الرئيسية » الياس خوري »   19 آب 2015

| | |
رسالة إلى مناضلي حركة فتح
الياس خوري

من المنتظر أن تعقد حركة فتح مؤتمرها السابع في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. لا أملك معلومات دقيقة عن مسار التحضير للمؤتمر، لكنني أريد من رسالتي هذه أن تساهم في فتح نقاش حقيقي لم يعد تأجيله ممكناً.

وهي رسالة موجهة إلى المناضلات والمناضلين، الذين يؤمنون بأن الثورة ممكنة تحت أي ظرف، وبأن تحرير فلسطين لا يزال هدفاً أسمى، وأن دحر الاحتلال ومقاومة العنصرية الفاشية الإسرائيلية هي التناقض الرئيسي الذي يوحّد جميع الفلسطينيات والفلسطينيين، أينما كانوا، وأن الانهيار والانحلال ليسا قدراً.

أعرف، أيها الصديقات والأصدقاء، مبلغ صعوبة الوضع الذي يحاصركم، فأنتم تعيشون في حصارين: حصار استبداد الاحتلال وآلته القمعية الوحشية، وحصار برنامج سياسي فقد صلاحيته وصار، في أفضل الأحوال، عاجزاً كي لا نقول إنه صار رهينة.

والنقاش يجب أن لا يدور حول موضوعات لم تعد تعني شيئاً، كموضوع الخيار بين حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة. هذان الخياران لم يعد لهما أي وجود، فالاحتلال الإسرائيلي كشف جوهر القراءة الإسرائيلية لاتفاق أوسلو بصفته مطية لتحويل السلطة إلى حرس حدود للمستعمرات التي تتغوّل في أراضي الضفة الغربية. لا وجود لأي حلّ، المطروح فعلياً هو ما عبّر عنه إرييل شارون بصريح العبارة، خلال الانتفاضة الثانية، وهو أن إسرائيل تستكمل اليوم حرب نكبة 1948، وأنها لن تتخلى عن إسرائيل التوراتية، أي عن الضفة الغربية أو يهودا والسامرة، كما يسمونها، مهما كانت الظروف.

نحن أيها الناس أمام حقيقة ولادة ما يمكن أن نطلق عليه اسم إسرائيل الثانية، أي مملكة يهودا التي يؤسسها المستعمرون الذين يصادرون الأرض ويستوطنون المكان. هذه المملكة أعلنت عن نفسها من دون أقنعة في حريق دوما، ومسيرتها الدموية لن تتوقف، لأنها الابنة الشرعية للدولة غير الشرعية التي تأسست عام 1948.

كل كلام عن تسوية أو مفاوضات صار بلا معنى. لقد أضاعت السلطة كل الوقت المتاح، وارتهنت للدول المانحة والبنك الدولي ورحمة الاقتصاد الإسرائيلي وانتجت طبقة من السماسرة والمنتفعين، الذين يتنعمون باقتصاد ريعي نيوليبرالي ويعملون، بوعي أو من دون وعي، كأدوات للاحتلال الإسرائيلي.

ولولا بطولات الانتفاضة الثانية، على الرغم من كل أخطائها، لكانت مرحلة ما بعد أوسلو هي العار بعينه.

لا ينخدعن أحد بما يُسمى التدويل، فالتدويل يتخذ معناه حين يكون صدىً لنضال يمارس مقاومة الاحتلال بشكل يومي. أما اذا كان مجرد نداءات استغاثة تنتظر يقظة ضمير الدول الاستعمارية أو حكام الخراب العربي، فإنه لا يساوي شيئاً.

المسألة باتت واضحة، وجاء الانقسام بكل حماقاته ليعلن نهاية المرحلة برمتها.

انتهت المرحلة، اعتقد أنكم تعرفون ذلك أكثر منا جميعا، لأنكم تعيشونه في حياتكم اليومية، وتعرفون ان فلسطين مهددة بالاندثار. الشتات تشظّى في نكبتنا مع انظمة الاستبداد، من لبنان إلى سوريا إلى آخره… وأنتم في الداخل تواجهون الوحش، بينما تلحس قياداتكم مبرد الاحتلال.

لم يعد الحديث عن النوايا مفيداً، فالنوايا مهما افترضنا أنها حسنة لا تغيّر من حقيقة الواقع شيئاً، نحن أمام عجز مطلق، كي لا نقول انه عجز متواطئ وشريك غير معلن للاحتلال. هذه السلطة صارت عبئاً وعقبة، والخطر هو أن تتحول مع الوقت إلى حارسة للمعازل، وأداة لا إرادة لها.

فلسطين في حاجة، اليوم، إلى ثورة وعي قبل أن يفوت الأوان وفتح التي أطلقت الرصاصة الأولى، وكانت حركة شعب يناضل من أجل حريته وتحرره، مهددة اليوم بالموت السريري، والتحول إلى جيوش من الموظفين الذين يعيشون في البطالة المقنّعة، ويقبلون المهانة كي تدوم عليهم نعمة فتات الاحتلال والانحلال.

لا يحق لأحد أن يصادر تجربة صنعها عشرات الألوف من الشهداء، والتمع فيها بريق المستقبل وبنت بيتا لشعب يخرج من مجاهل الصمت والتشرد كي يستعيد هويته وحضوره وصوته.

إذا أردنا لهذه السلطة ان تبقى وأن تستغل ما تبقى لها من شرعية دولية، كدرع للمقاومة ضد المحتل، فإن عليكم، وعليكم وحدكم، يقع عبء إحداث تغيير جذري، يكون بمثابة استعادة للرصاصة الأولى، وولادة ثانية للغة المقاومة وممارساتها النضالية.

مؤتمر فتح، هذا اذا عقد، مدعو إلى إحداث ثورة حقيقية لها عنوان واحد: استقلالية القرار الوطني الفلسطيني كقرار مقاوم.

تناسوا صراعات الأجنحة، فكل هذه الأجنحة الهرمة لم تعد تصلح للطيران.

ما العمل؟ نسأل.

وكيف لثورة وعي ان تبدأ وسط الانقسام الفلسطيني والانحلال العربي.

المسألة ليست ثورة أيديولوجية، فالوعاء الوحدوي الذي صنعته فتح في نضالها، الذي يضم في داخله جميع تيارات الشعب في مشروع تحريري، لا يزال هو الوعاء الذي يقينا من أخطار التشرذم الآتية مع الدعوات الأيديولوجية الاستئصالية.

تعالوا نبحث عن المكان الملائم لانطلاق ثورة الوعي هذه. ألا ترون معي أن تجربة الحركة الأسيرة في وحدتها ونضاليتها وصمودها ورفضها الانجرار وراء الانقسامات الفئوية الضيقة، ووثيقتها التأسيسية، تستطيع أن تكون نقطة انطلاق هذه الثورة.

لماذا لا نفكّر في إحداث تغيير جذري يكون عنوانه انتخاب قائد جديد لحركة فتح من قادة الأسرى، ولماذا لا يكون مناضلاً من قماشة مروان البرغوثي؟

قد تقولون ولكن كيف سيقود مِن خلف القضبان؟ وجوابي هو أن الشعب الفلسطيني كله خلف القضبان. هل يعتقد من يتولى القيادة اليوم انه أكثر حرية من مروان أو من أحمد سعادات ورفاقهما.

حين يُنتخب قائد جديد لفتح، من بين أبناء الحركة الأسيرة تتغير المعادلة برمتها، فتصيرآلة السلطة أداة لخدمة مقتضيات النضال، أما الأجهزة التي لا تستطيع ذلك ولا تتمتع بالقدرة على الصمود، فتتفكك من تلقاء نفسها، وتندثر.
هذا التحوّل يقود إلى مسألتين:

الأولى: إلغاء التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال واستخباراته ومحوه من الذاكرة كأن لم يكن.

الثانية: حل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وتكليف الأخوين مروان البرغوثي وأحمد سعادات بتشكيل قيادة مؤقتة للمنظمة تضم جميع القوى السياسية والمستقلين، وعلى رأسها الجهاد الإسلامي وحماس، وتكون مهمة هذه القيادة المؤقتة إعادة تشكيل المنظمة وتحديد أهدافها في ضوء المواجهة الجديدة المفروضة على الشعب الفلسطيني.

بتحوّل جذري كهذا تستطيع فتح أن تعيد بناء نفسها، كحركة تحرر وطني، وتتخلى عن غوايات فساد السلطة، وتستطيع فلسطين أن تستأنف مسيرتها النضالية.

قد يقال أن خيارا كهذا مكلف على كل المستويات، وهذا صحيح، ولكنه سيكون أقل كلفة من ترك الشعب الفلسطيني في حضيض اللامقاومة وبين براثن وحوش المستعمرين- المستوطنين، الذين قرروا، ومعهم قررت الحكومة الفاشية الإسرائيلية، ان على فلسطين ان تزول وعلى شعبها أن يُمحى.

هل أحلم؟ هل أطلب المُحال بعدما افترس الانحطاط كل شيء.

نعم انه حلم، لكن صدقوني أنه ليس خيالياً أومستحيلاً كما يبدو للبعض. فلولا حلم ياسر عرفات وخليل الوزير وجورج حبش وأبو علي مصطفى وصلاح خلف وكمال عدوان ورفاقهم، لبقيت فلسطين مطمورة تحت ركام النكبة.

مشاركة: