بعد "مؤتمر" أنا بوليس، واتضاح حقيقة انه لم يفتح الطريق لاستئناف مفاوضات جادة قادرة على انهاء الاحتلال وتحقيق السلام، وبعد ان هبت رياح توافقية في الاقليم وتحديداً، كما ظهر في الحضور الواسع لأنابوليس، وفي تحسين العلاقات الاميركية - الايرانية والسورية، وفي لبنان، وبعد حضور الرئيس الايراني اجتماع مجلس التعاون الخليجي، وعودة الدفء للعلاقات الاردنية - السورية، السؤال الذي يطرح نفسه بقوة متزايدة هو: هل تصل ارياح التوافقية الاقليمية الى العلاقات الفلسطينية الداخلية، وتساعد على انطلاق قطار المصالحة الوطنية الفلسطينية. أم ان الملف الفلسطيني بكل تفاصيله غير قابل للحركة لانه احتكار خاص لاسرائيل، وفقاً للتفويض الاميركي، فاسرائيل تستطيع ان تمارس تأثيراً واسعاً يشارك مشاركة أساسية في قرار هل يبدأ الحوار الداخلي الفلسطيني؟ وهل تتحقق الوحدة الوطنية الفلسطينية مجدداً؟
وما دامت المصلحة الاسرائيلية تقتضي مواصلة الانقسام السياسي والجغرافي الفلسطيني الذي يعطي اسرائيل هامشاً واسعاً من حرية الحركة والمناورة، فهناك عقبة ضخمة أمام المصالحة، فمن الجهة الفلسطينية تدعي حكومة اولمرت انها معنية بانجاح المفاوضات وتعترف بوجود شريك فلسطيني معتدل ويرغب بالسلام، ولكنه شريك وفقاً لادعائها ضعيف ولا يسيطر على كافة الاراضي المحتلة، فحماس صاحبة اليد العليا في غزة، ما يقدم ذريعة لاسرائيل تيرر عدم الانسحاب والامتناع عن تقديم اي شيء جوهري للرئيس أبو مازن وحكومة سلام فياض، فالمطلوب اسرائىلياً من الفلسطينيين اولاً وقبل اي تقدم في المفاوضات ان يقوي عودة السلطة، وان تبنى المؤسسات الفلسطينية خصوصاً الامنية القادرة على فرض سيطرة السلطة وكبح جماح الفلسطينيين وتوفير الأمن لاسرائيل، باعتبار ذلك شرطاً حاسماً لتقدم عملية السلام كما اتفق على ذلك في أنابوليس، وكما جاء في التفاهمات المشتركة التي أقرت هناك.
ومن جهة اخرى تقوم اسرائىل بكل ما تستطيعه لابقاء السلطة ضعيفة.
النتائج المخيبة للآمال في أنابوليس، والتي اتبعتها الحكومة الاسرائيلية بعيد الاجتماع، بطرح عطاء لبناء 003 وحدة سكنية جديدة في مستوطنة أبو غنيم، والرد الاميركي الباهت على هذه الخطوة الاسرائيلية والذي تجلى بالامتناع عن الإقصاء والإكتفاء بطلب توضيحات قدمتها اسرائيل بالقول ان القدس غير مشمولة بالالتزام الاسرائيلي، بعدم توسيع المستوطنات، هذان الردان الاميركي والاسرائيلي يكشفان ماهية المفاوضات التي استؤنفت وكيف انها متاهة جديدة، وهذا من المفترض ان يحرر السلطة من التزامها غير المعلن بعدم اجراء الحوار وعدم الوصول الى مصالحة وطنية كشرط لاستئناف المفاوضات، فالثمن لاستمرار الانقسام نجس، ونجس جداً، كونه ينحصر باستئناف مفاوضات بدون مرجعية، ولا جدول زمني، ولا ضمانات دولية أو أميركية ولا آلية تطبيق ملزمة، بحيث ستدور المفاوضات المقبلة حول المفاوضات، وبصورة أسوأ من سابقها، حيث ستدور المفاوضات حول شروط المفاوضات، وحول متى ستبدأ التفاوض على القضايا الجوهرية، وما هي هذه القضايا الجوهرية؟ هذا في الوقت الذي تستمر السياسة الاسرائيلية الرامية إلى خلق أمر واقع احتلالي استيطاني يطيل الحل الاسرائيلي، أكثر وأكثر، هو الحل الوحيد المطروح عملياً.
اذاً من الناحية النظرية، أصبحت الأطراف الفلسطينية المختلفة مجردة واجواء الوفاق المتزايد في المنطقة يحررها أكثر وأكثر، ولا يبقى سوى توفر الارادة الفلسطينية اللازمة عند القيادة الشرعية ولدى سلطة الأمر الواقع في غزة، لاعطاء الاولوية لمسألتين: الاولى، فك الحصار عن غزة، وعمل كل ما من شأنه تحقيق هذا الهدف، والثانية، تحقيق المصالحة الوطنية وانهاء حالة الانقسام الجغرافي والسياسي.
وحتى تتحقق المصالحة الوطنية، يمكن ان يبدأ حوار وطني شامل، لا يشترط بصورة الزامية لبدئه انهاء الانقلاب، ولكن يشترط لإنهائه انهاء الانقلاب ومعالجة كل الاسباب والجذور التي مهدت الطريق للانقلاب وجعلته ممكناً، وقادراً على النجاح بالصورة المذهلة والسريعة التي حصلت، فعلى سبيل المثال، يجب اعادة بناء الاجهزة الامنية على أسس وطنية ومهنية بعيداً عن الحزبية والفصائل، باعتبارها اجهزة للوطن، وليست للفصائل ومراكز القوى.
كما يجب الاتفاق على أسس وشروط استئناف المفاوضات المثمرة، واشكال النضال والمقاومة المثمرة، باعتبار المفاوضات والمقاومة، قضايا مصيرية، تتعلق بالحرب والسلام، ولا يمكن ان تترك لكل مجموعة وفصيل ليقرر فيها بشكل مستقل وبمفرده، وانما القرار فيها يجب ان يكون مسؤولاً ويتخذ عبر المؤسسات الشرعية الوطنية الموحدة في اطار السلطة والمنظمة، وهذا يحتاج لكي يتم بصورة جيدة إلى مراجعة عميقة وجريئة للتجربة الفلسطينية واستخلاص العبر والدروس.
وحتى تتم المصالحة وتستند على أقدام قوية وثابتة، لا بد من الاعتراف بشرعية السلطة بمختلف مؤسساتها، وبالمنظمة بمؤسساتها واحترام التزاماتها، حتى لو كان هناك من يعارض هذه الالتزامات، لأن المعارضة يجب ان تكون مسؤولة وتسعى لتوفير الشروط الكفيلة بتجاوز هذه الالتزامات، وليس تجاوزها بصورة تعسفية غير محسوبة، مع ضرورة الحرص على تفصيل وتطوير واصلاح المنظمة بحيث تكون حقاً وفعلاً، وبالقول والعمل، وعلى المستوى القانوني والسياسي وفي الواقع الفعلي، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطينني بمختلف اماكن تواجده.
ان أية مصالحة وطنية يجب ان يكون في صلبها الاتفاق على التوجه إلى الشعب، بوصفه مصدر السلطات والصلاحيات، جميعاً، داخل الوطن وخارجه، لاختيار ممثليه في المجلسين التشريعي والوطني. كما يجب ان يرافق أية مصالحة الاتفاق على تشكيل لجنة تحقيق موثوقة لمحاسبة كل المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت ويُندى لها الجبين، كما ان اية مصالحة حتى تنجح يجب ان تبتعد عن الاخطاء القاتلة السابقة المتمثلة بخطأين اساسيين: الخطأ الاول: الاتفاق على برنامج سياسي غامض حمال اوجه يفسره كل طرف كما يحلو له، ما جعل اتفاق مكة لم يستطع توحيد القوى الفلسطينية فعلاً، ولم يقدر على فك الحصار الدولي المفروض على السلطة.
الخطأ الثاني: اعتماد المحاصصة الفصائلية كأساس وحيد أو كعنصر حاسم في توزيع كعكة السلطة والمناصب والاجهزة والوظائف والوزارات.
واذا تم أو تعذر الاتفاق على البرنامج الوطني الذي يجسد القواسم المشتركة، والشراكة الوطنية التي تتسع للجميع وليس للفصائل فقط، يجب الاحتكام إلى الشعب، وإلى صناديق الاقتراع، وعلى أساس تحريم اللجوء للعنف والحسم العسكري في حسم الخلافات الداخلية، وثقافة الإلغاء والتخوين والتكفير والهيمنة والتفرد.
هل هذا ممكن، نعم، ولكنه صعب، وصعب جداً، ولا مفر من العمل لتحقيقه بسرعة وقبل فوات الأوان.