بعد الثورات العارمة التي عمت المنطقة العربية، انتشرت تساؤلات مشروعة على امتداد المنطقة العربية والعالم حول تخلف الشعب الفلسطيني عن هذه الثورات، رغم أنه رائد الثورات والانتفاضات منذ هبة البراق عام 1929، إلى أطول إضراب في التاريخ وثورة 1936، مرورًا بحرب عام 1948 وانطلاق الثورة الفلسطينية في الفاتح من كانون ثاني 1965، وانتهاءً بهبة النفق عام 1996 والانتفاضة المجيدة عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000م.
هل السبب يعود إلى فقدان الشعب الفلسطيني لروحه وقدرته على المشاركة في صنع التاريخ جراء اليأس والتعب والإحباط والهزائم ؟ أم أن المسألة تعود أيضًا لأسباب أخرى أكثر عمقًا؟ فلا يوجد نظام لكي يسقطه الشعب الفلسطيني، فالموجود لديه سلطتان بدون سلطات حقيقية وهما واقعتان تحت الاحتلال.
لقد نهض الشعب الفلسطيني في زمن الهبوط العربي بدءًا من هزيمة حزيران 1967، ثم بدأ بالهبوط بعد اتفاقية كامب ديفيد، وانهيار التضامن العربي بعد احتلال العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الاشتراكية الذي كان يقيم حالة من التوازن الدولي، ويوفر دعمًا غير مشروطٍ متعدد الأشكال للفلسطينيين وقضيتهم الوطنية. لقد بدأ الهبوط الفلسطيني بالاعتراف بقرار 242 الذي لا يتعامل مع القضية الفلسطينية، وصولًا إلى الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والإرهاب بدون تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
أول الأسباب التي تفسر عدم الالتحاق الفلسطيني بالثورات رغم أنه المستفيد منها؛ أن المواطن الفلسطيني يريد معرفة أسباب عدم انتصار قضيته رغم التضحيات الغالية والبطولات الباسلة على مر السنين، منذ الغزوة الصهيونية الأولى لفلسطين وحتى الآن. ولم يقتصر الأمر على عدم الانتصار، بل تبددت معظم المكاسب التي حققها، حيث لم يعد هناك مؤسسة وطنية جامعة تمثل حقًا الشعب الفلسطيني، بل أصبح هناك عدة مراكز تمثله، وأيضًا إضافةً لذلك فشل الطرق التي اعتمدها لتحقيق أهدافه الوطنية، فلا المفاوضات انتصرت ولا المقاومة استمرت لكي تنتصر.
أصبح من الصعب أن يثور الشعب الفلسطيني قبل إدراكه لأسباب عدم انتصاره حتى الآن، وإذا أدرك واستوعب الدروس والعبر ستكون ثورته القادمة أعظم من سابقاتها، وستكون قادرةً على الانتصار.
ثاني الأسباب تتعلق بأن الشعب الفلسطيني مبعثر ما بين الوطن المحتل والشتات، والوطن المحتل مقسمٌ ما بين القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين 1948، بحيث أصبح لكل قسم أولوياته واحتياجاته الخاصة في ظل غياب برنامج وطني جامع، وذلك بعد تقسيم اتفاق أوسلو للفلسطينيين، وتآكل البرنامج الوطني الذي رفعت لواءه منظمة التحرير.
فإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة هما المهمة ذات الأولوية للضفة الغربية وقطاع غزة، والمساواة وتحقيق الحقوق الفردية والقومية والنضال ضد التمييز الاستعماري العنصري هي أولوية شعبنا في 1948، والنضال من أجل حق العودة والدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الشتات هي أولوية شعبنا خارج فلسطين. فالفلسطينيون بحاجة إلى برنامج يلحظ احتياجات ومصالح تجمعاته المختلفة، ويضمن تكاملها وترابطها ومشاركتها في قيادة العمل لتحقيقه.
ثالث الأسباب أن الشعب الفلسطيني يعاني من الاحتلال على كل المستويات والأصعدة، كما يعاني من أشكالٍ من القمع والاستبداد والفساد والتبعية على أيدي سلطتين متنازعتين، هذا في نفس الوقت الذي نجد فيه هاتين السلطتين - رغم الفوارق في سياستهما وعلاقتهما مع الاحتلال- ما زالتا على صراع مع الاحتلال، الذي يستهدف الفلسطينيين جميعًا، ولا يفرق بين فتح وحماس، بين معتدل ومتطرف، بين منظم وغير منظم.
فسلطة غزة محاصرة ومعرضة للعدوان العسكري، وسلطة الضفة رغم التنسيق الأمني والاتفاقات والتزامها بتطبيق الالتزامات في حالة مجابهة سياسية مع الاحتلال، خصوصًا بعد وقف المفاوضات الذي يشير إلى أن الأمور مرشحة لتصاعد المجابهة بشكل أكبر.
إن الانقسام يستنزف طاقات وجهود وأرواح الفلسطينيين، وواقعيٌ أن يحول دون ثورتهم، وفلسطين تحت الاحتلال تجعل مهمة إنهاء الاحتلال هي الشعار المركزي الناظم، مع أن إنهاء الاحتلال غير ممكن بدون توفير الحقوق والحريات والعيش بكرامة للفلسطينيين، وبدون إنهاء الانقسام وإسقاط أوسلو ومحاربة القمع والفساد والتبعية، إضافةً إلى توحيد الفلسطينيين في مؤسسة وطنية جامعة على أساس إستراتيجية جديدة.
وحتى ندرك أهمية وتأثير الانقسام المدمر ووجود سلطتين على منع ثورة الفلسطينيين، يكفى رؤية ما تقوم به الأجهزة الأمنية في الضفة وغزة، التي أصبحت أجهزةً تستنزف نسبة مهمة من الموازنة العامة، وتفرض أنظمة أمنية بوليسية، تجد مشروعيةً لما تقوم به من قمع بحجة أن أي مظاهرة أو تمرد في الضفة حتى لو كان ضد الاحتلال يمكن أن تستفيد منها حماس، وأي مظاهرة أو تمرد في غزة يمكن أن تستفيد منها فتح.
ولا أريد أن أختم هذا البند قبل أن أقول: إن السلطتين، خصوصًا سلطة الضفة، ترتبط بها قطاعات واسعة جدًا من الفلسطينيين من خلال رواتب الموظفين والإعانات الاجتماعية، ودعم الأسرى وعائلات الشهداء، وتحريك عجلة الاقتصاد، بحيث أن ما لا يقل عن مليوني فلسطيني في الضفة وغزة مستفيدين مباشرةً من السلطة هنا وهناك؛ ما يجعلهم يفكرون بروية قبل معارضتها، لأنهم يمكن أن يخسروا رزقهم، فضلًا عن التعرض للاعتقالات والتهديدات والمضايقات، فكيف يكون الحال بالثورة عليها؟
تأسيسًا على ما سبق، نستطيع أن نفهم تأخر الشعب الفلسطيني عن تفجير ثورته التي ستمكنه من قطف ثمار الثورات العربية.
على الرغم من الأسباب المذكورة فإن الثورة الفلسطينية قادمة لا محالة، وستكون أعمق وأكثر قدرة على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني؛ بدليل الحوار الواسع الذي يشهده الشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه، كما نشاهد من خلال الاجتماعات والمؤتمرات والورشات والمقالات والحملات الإعلامية، وكما نرى من خلال الإنترنت والفضائيات والفيس بوك، والتحركات المتعاظمة للشباب التي يمكن أن تتجاوز الأحزاب والقيادات، حيث هناك أكثر من ستين مجموعة، منها من تطالب بتمثيل فلسطيني جديد مركزةً على إجراء انتخابات المجلس الوطني، وأخرى تطالب بالعصيان المدني وإسقاط السلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وثالثةٌ ورابعةٌ تطالب بإنهاء الانقسام والاحتلال أو اتفاق أوسلو، وخامسةٌ تطالب بمسيرات تطالب بحق العودة، وسادسةٌ تطالب بإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية على أسسٍ جديدةٍ قادرةٍ على شق طريقٍ جديدٍ؛ يحقق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني الذي يستحق قيادةً قادرةً على حفظ حقوقه وتطلعاته، ومواجهة التحديات المعترضة لطريقه.
إذا رجعنا بالذاكرة إلى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي، سنرى أن عشرات الفصائل الفلسطينية الصغيرة تشكلت وأخذت تبحث عن طريق لتحرير فلسطين، إلى أن انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي وحدت الشعب الفلسطيني في كيان واحد وتحت قيادةٍ واحدة، وفلسطين الآن عشية الثورة، على أحزابها وقادتها إعادة صياغة النظام السياسي وتغييره بصورة جوهرية قبل فوات الأوان، وقبل أن يُفرَضَ عليهم التغيير. فهل يكون النظام السياسي مرنًا ويتجاوب مع التغيير الحاصل كما نتمنى، وكما يدل هامش الحرية الذي يتمتع به والتعددية التي ميزت المسيرة الفلسطينية وحمت القضية رغم العواصف والأخطار، أم تكون الولادة قيصرية؟