا يمكن ان نسعى لكسب رضى اميركا واسرائيل ونخسر انفسنا وقضيتنا وحقوقنا ولا نقبل كل من يحاول ان يبيع لنا بضاعة فاسدة من خلال دعوتنا للقبول بصيغ تتحدث ان 99% من اوراق المشكلة وحلها بيد اميركا واسرائيل. ان سياسة المناشدة والتمني والتوسل للادارة الاميركية والحكومات الاسرائيلية، والرهان على المفاوضات وعملية السلام كاسلوب وخيار وحيد، ساهمت في ايصالنا بصورة رئيسية الى ما نحن فيه. وهو حال لا يسر صديقاً، ولا يغيظ أي عدو. وأخيراً اذا تعذر الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية لان حماس لا تستطيع ان تمرر الموافقة على برنامج لا تستطيع حمله الآن، عليها ان توافق على تشكيل حكومة خبراء أو حكومة مختلطة شرط اعطائها شبكة امان لمدة سنة على الأقل، لأن حكومة الخبراء بدون دعم من الفصائل ولا الثقة من المجلس التشريعي لن تستطيع ان ترى النور، واذا ولدت لا تستطيع ان تحرك قيد انملة. وعقدة حماس في هذه الحالة ان تؤثر على الحكومة دون المشاركة فيها، وستسقطها اذا شعرت انها تجاوزت ما تعتقد أنه خطوط حمراء. فالبديل الوحيد عن حكومة وحدة وطنية، هو حكومة خبراء متفق عليها. اما الرهان على الوقت، دون فعل كل ما يمكن فعله لإنقاذنا مما نحن فيه. فهو ينذر بالكوارث على كافة الصعد. فالانتظار قاتل. وبعد الاعلان عن بداية سلسلة من الاضرابات، ستشمل المعلمين، يعتبر نموذجاً لما يمكن ان يحدث اذا ركبت حماس رأسها واصرت على بقائها بالحكم منفردة، او على تشكيل حكومة تحت هيمنتها، فالمطلوب حكومة وحدة وطنية، حكومة شراكة حقيقية قادرة على الاقلاع، وعلى تحقيق ازالة الحصار المالي، وكسر العزلة الدولية.