الرئيسية » أوراق وتقارير » هاني المصري »   14 أيلول 2015

| | |
أفكار ومبادرات على طريق إنهاء الانقسام
هاني المصري

 

مقدمة

تشكل هذه الورقة خلفية للحوار، وتتضمن أبرز الخلاصات التي انتهت إليها الحوارات السابقة التي نظمها برنامج دعم وتطوير مسار المصالحة الوطنية، وغيرها من الحوارات التي شهدتها تجمعات الشعب الفلسطيني منذ وقوع الانقسام وحتى الآن، وليس مطلوبًا من المشاركين في الورشة تبنيها، وإنما تقديم أي ملاحظات أو اقتراحات لإغنائها وتطويرها.

لقراءة الورقة أو تحميلها .... اضغط/ي هنـــــا

تهدف هذه الورقة إلى عرض ما توصل إليه الحوار الوطني الفلسطيني من أفكار ومبادرات منذ وقوع الانقسام في حزيران 2007 وحتى كتابة هذه السطور، بما فيها الأفكار والتوصيات والمبادرات التي اقتُرحت في سياق برنامج "دعم وتطوير مسار المصالحة الفلسطينية" الذي يُنفذ بالشراكة ما بين المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات) ومبادرة إدارة الأزمات الفنلندية (CMI) منذ العام 2011 وحتى الآن. 

وقد تخلل هذا البرنامج عدد كبير من ورشات العمل والاجتماعات التي عقدت في: القدس، وغزة، ورام الله، ونابلس، والخليل، وجنين، وبيت لحم، والناصرة، وحيفا، والقاهرة، وعمّان، وبيروت، وأبو ظبي، وإسطنبول، وأنقرة، وبروكسل، ولندن، وبرلين، والولايات المتحدة الأميركية.  وخرج بالعديد من الملاحظات والاقتراحات والتوصيات والمبادرات.  وأنتج عددًا من الوثائق المهمة التي صدرت في كراسات وكتب، من أبرزها: وثيقة "دعم وتطوير مسار المصالحة الوطنية"، وكتاب "وثيقة إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية"، وكراس "تصورات حول إعادة بناء وتوحيد الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية"، وكتاب "نحو إصلاح وتوحيد قطاع الأمن الفلسطيني ..  توصيات واقتراحات"، وورقة "قراءة في الشق الأمني لاتفاق المصالحة"، ومسودة قانون هيئة الشرطة الفلسطينية.

 

مراحل برنامج دعم وتطوير مسار المصالحة الفلسطينية

المرحلة الأولى

بدأت هذه المرحلة بعد ورشة العمل التمهيدية التي عُقِدت في العاصمة الفنلندية هيلسنكي في كانون الأول/ديسمبر 2010 قبل التوقيع على اتفاق المصالحة، وشارك فيها عدد من الشخصيات المستقلة من مختلف التجمعات الفلسطينية، وكان الهدف منها تشخيص واقع الانقسام وجذوره وأسبابه والعراقيل والعقبات التي تحول دون إنجاز المصالحة، والبحث في كيفية المساهمة في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية.

وتم خلال هذه المرحلة توقيع اتفاق المصالحة بتاريخ 4 أيار 2011.  وهذا الاتفاق على أهميته ومغزاه إذ يؤشر إلى موافقة من مختلف الفصائل على أسس ومبادئ إنهاء الانقسام، إلا أنه يعاني من ثغرات مهمة، ومن تناقضات في النصّ، ومن طرح مسائل يدرك الجميع صعوبة، بل استحالة، تطبيقها، مثل إجراء انتخابات للمجلس الوطني، خصوصًا في الاْردن وسوريا. 

وخلصت الورشة إلى ضرورة الشروع في حوار وطني بمشاركة ممثلين عن مختلف ألوان الطيف السياسي (من فصائل ومستقلين) والتجمعات الفلسطينية، انطلاقًا من القناعة العميقة بأن الفصائل بالرغم من التراجع الكبير في أدائها على مختلف المستويات والصعد، ومع أنها تتحمل المسؤولية، خصوصًا "فتح" وحماس" بصفتيهما الفصيلين الأكبرين، عن الواقع الذي باتت تعيشه القضية الفلسطينية، وعن الانقسام السياسي والجغرافي؛ إلا أنها لا تزال تلعب دورًا مهمًا لا يمكن تجاوزه أو استبداله.  وأكدت على أن القضية الفلسطينية هي قضية وطنية واحدة، بسبب الوحدة والترابط ما بينها وبين الأرض والشعب في جميع أماكن تواجده، وأن المأزق العام الذي تعاني منه القضية الفلسطينية تعمّق بشكل خطير عندما تم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود من دون أن تعترف بأي حق من الحقوق الفلسطينية، وعندما أُدينت المقاومة وأُوقِفت قبل أن تحقق أهدافها وأصبحت كأنها وجهة نظر تخدم فريقًا ومصالحه وليست إستراتيجية وطنية للتحرير؛ ما يوفّر قواسم مشتركة ناجمة عن المخاطر المحدقة بالجميع.

كما تعمق المأزق الوطني عبر تقزيم القضية والأرض والشعب، إذ أصبحت كأنها قضية تخص الشعب في الضفة والقطاع وليس الشعب الفلسطيني كله، وتتحقق من خلال إقامة دولة في هذه المنطقة، إذ أصبح حق تقرير المصير وحق العودة مجرد أدوات لإنجاز الدولة وليست من الحقوق غير القابلة للتفاوض، إضافة إلى تقسيم الضفة والقطاع إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج) والقدس والقطاع، والحل إلى مراحل انتقالية ونهائية، ما مكّن الاحتلال من كسب الوقت في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والعدوان، واستكمال خلق أمر واقع احتلالي يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد الممكن عمليًا.

 

العراقيل التي حالت دون تحقيق اتفاق المصالحة

أبرز التناقضات والعراقيل والنواقص التي يعاني منها اتفاق المصالحة، وأدت إلى عدم نجاح الجهود الرامية إلى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، يمكن عرضها كما يأتي:

  • عدم توفر الإرادة السياسية لطرفي الانقسام، وإصرار كل طرف منهما على شروطه لإنجاز الوحدة، فالرئيس و"فتح" يعطيان الأولوية لاستعادة السلطة في غزة، بينما تعطي "حماس" الأولوية للاحتفاظ بسلطتها الانفرادية في غزة والاستعداد للمشاركة في المنظمة.  كما نجد حماسًا من طرف لإنجاز الوحدة عندما تكون هناك متغيرات عربية وإقليمية ودولية تساعده على فرض شروطه، في المقابل نجد عند الطرف الآخر ترددًا وانتكاسًا، والعكس بالعكس.  وأكبر مثال على ذلك بأن اتفاق المصالحة لم يوقع إلا بعد اندلاع "الربيع العربي" وسقوط نظام مبارك وصعود الإسلام السياسي بقيادة "جماعة الإخوان المسلمين".
  • لعب العامل الإسرائيلي - ولا يزال - دورًا كبيرًا في وقوع الانقسام واستمراره وتعميقه، كما لاحظنا من خلال تصميم خطة "فك الارتباط" مع قطاع غزة بصورة توفر أرضية خصبة لوقوع الانقسام، وعبر مقاطعة إسرائيل حكومة "حماس" وحكومة الوحدة الوطنية، واعتقال عشرات النواب والوزراء، وتحريض واشنطن والعواصم الأوروبية والعالمية على مقاطعة أي حكومة لا تعترف بإسرائيل وتنبذ العنف والإرهاب ولا تلتزم بتطبيق الاتفاقيات (التي لا تلتزم بها إسرائيل منذ فترة طويلة). 
  • تجاهل "اتفاق القاهرة" وملحقاته العديدة المضمون السياسي بسبب الخشية من عدم التمكن من تجاوز الخلاف بين برنامج "فتح" والرئيس ومنظمة التحرير من جهة، وبرنامج "حماس" والجهاد الإسلامي من جهة أخرى، رغم أن الخلاف لا يعني استحالة التوصل إلى قواسم مشتركة إذا توفرت الإرادة اللازمة وابتعد الجميع عن نهج التفرد والإقصاء والادعاء أنه يملك الحقيقة أو يحتكر الوطنية أو الدين أو كليهما، وأن برنامجه ثبتت صحته، وأن الآخرين، خصوصًا من يريدون الانضمام إلى المنظمة عليهم تبني برنامجها، مع أن الوقائع العنيدة تشير إلى توفر تقاطعات كبيرة تمثلت بالاتفاق حول هدف إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، والاستعداد للمشاركة في السلطة والمنظمة، والموافقة على حق المقاومة ومبدأ المفاوضات ووضعهما في إطار إستراتيجية واحدة، وغيرها من النقاط، كما تجسد في وثيقة الأسرى (الوفاق الوطني) العام 2006.

إن مما يقلل من أهمية وتأثير كل الخلافات الكبيرة المتبقية وصول كل البرامج والإستراتيجيات بصرف النظر عن الأسباب والنتائج إلى طريق مسدود، وعدم قدرة طرف وحده على قيادة المؤسسة الفلسطينية؛ ما يقتضي من الجميع الابتعاد عن البرامج الخاصة والمصالح الفردية والفئوية، والارتقاء إلى مستوى المصلحة الوطنية العليا، والاتفاق على إستراتيجية وبرنامج واحد لا يلغي الفوارق والخلافات والتعددية، وإنما يجسد القواسم المشتركة.

لقد تم الالتفاف على أهمية الاتفاق على البرنامج السياسي بأشكال عدة، منها القول إن حكومة الوحدة الوطنية أو الوفاق ليس لها ولا يجب أن يكون لها برنامج سياسي، فهي حكومة خدمية وانتقالية، إضافة إلى أن تحديد البرنامج السياسي من اختصاص المنظمة، وهذا قد يكون مقبولًا لو أن الموقعين على "اتفاق القاهرة" التزموا بتنفيذ بنوده، خصوصًا "لجنة تفعيل وتطوير المنظمة" التي ستقوم بمهام "الإطار القيادي المؤقت"، حيث إن تفعيلها إلى حين انتخاب المجلس الوطني والمجلس المركزي واللجنة التنفيذية بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي؛ كان يمكن أن يتيح الاتفاق في إطار المنظمة على البرنامج السياسي، ولكن هذا لم يحدث سابقًا، كما لم يحدث حتى الآن.

كما أن البرنامج السياسي للحكومة ليس مطلبًا فلسطينيًا في الأساس فقط، وإنما مطلب دولي وإسرائيلي لا يمكن الالتفاف عليه.  وليس المطلوب طبعًا الموافقة على البرنامج السياسي الذي يستند إلى شروط اللجنة الرباعية المجحفة، ولكن لا يمكن تجاهل أهمية الاتفاق على برنامج سياسي يكون قادرًا على الفعل دوليًا، ويقطع الطريق على الذرائع الإسرائيلية من خلال تبني برنامج يحفظ الحقوق الوطنية، ويستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.

وقيل كذلك إن وثيقة الوفاق الوطني (وثيقة الأسرى) هي البرنامج السياسي المتفق عليه، وهذا مهم لأن هذه الوثيقة الوطنية يمكن أن تشكل أساسًا لبلورة البرنامج السياسي، لكنها غير كافية كونها لم تعالج مسائل عدة، بما فيها نقطة في منتهى الأهمية وهي كيفية التعامل مع "اتفاق أوسلو"، وشروط اللجنة الرباعية الظالمة التي وُضِعت كشرط من إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا للاعتراف والتعامل مع أي حكومة فلسطينية، خصوصًا إذا شارك فيها وزراء من "حماس".  وكلنا يذكر التناقض الماثل في برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت إثر "اتفاق مكة" في العبارة التي تتحدث عن "احترام" القرارات الدولية والاتفاقات الموقعة، والعبارة التي تتحدث عن "الالتزام" بها.

لا يمكن القفز عن هذه النقطة (البرنامج السياسي)، لا سيما أنها وقفت وراء استبعاد تشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الفصائل، بالرغم من أنها الحكومة الوطنية المطلوبة والقادرة على مواجهة التحديات الجسيمة، وبالتالي تم بدلًا منها تشكيل حكومة مستقلين من دون برنامج سياسي يحدد كيفية التعامل مع "اتفاق أوسلو" والتزاماته، وشروط اللجنة الرباعية، ومع المقاومة والمفاوضات، ويحدد علاقة السلطة بالمنظمة، والدين بالسياسة، وغيرها من النقاط التي لا يمكن لأي حكومة من دونها أن تكون فاعلة قولًا وفعلًا.

  • اقتصار الحوار والاتفاقات الوطنية على "فتح" و"حماس"، إذ يتفقان ثنائيًا أولًا، وبعد ذلك تتم مشاركة الفصائل الأخرى والمستقلين، ويتم تغييب الشعب، خصوصًا الاتحادات والنقابات والمؤسسات الأهلية والشباب والمرأة، ما أدى إلى اعتماد منطق نظام المحاصصة الفصائلي الثنائي الذي يغلب مصالح الطرفين المتنازعين على المصلحة الوطنية والقواسم المشتركة.
  • تقديم مسألة السلطة على المنظمة مع أن المفترض هو العكس تمامًا، حيث تم التركيز على تطبيق البنود المتعلقة بالسلطة، مثل تشكيل الحكومة والانتخابات وغيرهما من المسائل التي تتعرض لتأثير العوامل الخارجية، وخصوصًا إسرائيل، الدولة المحتلة، التي تملك كل وسائل التأثير على السلطة، بينما تملك وسائل تأثير أقل على المنظمة، في حين أُهمل تطبيق البنود التي تتعلق بالمنظمة، مثل تفعيل الإطار القيادي المؤقت، بالرغم من أنها تمثل الشعب الفلسطيني أينما تواجد، علمًا أن أكثر من نصفه مشرد خارج وطنه.
  • تأجيل تطبيق ملف الأمن إلى ما بعد الانتخابات وفق اقتراح قدمه الرئيس بُعيد توقيع "اتفاق القاهرة"، ووافق عليه خالد مشعل على الفور من دون دراسته من الكل الوطني، وهو من أهم العوائق التي تحول دون تطبيق اتفاق المصالحة وإجراء الانتخابات، ما جعلنا ندور في دوامة من إدارة الانقسام.  فمن دون أمن موحد وجهاز شُرَطي واحد يخضع للوطن وليس للفصائل لا يمكن الحديث عن وحدة ولا عن إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت واقع الانقسام.  أي قارئ للشق الأمني في "اتفاق القاهرة" سيجد تناقضات كبيرة، أبرزها الدفاع عن حق المقاومة وإدانة التنسيق الأمني والالتزام في نفس الوقت بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي!
  • تأثير الأطراف العربية والإقليمية والدولية الذي تزايد بشكل كبير جدًا بعد الانقسام جرّاء حاجة كل من الطرفين المتنازعين للانحياز إلى محور، والارتهان للمساعدات المقدمة له، والرهان على المتغيرات، خصوصًا بعد اندلاع ما سمي "الربيع العربي"، وما رافقه من صعود الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين تحديدًا، حيث تشكل "حماس" امتدادًا فلسطينيًا لها، الأمر الذي أقلق "فتح" وجعلها أكثر ترددًا وحذرًا في تطبيق اتفاق المصالحة حتى لا يطبق لصالح منافستها "حماس"، والعكس يحصل عندما سقط الإخوان المسلمون من الحكم في مصر.
  • تأثير جماعات الانقسام داخل السلطتين وخارجهما، ما يجعل الحوار حول المصالحة والإقناع بأهميتها لا يحقق النتائج المتوخاة، ما يستدعي ربط المصالحة بإحياء وتجديد الحركة الوطنية ومؤسسات منظمة التحرير وإعادة تعريف المشروع الوطني، وممارسة ضغط سياسي وشعبي يكبر ويتعاظم باستمرار ليصبح موازيًا أو أكبر من الضغط الذي تمارسه جماعات مصالح الانقسام وإسرائيل والأطراف العربية والإقليمية والدولية.

لا يجب التقليل من وزن هذه الجماعات التي ازدادت نفوذًا وثروة وسلطة في مرحلة الانقسام، وهي تخشى من أن تفقدها الوحدة الكثير من المكاسب والمراكز، خصوصًا أن الانقسام أطاح بالمؤسسات الرقابية، مثل المجلس التشريعي، والقضاء المستقل الفاعل، والإعلام الحر المستقل، في حين تعمّقت أشكال الحكم الفردي والممارسات القمعية، مثل الاستدعاءات، ومنع السفر، والاعتقالات، وإغلاق المؤسسات، في ظل حاجة كل فريق إلى التفاف أنصاره ومؤيديه حوله.

 

تحقيق المصالحة يحتاج إلى وضع جهود إنهاء الانقسام في إطار إعادة بناء الحركة الوطنية

كان التركيز في هذه المرحلة من البرنامج على إقناع الأطراف المتنازعة بالعمل على تطبيق اتفاق المصالحة وإزالة العراقيل والعقبات التي تعترض تطبيقه.  وبالرغم من إنتاج وثائق مهمة وتقديم اقتراحات ملموسة في المجالين السياسي والأمني، إلا أن الحوار لم يؤثر كثيرًا ولم يغير الواقع السياسي، ما فرض إجراء تغيير على مسمى ومضمون البرنامج بما ينسجم مع متطلبات تحقيق أهدافه.

إن الخلاصة الأساسية من المرحلة الأولى أن الحوار وتقديم الملاحظات والاقتراحات وحدها واقتصارها على السعي للإقناع والوساطة في محاولة لتطبيق اتفاق المصالحة لم يعد مجديًا، وإنما المطلوب وضع الحوار والجهود لإنجاز الوحدة في سياق أكبر بكثير، يشمل إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير والحركة الوطنية والتمثيل وأسس الشراكة، والتركيز على إعطاء الأولوية للمنظمة على السلطة، وعلى الجمع ما بين العمل "من فوق لتحت" مع العمل "من تحت لفوق".

ما سبق يساعد على دمج مشاركين وقطاعات أكبر، إذ لم يعد يقتصر البرنامج على فريق من الخبراء والسياسيين والنشطاء، وعلى عشرات المشاركين في الورشات من الممثلين للمستويات المختلفة في الفصائل، خصوصًا العليا، وإنما التوجه إلى دعوة مشاركين من مستويات أدنى، وعقد ورشات في مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه.  فنظّم البرنامج العديد من الورشات، شارك فيها ما يزيد عن ألف مشارك/ة، وتمت تغطية هذه الورشات إعلاميًا، إضافة إلى تحميل بعضها على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب. 

تم التوجه في هذه المرحلة إلى الشباب في الجامعات والمؤسسات الشبابية، لأن المشاركة الشعبية الواسعة في نقاش الهموم الوطنية ستجعل المشاركة أكبر لإنجاز المصالحة، لأن تحقيقها يتطلب أن تدرج في سياق عملية تتضمن نهوض الشعب الفلسطيني، بما يوجد المؤسسة الوطنية الجامعة انطلاقًا من إعادة تعريف المشروع الوطني، وبلورة البرنامج السياسي وأسس الشراكة على أساس أن طرفًا وحده لن يستطيع إيصال السفينة التي تضم الجميع إلى بر الأمان، لأن هناك تعددية ومنافسة لتيارات عدة، منها تياران وزنهما متقارب، ما يفرض الوحدة من أجل مواجهة التحديات والمخاطر وتعظيم القدرة على توظيف الفرص.

 

المرحلة الثانية

تم فيها إنتاج "وثيقة إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير"، وهي وثيقة مهمة أعدها بصيغتها النهائية الباحث جميل هلال استنادًا إلى ثماني أوراق مرجعية تناولت أوضاع التجمعات الفلسطينية المختلفة وتصوراتها حول المنظمة، وإلى خلاصات عدد من الورشات، ويمكن الرجوع إليها للتعرف على أهم الأفكار والاقتراحات التي تتضمنها.

إن استنهاض الشعب والاعتماد على مصادر قوته وإشراكه في عملية لا تكتفي بإنجاز المصالحة، بل تدافع عن حقوقه ومصالحه، وتعالج همومه القريبة والبعيدة؛ يمكن أن تجعله ينخرط أكثر في إنجاز المصالحة.  أما مصالحة بين "فتح" و"حماس" والفصائل على أهميتها لا تستحق كل هذا العناء.

وجرى التركيز في هذه المرحلة على المنظمة وضرورة إعادة بناء مؤسساتها على أسس وطنية وديموقراطية وشراكة سياسية حقيقية.  ولا يمكن الحديث عن إعادة بناء وتجديد وتغيير وحتى إصلاح من دون أن نحدد أين تقف القضية الفلسطينية الآن؟ وإلى أين تريد الوصول؟ وكيف ستحقق ما تريد؟ وأول شيء يطرح نفسه بلورة عقد اجتماعي جديد (ميثاق وطني) يحدد الأهداف والحقوق الطبيعية والتاريخية والقيم الأساسية وقواعد العمل والكفاح.

إن ما يجمع الشعب الفلسطيني لا يزال أكثر بكثير مما يفرقه بحكم تعرضه إلى مشروع صهيوني استعماري استيطاني عنصري إحلالي لم يغلق، بالرغم من مرور أكثر من مائة عام على إطلاقه، ورغم شن العديد من الحروب وارتكاب كل أنواع المجازر.  فالمشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري لا يميز بين فلسطيني وآخر، بين معتدل ومتطرف، بين "فتح" و"حماس" و"شعبية" ومستقل، ولا يطرح عرضًا يمكن أن يقبله حتى أكثر الفلسطينيين اعتدالًا، ما يجعل إمكانية الوحدة هدفًا واقعيًا رغم صعوبته الشديدة، بدليل الاتفاقات التي وقعت، وإعلان كل الفصائل وأغلبية ممثلي الشعب عن تمسكها بالعمل من أجل الوحدة، وضرورة أن يكون هناك إطار وطني واحد ومؤسسة وطنية جامعة تمثلها منظمة التحرير.

الصراع يدور على أسس وشروط الوحدة المطلوبة، وهذا يجعل مسألة السعي لإجراء مصالحة تاريخية على أساس عقد اجتماعي (ميثاق وطني) وبرنامج سياسي وأسس الشراكة مسألة لها أولوية وطنية حاسمة، لا سيما أنها ستجمع التيارات الوطنية واليسارية والإسلامية.  وإذا لم تتحقق هذه التسوية التاريخية بأسرع وقت ممكن، فإننا لا نبالغ في القول إن على القضية الفلسطينية السلام من الآن وحتى إشعار آخر.

ويكتسب الاتفاق على فصل الديني عن السياسي أهمية فائقة في التسوية التاريخية، مع حق الفصائل بأن تكون لها خلفية دينية، ولكن من دون أن يطغى الدين على السياسة، أو يوظف لخدمتها، لأن مجاليهما مختلفان.  وهنا نشير إلى نص وثيقة المنظمة بشأن ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، وهي وثيقة وافق عليها عشرات الفلسطينيين، بمن فيهم ثمانية أعضاء من نواب المجلس التشريعي المنتمين إلى كتلة التغيير والإصلاح الممثلة لحركة حماس في المجلس التشريعي.

كما تكتسب مسألة الانتخابات أهمية خاصة، لأنها أحد أهم مكونات الديمقراطية التي يمكن من خلالها التعبير عن إرادة الشعب، ولكن لا يجب النظر في الحالة الفلسطينية إلى الانتخابات بمعزل عن وظيفتها.  وهل ستكون وظيفة الانتخابات القادمة منح الشرعية لما يسمى "عملية السلام" وسلطة الحكم الذاتي المحدود المقيدة بالالتزامات المجحفة المترتبة على "اتفاق أوسلو"، أم ستكون وظيفتها التعبير عن إرادة الشعب بالتحرر الوطني وتقرير المصير والعودة والاستقلال؟

فالانتخابات - كما هو معروف - شكل من المساواة وممارسة الحرية، وإذا كانت المساواة والحرية مفقودتين، فكيف يمكن أن تكون الانتخابات حرة ونزيهة؟ وحتى تكون كذلك لا بد من أن تكون مشروطة باتفاق وطني على وظيفتها، وعلى كيفية التعامل مع نتيجتها، بحيث تكون الحكومة التي ستُشكل بعدها حكومة وحدة وطنية ائتلافية بصرف النظر عن نتائج الانتخابات، إضافة إلى الاتفاق على تدابير أخرى تمنع أو تحد من قدرة الاحتلال على مصادرة نتائجها، وأن تكون شكلًا من أشكال الكفاح للتخلص من الاحتلال.  إن إجراء الانتخابات، خصوصًا بشكل متكرر، من شأنه أن يعطي نوعًا من الشرعية وإعطاء الصفة الديمقراطية للاحتلال.

إن أي إعادة بناء للمنظمة لن تعيد تكرار ما تم عند تأسيسها في أواسط الستينيات، بل ستستند إلى ما يوحد الفلسطينيبن.  وستأخذ بالحسبان الظروف والخصائص التي يعيش فيها كل تجمع، فعند تأسيس المنظمة كانت الظروف الفلسطينية والعربية والدولية مختلفة تمامًا، فكان إنشاء المنظمة قرارًا عربيًا طبقه الفلسطينيون، أي أن المنظمة كانت جزءًا وخاضعة للنظام الرسمي العربي، وحتى عندما قادت فصائل الثورة الفلسطينية، وتحديدًا حركة فتح المنظمة في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كانت الظروف القائمة آنذاك مختلفة تمامًا.

ومنذ تلك الفترة، جرت مياه كثيرة وتولدت حقائق وخبرات جديدة، ومن المفترض أن التجربة الطويلة العريضة بكل ما رافقها من إنجازات وانتكاسات غنية بالدروس والعبر، التي يمكن الخروج بها من أي عملية مراجعة علمية وطنية، والتي باتت ملحة جدًا للأخد بها، فلم تعد تحتمل المزيد من التأخير.

وأهم درس إن إعادة بناء مؤسسات المنظمة يجب أن يكون من تحت لفوق، بمعنى أن تقوم التجمعات الفلسطينية المختلفة باختيار ممثليها، الذين سيضافون إلى ممثلي الفصائل والأحزاب، والاتحادات الشعبية والنقابات المهنية، والكفاءات، والعسكريين، والشخصيات الاعتبارية.

 

المرحلة الثالثة

انبثقت هذه المرحلة من الإحباط الناجم عن استمرار الانقسام وتعميقه، وعدم تأثير كل المطالبات والمناشدات والتوصيات والاقتراحات والمبادرات الصادرة عن هذا البرنامج وغيره من البرامج والنشاطات التي نظمت على امتداد خارطة تواجد الفلسطينيين؛ الأمر الذي أشعر المشاركين في الحوارات والورشات وكتّاب الوثائق والأوراق باللاجدوى.  وكان هذا سيقودهم إما إلى الإحباط والتوقف عن العمل من أجل إنجاز الوحدة، أو التفكير بأفكار وآليات جديدة تساعد على أن يكون لكل التوصيات والاقتراحات المطروحة مساهمة في إنهاء الانقسام أو التقدم على طريق إنهائه.

في هذا السياق، بدأ البحث في كيفية بلورة الأفكار والاقتراحات والتوصيات والمبادرات وكيف يمكن جعلها تؤثر على عملية صنع القرار الفلسطيني.  وفي هذا الصدد نجد أن الاتجاه يكبر أكثر نحو تبني تشكيل مجموعات ضغط ولجان محلية ووطنية، أو مجموعة حكماء، وتنظيم عرائض وبيانات ومؤتمرات صحافية، وعقد اجتماعات موسعة، والتفكير بعقد مؤتمر أو مؤتمرات شعبية تتوج بمؤتمر وطني، في نفس الوقت الذي تتواصل فيه الدعوات للقيادة وللفصائل، خاصة "فتح" و"حماس"، إلى الاستجابة للمطالبات المتواصلة لطي صفحة الانقسام السوداء.

 

أهم الأفكار المطروحة لإنقاذ القضية الوطنية

قبل عرض المبادرات العملية وآليات العمل المقترحة والاختلافات فيما بينها، لا بد من التوقف أمام أهم الأفكار والتصورات المطروحة لإنقاد القضية الوطنية.

أولًا.  تطبيق "اتفاق القاهرة" وملحقاته من "إعلان الدوحة" إلى "بيان الشاطئ" كما تم الاتفاق عليها كرزمة واحدة، أي وفقًا للنص من دون الحاجة إلى حوارات جديدة. 

المعضلة التي تعترض هذه الفكرة مرور أكثر من خمس سنوات على توقيع "اتفاق القاهرة" من دون تطبيقه، لأن الموقعين عليه، وأقصد تحديدًا "فتح" و"حماس"، لا تريدان تطبيقه إلا بصورة انتقائية تناسب مصالحهما.  فما يهم الرئيس و"فتح" استعادة السلطة الشرعية في قطاع غزة تحت قيادتهما، وبالتالي فإن الأمر الحاسم لديهما هو تخلي "حماس" عن مصادر الحكم في غزة (الوزارات، الأجهزة الأمنية، المعابر، الحدود، ملفات إنهاء الحصار والإعمار، التهدئة، العلاقات العربية والإقليمية والدولية)؛ لذلك يجري التركيز على إقامة سلطة واحدة وسلاح واحد وقرار واحد ووقف المقاومة المسلحة التزامًا بالاتفاقات الموقعة، ولتوفير قبول دولي للمواقف الفلسطينية، إضافة إلى قيام الحكومة بمسؤولياتها تمهيدًا لإجراء الانتخابات في الوقت المناسب.

أما "حماس"، فتركز على بقاء سيطرتها على قطاع غزة، سواء بشكل واضح عندما كانت لها حكومة معلنة تحت سيطرتها المباشرة، أو من خلال حكومة ظل، إذ بدا أن كل ما يهمها هو الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب من الطرف الآخر، وتحميل جميع المسؤوليات للحكومة.  ولتبرير ذلك، تطالب بتطبيق "اتفاق القاهرة" بكل ملفاته رزمة واحدة، وإذا غيّرت من هذا الموقف كما حصل بموافقتها على تشكيل حكومة وفاق وطني؛ فإنها تفعل ذلك جرّاء الأزمة السياسية والمالية وتبعاتها، ولا تزال آثارها باقية بعد تدهور علاقتها بإيران وسوريا وحزب الله، خصوصًا بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين وتدهور علاقة "حماس" بالقيادة المصرية الجديدة.  لذلك لاحظنا كيف أعطت "حماس" كل الاهتمام لصرف رواتب موظفيها، مع أن هذا حق، ولكنه ليس الموضوع الوحيد ولا الأهم، وتتفاوض "حماس" مع إسرائيل بشكل غير مباشر من أجل التوصل إلى هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار والحفاظ على سلطتها.

وأصّرت "حماس" بشكل عام على إجراء انتخابات المجلس الوطني، إلا أنها أبدت مرونة في حالات عديدة حول هذا الأمر.  مع العلم أن إجراء انتخابات للمجلس الوطني ليس قرارًا يستطيع أن يتخذه الفلسطينيون بمفردهم من دون موافقة إسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية على إجرائها في أماكن تواجد الشعب الفلسطيني المختلفة في الوطن والشتات.

يصعب تنفيذ ما يمكن تطبيقه من اتفاق المصالحة من دون إيمان بالشراكة والكف عن السعي للاستئثار والتفرد وإقصاء الآخرين، وفي ظل المراهنة على المتغيرات العربية والإسرائيلية والإقليمية والدولية، ومن دون نشوء تيار ثالث قوي يُحدث نوعًا من التوازن بين القطبين المتنازعين.  بل إن تطبيق ذلك سيظل في أحسن الأحوال بشكل انتقائي وكردات فعل، الأمر الذي قاد وسيقود إلى ابتعاد هدف الوحدة عن التحقق بشكل كبير.

في إطار هذه الفكرة يمكن أن نضع أيضًا أفكارًا من نوع ضرورة تطوير "اتفاق القاهرة" وسد نواقصه وتوحيد تفسيرات لبعض بنوده وإزالة العراقيل التي تعترض تطبيقه.

وقد قام برنامج دعم وتطوير مسار المصالحة في مرحلته الأولى بتقديم مقترحات حول الاتفاق على برنامج سياسي، والإسراع في تشكيل اللجنة الأمنية العليا المنصوص عليها في "اتفاق القاهرة"، التي اتُفق على تأجيلها إلى ما بعد إجراء الانتخابات، ما يعكس عدم جدية الفرقاء المعنيين في تطبيق الاتفاق، لأنه من دون أمن موحد لا يمكن أن تكون هناك سلطة واحدة.

كما قدم البرنامج اقتراحات كثيرة حول التطبيق التدريجي للشق الأمني فيما يخص توحيد وإعادة بناء الأجهزة الأمنية، إذ دعا إلى البدء بجهاز الشرطة، وتمت بلورة مشروع قانون الشرطة، وتحديد معايير ومراحل دمج الشرطة، وإيجاد جهاز شرطة واحد في الضفة والقطاع، إضافة إلى اقتراحات أخرى تناولت السياسات الأمنية واللجنة الأمنية العليا والأمن الوطني وتشكيل مجلس الأمن القومي ...  إلخ.

ثانيًا.  أفكار تنطلق من ضرورة الاعتراف من واقع الانقسام، وترى أن الحل الواقعي يتمثل في إدارة الانقسام والتعايش معه كما هو، أو من خلال البحث في شكل من الاتحاد الفيدرالي أو غيره.

يدافع أنصار هذه الدعوة عن فكرتهم بالحديث عن اختلاف الظروف بين الضفة والقطاع، خصوصًا بعد تنفيذ خطة "فك الارتباط"، وعن واقع عدم وجود تواصل جغرافي وبشري بين الضفة والقطاع، وعن المراحل المختلفة التي عاشها كل منهما حتى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي لهما في حرب حزيران 1967، إضافة إلى اختلاف السلطتين المتحكمتين في الضفة والقطاع في الأيديولوجيا والبرامج السياسية والاجتماعية والتحالفات العربية والدولية.

يكمن ضعف هذه الفكرة في كونها لا تقدم جديدًا سوى التعايش ودعم ترسيخ الواقع الانقسامي ومأسسته وتبريره والعمل في أحسن الأحوال من أجل تحسينه.  لو ترافقت مثل هذه الأفكار مع إعطاء الأولوية لإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير ونجاحها في ضم مختلف ألوان الطيف السياسي؛ لكان يمكن، بل ويجب، أخذ الظروف الخاصة بكل تجمع في الحسبان.  انقسام من دون تبرير وتنظير ومأسسة أقل سوءًا من انقسام بكل ذلك، أما التعايش مع الانقسام وتبريره وتقديسه بذريعة أن "ليس بالإمكان أبدع مما كان" وأن مقاومة لا يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه لو كانت هنك سلطة واحدة؛ فإنه يساهم في تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال.

هنا، لا بد من الإشارة إلى أن هناك أفكارًا تشطح أبعد من ذلك بكثير، من خلال المطالبة بعدم وجود حاجة إلى إطار وطني موحد، بفعل انتحار المنظمة بعد توقيعها على اتفاق أوسلو واعترافها بحق إسرائيل في الوجود، ولأن الظروف التي أوجدت المنظمة انتهت وتغيرت كليًا؛ ما يجعل الممكن تشكيل ائتلافات وروابط على أساس المصالح وتجاهل أهمية الحقوق والهوية الوطنية والقضية والمؤسسة الوطنية الجامعة.

ثالثًا.  أفكار تدعو إلى عدم العمل من أجل إنجاز الوحدة لأنه هدف – باعتقاد أصحاب هذه الأفكار – يستحيل تحقيقه كون الفريقان المتنازعان يسيران في اتجاهين متعاكسين متوازيين، فوفقًا لهؤلاء "إما نحن أو هم".

ويعبر عن هذه الأفكار بصراحة بعض الأشخاص، وتؤيدها عناصر نافذة في "فتح" و"حماس" وخارجهما وفي الأجهزة الأمنية والسلطة والمجتمع هنا وهناك، ويستخدم كل طرف نفس الحجج بأن الطرف الآخر لا يقبل الشراكة وأن لا مفر من هزيمته أو انتظار سقوطه.

وبالرغم من أن هذه الأفكار لا تعبر عن نفسها علنًا بقوة، إلا أن مؤيديها وأنصارها أكثر بكثير مما يبدو على السطح.  فهناك أوساط في "حماس" تعتبر سلطة "أبو مازن" خائنة وعميلة وفاسدة وكافرة وأضاعت القضية الفلسطينية، بينما تُعتَبر "حماس" من قبل أوساط في "فتح" متخلّفة وتكفيرية وفاسدة، وتستخدم الدين لتحقيق أغراضها الخاصة والسياسية، وليست وطنية لأنها امتداد للإخوان المسلمين في فلسطين، ولذلك تسعى لإقامة كيان تحت سيطرتها، إضافة إلى استعدادها لعقد هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل مقابل تحقيق هذا الهدف.

إن مثل هذه الاعتقادات تجعل تحقيق الوحدة مهمة صعبة المنال، ويتناسى أصحاب هذه الأفكار العدو والمخاطر المشتركة التي تهدد الجميع وعدم قدرة فصيل وحده على مواجهتها والانتصار عليها.

 

الميثاق الوطني

هناك عدة آراء مطروحة في الساحة الفلسطينية حول مسألة الميثاق الوطني، منها:

  • إبقاء الميثاق على ما هو عليه على أساس أن إجراءات تعديله/تغييره لم تستكمل قانونيًا، وخصوصًا بعد انقلاب إسرائيل على "اتفاق أوسلو" بشكل كامل، مما ينفي الحاجة إلى تغيير الميثاق. 
  • اعتبار وثيقة "إعلان الاستقلال" الصادرة العام 1988 هي الميثاق الوطني الجديد. 
  • إن الاعتراف الأممي بالدولة الفلسطينية في نهاية العام 2012 يتطلب إقرار دستور للدولة، يستند إلى الوثائق السابقة ويطورها، وخاصة القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية.
  • ضرورة بلورة ميثاق وطني جديد يستند إلى الميثاق القديم، ووثائق الإجماع أو شبه الإجماع الوطني، و"وثيقة الأسرى"، و"وثيقة إعلان الاستقلال"، و"إعلان لجنة المقاطعة"، و"اتفاق القاهرة" 2011، بحيث تأخذ الوثيقة الجديدة بالخبرات والحقائق الجديدة والمستجدات والحاجة إلى مصالحة تاريخية بين التيارات الفلسطينية المختلفة (الوطني والقومي واليساري والإسلامي)، وتكون أساسًا لإعادة تأسيس منظمة التحرير بصفتها الكيان الوطني والممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

يجب أن يستند معيار الحكم على كل فكرة من هذه الأفكار إلى طبيعة المرحلة التي تمر بها القضية والشعب الفلسطيني باعتبارها مرحلة تحرر وطني بحاجة إلى جبهة وطنية عريضة، في ظل قناعة تترسخ يوميًا بتعذر التوصل إلى تسوية مع المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني العنصري على المدى القريب على الأقل، بما يسمح بتجسيد الدولة الفلسطينية المعترف بها على الأرض.  كما أن الدستور يعني (حقوق وواجبات)، فكيف يمكن الاستجابة للحقوق من دون أن تكون هناك سيادة للسلطة التي تطبق الدستور، فالأولوية للاتفاق على ميثاق وطني يجسد الحقوق والرواية التاريخية والقيم والقواسم المشتركة، ويفتح طريق المستقبل.

 

المجلس الوطني

هناك عدة اقتراحات للتعامل مع المحلس الوطني:

  • دعوة المجلس الوطني للانعقاد بتشكيلته القديمة، سواء بدورة عادية أو استثنائية.
  • تشكيل مجلس وطني جديد بالاستناد إلى اتفاق المصالحة، إذ يقوم الإطار القيادي المؤقت بالتحضير لعقده بالانتخاب حيثما أمكن ذلك أو بالتوافق الوطني إذا تعذر الانتخاب.
  • تشكيل مجلس تأسيسي وفق ما اقترح حزب الشعب، إذ يضم المجلسين المركزي والتشريعي وأعضاء الإطار القيادي المؤقت؛ ليقوم بمهام السلطة التشريعية إلى حين إجراء الانتخابات.
  • اعتبار الإطار القيادي المؤقت بعد توسيعه ليصل إلى (100-150) عضوًا هو المجلس التأسيسي، بحيث يقوم بإقرار الوثائق الميثاق والبرنامج السياسي إلى حين إجراء الانتخابات أو التوافق على تشكيل مجلس وطني جديد.
  • هناك اقتراح بأن تكون لجنة المتابعة داخل 1948 هي الإطار التمثيلي لشعبنا هناك، بحيث تقوم قيادة المنظمة بالتنسيق معها.
  • هناك مبادرة لتسجيل الفلسطينيين في جميع الأماكن في سجل للانتخابات تمهيدًا للدعوة إلى إجراء الانتخابات، واختيار المجلس الوطني الذي له وحده صلاحية إقرار الميثاق الوطني والبرنامج السياسي ...  إلخ.
  • استمرار الأمر الواقع كما هو (زائد أو ناقص) إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

إن الاستنتاج الأبرز من ورشات الحوار ومن خبرة استمرار الانقسام، ومما جرى في البلدان العربية بعد اندلاع ما يسمى "الربيع العربي"؛ أنه من دون الاتفاق على ما يمكن أن نطلق عليه "ركائز المصلحة الوطنية العليا" (عقد اجتماعي، ميثاق وطني) لا يمكن تحقيق نجاح حقيقي لأي فكرة أو مبادرة، لأنها تشكل حجر الزاوية الذي يمكن أن يبنى عليه صرح وبناء الوحدة الوطنية، فلا يمكن الذهاب إلى انتخابات من دون الاتفاق على الأهداف والحقوق والقيم وأشكال العمل والنضال الأساسية، التي يجب أن تكون متضمنة في الميثاق الوطني، لأنه أمر جماعي لا يتعلق بالأغلبية أو الأقلية ولا يقرره فريق وحده مهما كانت مكانته.

 

آليات تطبيق  الأفكار والمبادرات المطروحة

كما لاحظنا، فإن هناك آراء ومبادرات واقتراحات يوجد ما يجمعها ويوجد ما يفرقها، وكل منها تختلف طريقة وآليات تطبيقها.

** فهناك مبادرات مرجعيتها إبقاء الوضع على ما هو عليه على أساس "أن ليس بالإمكان أبدع مما كان"، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه تحسين أو ترقيع أو إصلاح الوضع القائم، وعلى أساس هذه القناعة تكون الأساليب وأدوات العمل المناسبة هي الحوار والإقناع والضغط الخفيف، والعمل مع القيادة ومن فوق لإظهار أن من مصلحتها الأخذ بالاقتراحات المطروحة.

وفي سياق تطبيق مثل هذه الاقتراحات والمبادرات تصبح فكرة الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني مرهونة بتبنيها من القيادة الفلسطينية، وتصبح "لجنة الحكماء" أو أي لجنة أخرى غير قادرة على العمل من دون موافقة القيادة والقوى الأساسية، خصوصًا "فتح" و"حماس".

كيف يمكن اختيار "لجنة حكماء"، ومن الذي سيختارها، ومن الذي يمنع تشكيلها، وما هو دورها؟ فهناك آراء أو اقتراحات ترى بأن القيادة والقوى والموقعين على "اتفاق القاهرة" هم من تقع على عاتقهم مسؤولية المبادرة لتشكيل مثل هذه اللجنة، وأن يقتصر عملها على الدعوة إلى تطبيق اتفاق المصالحة والتوجه نحو إجراء الانتخابات.  وهناك من يرى منح اللجنة تفويضًا بتشكيل مجلس تأسيسي جديد لإعادة تأسيس منظمة التحرير على أسس جديدة، بحيث يتم إقرار الميثاق الوطني والإستراتيجية الفلسطينية.

لو توفرت الإرادة لتشكيل لجنة الحكماء وإعطائها هذا التفويض لما كانت هناك معضلة، وربما لما كنا بحاجة إلى لجنة حكماء، فتكمن المعضلة في أن القيادة والفرقاء المتنازعين ليست لديهم القناعة والرغبة والإرادة للتغيير وإنهاء الانقسام، لذلك هناك من يطرح أن يبادر المجتمع  المدني والغيورون والحريصون على المصلحة الوطنية إلى تشكيل "لجنة حكماء" تضم عددًا صغيرًا من الممثلين لمختلف التجمعات الفلسطينية. 

والسؤال في هذه الحالة: كيف ستعمل هذه اللجنة، ومن سيعطيها التفويض، ومن سيمكنها من العمل؟ إلا إذا اختارت أن تكون جزءًا من عملية تراكمية تستهدف الضغط من "تحت لفوق" وإيجاد تيار سياسي وشعبي فلسطيني ضاغط وقادر على فرض إرادة الشعب الفلسطيني على الأطراف المتنازعة.

** كما أن هناك مبادرات مرجعيتها الحاجة إلى أكثر من ترقيع وإصلاح، فهي تدعو إلى تغيير وتجديد وإعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل ومؤسسات منظمة التحرير.  مثل هذه المبادرات بحاجة إلى العمل من تحت لفوق والعمل لإيجاد تيار أو تيارات وائتلافات متعددة تسعى للضغط، بحيث تكون لجنة الحكماء والمؤتمر الشعبي والبيانات والعرائض والاعتصامات والمظاهرات، وحتى الإضراب عن الطعام، هي وسائل للضغط حتى يكون هناك طرف ثالث، يتسع لكل الأفراد والقوى التي تريد إخراج القضية الفلسطينية من المأزق الذي تعيش فيه ويهددها بالمزيد من التهميش، وحتى بالتصفية بصرف النظر عن انتماءاتها أو كونها غير منتمية.

وهنا تقتضي الخبرة من الحوارات والاتفاقات والمبادرات السابقة أن يكون هناك جمع ما بين العمل لتحقيق ما يمكن تحقيقه الآن وفتح الطريق على ما يجب تحقيقه في المستقبل القريب أو البعيد،  فالحوار أفضل من القطيعة، ووجود حكومة وفاق "طربوش" أفضل من وجود حكومتين، والاتفاق على إعادة الحصار، وعلى المقاومة الشعبية، وعدم استئناف المفاوضات وفق الصيغة السابقة، وعلى الكهرباء وغيرها من القضايا الحياتية، وعلى محكمة الجنايات أو على حماية الحقوق والحريات، وتحريم الاعتقال السياسي وكل أشكال القمع، وعلى معالجة ذيول الانقسام وتحقيق مصالحات اجتماعية أو توافق على التوجيهي والحج؛ أفضل بكثير من عدم الاتفاق.

 

مشاركة: