إعلان الرئيس ابو مازن عن رغبته بعدم الترشح، وإصراره على ذلك رغم المطالبة الفلسطينية والعربية والدولية بالعدول عنها، واستمرار وقوف المفاوضات الى طريق مسدود بعد اتضاح أن أقصى ما توصلت إليه إدارة اوباما مع حكومة نتنياهو هو مسرحية "كبح جماح" الاستيطان لمدة عشرة أشهر فقط، يطرح إمكانية لأن يبقى الوضع على ما هو عليه الآن، وهو أسوأ من استئناف المفاوضات العبثية. فوقف المفاوضات لوحده لا يوقف المفاوضات ولا يقدم بديلاً مقنعا لأحد.
فمن جهة لا توجد الآن عملية سياسية أو أفق سياسي أو مفاوضات، حتى ولو كانت عبثية، في الوقت الذي يتواصل الاستيطان وبناء الجدار وتهويد وأسرلة القدس والحصار والاعتقالات وكافة أشكال العدوان الإسرائيلي، والإدارة الأميركية ومعها دول أخرى تعتبر أن خطوة إسرائيل ايجابية وغير مسبوقة.
ومن جهة أخرى، تقف القيادة الفلسطينية في موقف حرج وغريب، وتتصرف وكأنها فعلت كل ما يلزم، إن إعلان الرئيس ليس حلا لأن الأهم ليس الاحتجاج على تعنت حكومة نتنياهو ومحاباة إدارة اوباما لها، وعلى التقصير العربي واستمرار الانقسام الفلسطيني، وإنما المبادرة لشق طريق آخر قادر على تحقيق الأهداف الوطنية. فانتظار تقديم الإدارة الأميركية وإسرائيل ما يساعد على استئناف المفاوضات سيطول، فما في الجعبة الأميركية الإسرائيلية قد ظهر للجميع. وإذا أردنا تغييره يجب أن نسير في طريق قادر على تغييره أو قبول ما يقدموه لنا.
والرئيس يرفض التوقيع على تسوية دائمة تصفي القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، فالمطروح عليه حتى زمن حكومة اولمرت، تصفية وليس حلا عادلا أو متوازنا. ولا بوارد قبول حل انتقالي جديد خشية أن يتحول الى حل دائم، مثل الحل الذي يقدم له حاليا، وهو دولة ذات حدود مؤقتة تتفاوض مع دولة إسرائيل على القضايا المتبقية الى اشعار آخر.
وهو ليس بوارد القبول باستئناف المفاوضات قبل تجميد الاستيطان تجميدا تاما وتحديد مرجعية عملية السلام بصورة واضحة.
في نفس الوقت لا يريد الرئيس شق طريق جديد قادر على تحقيق ما عجز عن تحقيقه طريق المفاوضات الثنائية، مثل طريق المقاومة المثمرة أو طريق المقاومة المفتوحة أي فتح الخيارات والبدائل الأخرى، فهو صرح أثناء جولته بأميركا اللاتينية أنه ضد شن انتفاضة شعبية جديدة، وأنه لا يزال يمد يده للسلام، أما التصريحات التي يطلقها بعض العناصر القيادية حول المقاومة أو عن حل السلطة أو الدولة الواحدة، فهي مجرد تهديدات جوفاء لا يأخذها أحد على محمل الجد إذا لم تترافق مع سياسة وأشكال نضال جديدة وتحضيرات معروفة، واستعدادات جدية، وتحويل الأقوال الى أفعال.
وإذا أضفنا الى ما سبق، ان الانقسام الفلسطيني مرشح للاستمرار لفترة غير محددة، سواء إذا وقعت "حماس" على الورقة المصرية أو لم توقعها، مع أن توقيعها هو أهون الشرور، لأنه يبقي باب الحوار مفتوحا. فإذا وقعت "حماس" بدون توفر الإرادة لدى الطرفين بإنهاء الانقسام، سندخل في حوار ماراثوني آخر حول التطبيق. كيف سيتم الاتفاق على إعادة صياغة وتشكيل المنظمة والسلطة (خصوصا الأجهزة الأمنية) في ظل استمرار الانقسام ووجود حكومة في الضفة الغربية، وحكومة في غزة.
حتى ينجح الحوار مطلوب إرادة لإنهاء الانقسام والاستعداد للانخراط في شراكة لا يهيمن فيها طرف لوحده على النظام الفلسطيني وتقوم على إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني الفلسطيني.
كما سيكون مناسبا في ظل هذا الواقع تأجيل الانتخابات تحت حجة الحفاظ على الوحدة الوطنية وعدم تكريس الانقسام وشرعنته.
الرئيس لا يريد استئناف المفاوضات العبثية، ولا يريد أن يخون وهذا أمر جيد يستحق الدعم، ولا يريد أن يقود خيارا جديدا وهذا من حقه ولكنه عليه أن يدعو الى فتح خيارات وبدائل أخرى. أما استمرار الوضع الحالي فسيئ جدا لأنه يترك الساحة الفلسطينية بلا سياسة ولا قيادة. فالرئيس يستعد للرحيل الآن أو عند إجراء الانتخابات، والانتخابات يمكن أن تؤجل. فهي تأجلت مرة ويمكن أن تتأجل مرة أخرى.
وحتى إذا قرر الرئيس الاستقالة وعدم الاستمرار بالانتظار لحين إجراء الانتخابات يمكن أن يعتمد الرئيس القادم نفس السياسة الحالية، سياسة الانتظار القاتلة، السياسة التي تعني عمليا عدم وجود سياسة في أي مجال من المجالات، وهذا يعني غياب القيادة.
على القيادة أن تحسم هل تريد أن تقود أم لا؟ هل تريد أن تفاوض مع الاستعداد لدفع ثمن المفاوضات من أجل الحصول على الفتات الذي يمكن أن ينجم عنها وهذا أمر مرفوض؟
أو هل تريد أن تقاوم مقاومة مفتوحة حتى تتغير المعطيات بحيث يمكن أن تفرض حلا عادلا ومتوازنا؟ وهذا غير واقعي.
أو تريد أن تجمع ما بين المقاومة المثمرة والمفاوضات المثمرة؟ بحيث تكون حينها الأولوية للمقاومة ولاستعادة الوحدة الوطنية والبعد العربي للقضية الفلسطينية وملاحقة إسرئيل على جرائمها في المؤسسات والمحاكم الدولية عبر تفعيل الفتوى القانونية لمحكمة لاهاي، ومتابعة تقرير غولدستون، واستنهاض حركة تضامن عالمي ضد الاحتلال والاستيطان والعنصرية الإسرائيلية، وهذا هو البديل الممكن والضروري. وعندها يمكن مواجهة استمرار الاستيطان بالمقاومة المثمرة.
أما بقاء الوضع الحالي بدون مفاوضات ولا مقاومة ولا وحدة، فهو أسوأ من المفاوضات العبثية، وله حسنة واحدة هي أن القيادة لا تريد أن تلوث يديها بالتوقيع على اتفاق خياني يمس بالثوابت الوطنية، أو الدخول بمفاوضات عبثية مرة أخرى وهذا على أهميته لا يكفي. فمن يريد أن ينتصر عليه أن يقود وأن يطرح طريقا للنجاة والانتصار.
خطة فك ارتباط بالضفة
وإذا نظرنا الى المستقبل، وما يمكن ان يحمله للفلسطينيين إذا استمرت الأوضاع الحالية والسياسة الفلسطينية الراهنة (سياسة اللاسياسة)، سنجد ما يلي:
أولا: إن الإدارة الأميركية ستتراجع الى الوراء أكثر، وستتبخر مفاعيل ما تبقى من خلاف أميركي - إسرائيلي، وستحمل هي والمجتمع الدولي جزءاً من المسؤولية للقيادة الفلسطينية لأنها مكنت حكومة نتنياهو من التهرب من الاصطفاف الدولي ضدها، ولم تستطع ان تفرق بين إدارة اوباما وما تتيحه من فرص لحل القضية، وبين إدارة بوش السابقة التي ذهبت القيادة الفلسطينية معها بعيدا، رغم أنه مواقفها كانت أسوأ من مواقف الحكومة الإسرائيلية نفسها.
ثانيا: إن الحكومة الإسرائيلية ستتصرف بحرية أكبر لتنفيذ السياسة الإسرائيلية المستمرة لفرض الحقائق الاحتلالية على الأرض التي تجعل الحل الإسرائيلي أكثر وأكثر هو الحل الوحيد الممكن عمليا.
ثالثا: إن غياب سياسة مبادرة تعطي للوحدة على أساس البرنامج الوطني الأولوية المطلقة سيؤدي الى استمرار الانقسام وتعمق ظاهرة وجود سلطتين متنازعتين على الأرض، وفي ظل هذا الواقع ستنتعش مرة أخرى سياسة الخطوات الإسرائيلية أحادية الجانب، بحيث يمكن ان تقوم الحكومة الإسرائيلية بعد انتهاء المدة التي حددتها لمسرحية "كبح جماح الاستيطان" بفرض خطة "الانطواء" التي قام حزب كاديما على أساسها أو خطة شبيهة فيها، لكي يتم فرض الدولة ذات الحدود المؤقتة على الفلسطينيين من جانب واحد، بدون مفاوضات.
طبعا لن تكون الخطوة الأحادية الإسرائيلية الجديدة المحتملة شبيهة بما حدث في قطاع غزة، فالضفة الغربية محل أطماع توسعية وعنصرية إسرائيلية، وما سيجري فيها، وفي المناطق التي "ستنسحب" منها إسرائيل سيبقى في صلب الاهتمامات والأولويات الإسرائيلية. فمثلا لن تنسحب القوات المحتلة من القدس ولا من الحدود خاصة مع الأردن ولا من الأغوار، وستحتفظ إسرائيل بحقها بالتدخل متى شاءت.
إن إقدام إسرائيل على مثل هذه الخطوة قد تفرضها الخشية من خيار الدولة الواحدة ومن العودة للاحتلال المباشر، وهي يمكن أن تقدم عليها ردا على خطوات فلسطينية تعتبرها أحادية الجانب مثل إعلان الدولة أو السعي للاعتراف الدولي بها، او ردا على تقدم خطة سلام فياض لبناء مؤسسات الدولة، لأن استنكاف الفلسطينيين عن دورهم يعطيها حرية كاملة، وسيضع الفلسطينيين أمام أمر واقع يظهر فيه على الملأ، وأكثر من أي وقت مضى، أن القدس ضاعت، وأن قضية اللاجئين تم تجاوزها، وتبقى قضايا ترسيم الحدود الدائمة والاستيطان والمياه والأمن والعلاقات المستقبلية، كقضايا للتفاوض ما بين دولة فلسطين ذات الحدود المؤقتة المفروضة ودولة إسرائيل.
ماذا سيفعل الفلسطينيون إذا تحقق مثل هذا السيناريو؟
إما أن يرفض الفلسطينيون هذه الخطوة جملة وتفصيلا، وهذا يتطلب لجوءهم الى المقاومة ولكن بعد خسارة وقت إضافي، وبعد أن تصبح ظروفهم أسوأ من تلك القائمة الآن.
أو يرفضوها ويسارعوا للتعامل معها، باعتبارها أصبحت أمرا واقعا. ويمكن أن يهلل بعض الفلسطينيين لهذه الخطوة على اعتبار أنها تمثل "انجازا" وتمت بدون توقيع ولا تنازلات ولا مفاوضات في حين انها أخطر ما يمكن ان تتعرض له القضية الفلسطينية.
إن الخشية هي أن استمرار واقع الانقسام وحالة غياب القيادة واللاسياسة وعدم طرح خيار جديد في ظل أن الرئيس مرشح للاستقالة أو عدم الترشح، وقيام الحكومة باقرار وتنفيذ خطة بناء مؤسسات الدولة بدون أفق ولا تدخل سياسي وبمدخل خاطئ هو بناء المؤسسات، وتنفيذ خطة الحكومة كما يجب أمر مستحيل، ما دامت كما هي، وبمفردها بمعزل عن الشعب والمنظمة والقوى والأحزاب المختلفة، وبعيدا عن استراتيجية بديلة ما سيجعل سيناريو الخطة الإسرائيلية أحادية الجانب، المنسقة بشكل غير مباشر في المرحلة الأولى ومباشر في المرحلة الثانية، مع الفلسطينيين هي اللعبة الوحيدة في المدينة، وهي خطة قد تريح القيادة، لأنها لم تتنازل ولم توقع، ولكنها خطة لا تحل الصراع بل تدفعه للتأزم أكثر لأنها تفرض الحل الإسرائيلي.
إن الأمر الحاسم ليس أن توقع او لا توقع القيادة الفلسطينية، على أهمية ذلك بل ضرورة أن تبذل أقصى ما يمكن للقيام بواجبها لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بأسرع وقت وأقل التضحيات.
وقد يكون التوقيع أحيانا، رغم التنازلات أفضل ما يمكن أو أهون الشرين، على أساس أن "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" أو "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، فالحل المتفاوض عليه المدعوم بوحدة الشعب والمقاومة وبالعرب واصدقاء القضية الفلسطينية في العالم كله أفضل بما لا يقاس، من حل تفرضه إسرائيل من جانب واحد ولا نجد مفراً في البداية أو النهاية من التعامل معه.
إن الاستمرار بسياسة الانتظار بدون الحسم بأي اتجاه، تجعل القيادة الفلسطينية مضطرة لمواجهة مثل هذا السيناريو، ويمكن ان ترحب به أو تضطر للتعامل معه، وعندها ستأخذ عمليا بوجهة نظر منافستها حركة حماس، التي رفضت مبدأ التسوية السياسية والحل المتفاوض عليه، لأنها لا تريد ان تدفع الثمن المترتب عليه، ووجدت نفسها تعلق المقاومة وتقاتل على سلطة تحت الاحتلال وتسعى لاعتراف العدو بها، وأصبحت تبدي مرونة لقبول حلول مؤقتة انتقالية طويلة بحجة أنها لا تتضمن الاعتراف باسرائيل.
إن السياسة هي فن أفضل الممكنات ومجرم كل من لا يقوم بواجبه حتى لا تتلوث يداه. فمن يقود يجب أن يستعد لأي شيء إذا تطلب الأمر ذلك.
ان الثمن المدفوع فلسطينياً في ظل عدم التوقيع، قد يكون أكبر من ثمن التوقيع ولكن بعد الأخذ باستراتيجية مجابهة تستطيع أن توحد الفلسطينيين باتجاه تحقيق أهدافهم الوطنية!! ومن لا يريد المجابهة عليه أن يقبل بما يعرض عليه أو يرحل!!.