الرئيسية » هاني المصري »   19 كانون الثاني 2008

| | |
الديمقراطية الفلسطينية في خطر متزايد: قانون الأحزاب نموذجاً
هاني المصري

أعتقد أن الديمقراطية الفلسطينية في خطر متزايد، قد يودي بها إذا لم تتمّ المسارعة لإنقاذها.. لذا، سأكتب في هذا المقال عن مشروع قانون الأحزاب الذي رفعته الحكومة في الشهر الماضي للرئيس، لكي يصادق عليه ويصدره كقانون مؤقت، له قوة القانون الدائم لحين انعقاد أول دورة للمجلس التشريعي، التي بمقدورها أن تقرّه أو تلغيه.. وذلك في محاولة لإظهار مخاطر هذا المشروع إذا تم إقراره.


رغم المجزرة المستمرة في غزة، التي راح ضحيتها حتى كتابة هذه السطور 30 شهيداً، ورغم اتضاح أنّ عملية السلام التي بدأت، عملية دون سلام، وتستخدمها إسرائيل كغطاء لاستمرارها في سياسة خلق الحقائق على الأرض، التي تجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح عملياً والمفروض على الأرض، بدليل سقوط أكثر من 110 شهداء، والشروع في بناء آلاف الوحدات الاستيطانية، بالإعلان عن مشاريع استيطانية منذ اجتماع أنابوليس وحتى الآن، رغم كل ذلك، سأكتب عن مشروع قانون الأحزاب، الذي كان عنوان الورشة التي نظمها المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء >مساواة<.

بعد قيام السلطة برأسين وبرنامجين بعد الانتخابات التشريعية في بداية العام 2006، وبعد وصول الخلاف الى حد الاقتتال والتحريض المتبادل، الذي انتهى في حزيران الماضي الى انقسام سياسي وجغرافي نجم عن الانقلاب على الشرعية وقيام سلطة الأمر الواقع في غزة، والسلطة الشرعية في الضفة..

هذا الانقسام يتعمّق باستمرار، وكان أول ضحاياه المجلس التشريعي، أداة الرقابة والتشريع والمحاسبة للسلطة التنفيذية، والضمانة الكبرى لحماية التعددية والاستمرار في التجربة الديمقراطية..

وفي ظل هذا الوضع، لاحظنا جملة من الإجراءات التي اتخذت دون حسيب أو رقيب، تطال الحريات العامة وحقوق الانسان، وتضرب التجربة الديمقراطية في الصميم، كما تطال جوانب حياتنا المختلفة..

فسلطة >حماس< متسلّحة بدعوات التكفير والتخوين وبمبررات غير كافية.. تمارس السلطة في غزة بشكل انفرادي، رغم المقاطعة والحصار والعدوان، وتقمع وتعتقل المعارضين، وأحياناً تطلق الرصاص ضدهم في احتفالاتهم وأعراسهم، وتملك أجهزة إدارية وتنفيذية وأمنية، وجهاز قضاء، وتجبي الضرائب والرسوم، دون حسيب أو رقيب..

والسلطة في رام الله متسلّحة بالغضب ودعوات الإقصاء.. تستند الى الشرعية، وتستخدمها بشكل سيئ، عبر إصدار مراسيم من الرئيس، مهما كانت قانونيتها، إلاّ أنها تعمّق الانقسام وتؤخذ بعيداً عن المجلس التشريعي المنتخب.. وحكومة تسيير الأعمال، والمفترض أنها حكومة مؤقتة، ولا تملك اتخاذ إجراءات جوهرية، أخذت تحكم وترسم في كل شيء، بحيث رأيناها تغلق مؤسسات وتعتقل يومياً وتقمع التظاهرات، بما في ذلك رفع مشاريع القوانين للرئيس لإقرارها..

قبل التطرق الى مشروع قانون الأحزاب الذي رفعته الحكومة للرئيس، الشهر الماضي، لإصداره، دون التشاور بشأنه، لا مع القوى والأحزاب والفصائل، ولا المجتمع المدني وفعالياته، رغم أنه يعالج أمراً جوهرياً، ورغم غياب المجلس التشريعي، الذي يفرض على الحكومة والرئاسة إجراء مشاورات مضاعفة للتعويض عن غياب المراقبة والمحاسبة من المؤسسات الدستورية المخوّلة بذلك، سأعرض ما حدث في دوّار المنارة، مساء يوم الثلاثاء الماضي، يوم المجزرة التي سقط ضحيتها قرابة عشرين شهيداً فلسطينياً، وأضعافهم من الجرحى، العديد منهم جراحهم خطيرة، كونه وثيق الارتباط بموضوع المقال.. فلقد دعا بعض المواطنين الغاضبين من المجزرة الاسرائيلية الى التجمع والتظاهر للتعبير عن استنكارهم وتنديدهم بهذه المجزرة البشعة، وفوجئوا بالأجهزة الأمنية تمنعهم من ذلك، بحجة عدم وجود تصريح يسمح بذلك، رغم أن القانون الفلسطيني لا ينص على ضرورة الحصول على ترخيص، وإنما على إعلام السلطة المختصة، حتى تقوم بتوفير الأمن للمتظاهرين، لأن حقّ التعبير عن الرأي بكافة الأشكال الشرعية، بما فيها التظاهر، حقّ أساسي مكفول في القانون الأساسي، ولا يحق لأحد نزعه من الفلسطينيين.. وعندما قال المتظاهرون للضابط المسؤول، إنهم لم يعرفوا سلفاً بأنّ المجزرة ستقع حتى يحصلوا على الإذن المسبق، أصرّ على منع التجمع والتظاهر، لأن الأوامر التي لديه تقضي بذلك.. لم أكن أتصوّر أن التظاهر ضد المجازر في فلسطين (ضحية هذه المجازر)، أصبح بحاجة الى تصريح رسمي!!

بعد هذه المقدمة الطويلة؛ أبدأ بالحديث حول قانون الأحزاب، الموضوع المرفوع للرئيس، وأقول: إن المجلس التشريعي حاول في مناسبتين على الأقل في عامي 1997، 2005] البحث في مسألة إصدار قانون الأحزاب، لكنه استقرّ على عدم القيام بذلك، لعدّة أسباب؛ أهمها: أن المنظمة هي مرجعية السلطة، والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، وصاحبة الولاية السياسية والقانونية على الفلسطينيين، أينما وُجِدوا.. وبالتالي، فإن إصدار قانون للأحزاب هو من اختصاص المنظمة.. وما يدعم هذا الرأي، أن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي ظهرت بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية، استطاعت أن توحّد الشعب الفلسطيني في إطار واحد، وهي تضمّ فصائل وأحزاباً قامت وحصلت على شرعية تواجدها بمجرى النضال، وعلى أساس أن الشعب الفلسطيني يمرّ بمرحلة تحرّر وطني، ويناضل ضد الاحتلال لكي يتم دحره وتحقيق الحرية والعودة والاستقلال..

إذاً؛ قامت السلطة، التي هي الفرع، بوضع قانون ينظم الفلسطينيين جميعاً، فهي تعتدي بذلك على الأصل، وهي المنظمة.. وإذا اعتبرت السلطة أن القانون خاص، ويمسّ بسكان الضفة والقطاع، فإنّها تمسّ بذلك ، عن وعي أو دونه، بوحدة الشعب الفلسطيني.. كما تظهر هذه الإشكالية بأبلغ صورة، عندما نجد مادة في مشروع قانون الأحزاب، هي مادة 36، تنص على >أن على الفصائل السياسية الفلسطينية الممثلة في إطار المجلس الوطني الفلسطيني أو خارجه، أن توفق أوضاعها وفقاً لهذا القانون خلال ستة أشهر من تاريخ صدورهترخيصهاتسجيل< في وزارة الداخلية، أو عدم الحصول عليه!!

وهذا يدفعنا للانتقال الى النقطة الثانية في الأهمية؛ وهي مسألة الحصول على ترخيص، رغم أن القانون يسميها تسجيلاً، ولكن مواد القانون التي تنص على حاجة الأحزاب الى موافقة >لجنة شؤون الأحزاب السياسية<، المشكّلة بموجب أحكام هذا القانون (مادة 13)، والمختصة بفحص ودراسة طلبات تأسيس الأحزاب السياسية (مادة 14)، وإصدار قرار بتأسيس الحزب خلال تسعين يوماً (مادة 16)، واعتبار الحزب موافقاً على تأسيسه إذا انقضت المدة دون تسجيله مادة (17)، ويؤكّد أن التسجيل ترخيص، وأن مقدمي الطلب لتأسيس الحزب من حقهم، في حال رفض طلبهم، الطعن في هذا القرار خلال ثلاثين يوماً أمام محكمة العدل العليا (مادة 18).. كل ذلك يجعلنا أمام قانون يريد ترخيص الأحزاب، لا تسجيلها، يريد تقييدها، لا تنظيمها..

ردّاً على ذلك نقول، إنّ أصل الأمور الإباحة، وهذه هي القاعدة الدستورية الأولى، وممارسة الحياة السياسية، بما في ذلك تشكيل الأحزاب بحاجة الى تنظيم، وليس إلى تقييد، وهذا حقّ يكفله الدستور الفلسطيني (القانون الأساسي)، وأن الترخيص معمول به فقط في كافة الدول القمعية التي تحاول مماشاة الحداثة، عبر ادعاء الديمقراطية، بحيث تغطي قمعها بستار ديمقراطي خادع.. كل الدول الديمقراطية لا تنص في دساتيرها وقوانينها، على ضرورة ترخيص الأحزاب، وإنما تسمح لكل مَن يريد أن يشكل حزباً وبمقدوره ذلك عبر تسجيل الحزب، دون الحاجة الى موافقة من وزارة أو لجنة أو دائرة في وزارة.. إن وضع مسألة ترخيص الأحزاب في أيدي السلطة التنفيذية اعتداءٌ سافر على الحقوق والحريات الأساسية التي يكفلها الدستور، ونأمل أن لا تقع سلطتنا الوطنية في هذا المحظور.. وإذا قام الحزب المسجل بما من شأنه مخالفة الأمن أو القوانين أو الحريات أو المحرّمات، فتتم معالجة ذلك عبر القضاء والمحاكم، وليس من قبل وزارة الداخلية..

وهذا يقودني الى النقطة الثالثة؛ وهي وضع قيود أيديولوجية وبرامجية على تشكيل الأحزاب.. وهذا إذا تمّ تمريره، يمثّل ضربة قاصمة للتعددية والديمقراطية.. فمشروع القانون ينصّ في مادة (4)، على أنه >لا يجوز تأسيس حزب يرتكز على دوافع أو غايات مخالفة للمبادئ التي يقوم عليها القانون الأساسي وأحكام هذا القانون، أو يهدف الى الإخلال بالمبادئ العامة للنظام السياسي الفلسطيني أو بالوحدة الجغرافية لأراضي السلطة الوطنية أو بشرعية م.ت.فلا يجوز تأسيس أي حزب سياسي يرتكز على أساس ديني أو جهوي، أو يقوم على أساس تمييزي<.. وهذه عبارات عامّة، بحاجة الى توضيح، وتسمح للجنة المكلفة بإصدار الترخيص بمنع حزب لأسباب عقائدية أيديولوجية أو برامجية.. مثلاً، منع حزب يؤمن بأهمية الصراع الطبقي (راجع مادة 7)، ورفع الاستغلال عن الطبقات الكادحة.. أو بأهمية الدين كرافعة كبرى للإنسان، وهذا يختلف عن إقامة حزب ديني، أو احتكار الدين.. أو عبر الإصرار على قبول التزامات السلطة والمنظمة..

وهناك نقطة في منتهى الأهمية، يجب أن يدركها واضعو مشروع القانون، وهي أنّ هناك فرقاً حاسماً بين احترام وثيقة الاستقلال والقانون الأساسي، وبرنامج المنظمة والتزاماتها، وبين القبول بها والموافقة عليها.. فعلى الجميع واجب احترام هذه المرجعيات.. أما مَن يرفضها، فمن حقّه ذلك.. فهناك دائماً على مدار التاريخ مَن يعارض ما هو قائم، وهذا هو الذي أحدث التطور والتغيير.. ويجب على أيِّ قانون احترام حق الاختلاف وحق المعارضة بأن تعارض بالأساليب السلمية.. فمثلما من حقّ الأغلبية أن تحكم، فإنه من حق المعارضة أن تعارض.. ومَن يكون اليوم في الأغلبية، قد يصبح غداً في المعارضة، وهكذا دواليك.. والدستور نفسه أبو القوانين جميعاً، يمكن ويجب أن يعارض، ويتم تغييره.. لذلك يتضمن أيّ دستور مواد توضح كيف يمكن تغييره..

النقطة الرابعة المثارة على مشروع هذا القانون، أنّ واضعيه يبدو أنهم نسوا أو تجاهلوا، أنّ القانون يخصّ الشعب الفلسطيني الذي وطنه تحت الاحتلال، ويمرّ في مرحلة تحرّر وطني، وأنّه لا يمكن أن يتصرّف -كما تفعل حكومتنا الرشيدة أحياناً- وكأنّ الاحتلال غير موجود، أو أنها غير معنية، بمسألة الخلاص منه.. إنّ الاحتلال هو الحقيقة الأساسية التي نعيشها، وأيّ نشاط، خصوصاً إذا كان سياسياً، يجب أن يستند ويستهدف المساهمة في المعركة الوطنية لدحر الاحتلال.. فالسلطة وسيلة وليست غاية، وهي أيضاً تحت الاحتلال، ويجب أن تقاوم للتخلّص منه.. والسلطة أداة يجب أن تخدم وتخضع للمشروع الوطني.. وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن استبعاد السلاح كلياً والسرية، عند الحديث عن الأحزاب التي يعيش وطنها تحت الاحتلال.. هناك فرق ما بين ضرورة حلّ المليشيات المسلحة العائلية والفصائلية التي تستخدم السلاح في سياق الصراع الداخلي، ولتحقيق مصالحها الفردية والفصائلية والعائلية والجهوية والفئوية، وبين حقّ الشعب الفلسطيني المقدس (وقواه وأحزابه) في استخدام كافة أشكال النضال، بما في ذلك الكفاح المسلّح ضد الاحتلال.. هل ينسى واضعو القانون أنّ معظم الفصائل الفلسطينية موضوعة -بسبب نضالها- على لائحة المنظمات >الإرهابية<؟!!

النقطة الخامسة المثارة على مشروع هذا القانون، تتعلق بتوقيته غير المناسب بالمرّة.. فالسلطة تنسى وهي تدرس مشروع هذا القانون، أنها إذا أقرّته في ظل الانقسام الحالي، فإنها تتخذ بذلك خطوة من شأنها تعميق الانقسام.. فقانون الأحزاب يحدّد طبيعة النظام السياسي، ويؤثّر بشدّة على النظام الانتخابي، وإذا أقرّ في ظل الانقسام، فسيُفسر - وخصوصاً أننا نقترب بسرعة من إجراء الانتخابات المبكّرة أو غير المبكرة- على أنّه محاولة لإقصاء أحزاب واتجاهات، من خلال وضع شروط تعجيزية تمنع ترخيصها، وبالتالي تمنع بشكل قانوني، مشاركتها بالانتخابات المقبلة.. وإذا أُقِرّ القانون أولاً، وبصيغته الحالية ثانياً، فلا يمكن إزالة شبهة القمع والإقصاء عنه..

إن قانون الأحزاب يمكن أن يُؤجَّل لحين استعادة الوحدة، ويُدرَس أولاً في م.ت.ف.. فلا بد من الامتناع الى أقصى حد ممكن، عن إصدار مراسيم رئاسية لها قوة القانون، حتى لو اعتُبِرت قانونية.. فالفترة الحالية مؤقتة، ويجب ألاّ تصدر فيها قوانين مهمة جداً، وتحتمل التأجيل، وتؤثّر على حياتنا المقبلة.. لقد أجرينا انتخابات تشريعية ورئاسية مرتين، دون قانون أحزاب، ونستطيع أن نجريها مرّة ثالثة دون قانون، ويمكن أن نستعيض عنه بلائحة داخلية تُلحَق بقانون الانتخابات، تنظم مشاركة الأحزاب في الانتخابات..

وأخيراً؛ آمل أن يُسحَب مشروع هذا القانون، بأن يردّه الرئيس للحكومة، ويحيل الأمر الى المنظمة، أو لجنة مشتركة من المنظمة والسلطة، لإعداد مشروع قانون للأحزاب، يكون منسجماً مع خصائص الوضع الفلسطيني واحتياجاته.

وبكل صراحة، إذا أُقِرّ القانون بصيغته الحالية، سيُعتَبر انتهاكاً للدستور وإعلان الاستقلال، وتجاوزاً لصلاحيات السلطة، ويصبّ في محاولات الإدارة الأميركية وإسرائيل لإقامة نظام أمني فلسطيني، يمنع الحريات وحقوق الإنسان الفلسطيني، ويكون في أولوياته منع المقاومة، وتوفير الأمن للاحتلال.. وهنا يوجد فرق بين التعامل مع الالتزامات كشرٍّ فُرِض علينا، ويجب العمل على التخلص منه بأسرع وقت ممكن، وبين كونها واجباً مستمراً الى أبد الآبدين!!

 

 

مشاركة: