لا أستطيع أن أخفي فرحتي الغامرة بالتوصل إلى اتفاق حول البرنامج السياسي لحكومة الوحدة الوطنية، رغم إدراكي أن صيغة البرنامج يمكن أن تكون أفضل وأكثر قدرة على تحقيق وحدة وطنية أمتن، وعلى كسر الحصار المالي والعزلة الدولية.
رغم النواقص، فالاتفاق خطوة كبيرة إلى الأمام، وإذا استكملت بالاتفاق على توزيع الحقائب الوزارية، حسبما هو مطلوب، وتم تجاوز العقبات الداخلية والخارجية، التي تتمثل بالمعارضة الداخلية للاتفاق من عناصر تريد وحدة أقوى وأفضل، ومن عناصر وشرائح متضررة من الاتفاق، كونه أثبت عقم وجهة نظرها، وفشل رهاناتها، ولأن حكومة الوحدة تقلص من نفوذها وانفرادها وتحفظاتها لأخذ الحكم أو حصة أكبر منه. كما تتمثل بالمعارضة الخارجية من قوى إقليمية ودولية ترى أن الاتفاق لم يحقق الشروط الدولية، رغم أنه خطوة باتجاه تحقيقها، ولا يسمح لها باللعب بالورقة الفلسطينية بحرية.
المغزى التاريخي، للاتفاق حول حكومة الوحدة الوطنية، يكمن في أن جناحي الحركة السياسية الفلسطينية (الوطني والديني)، يدركان أكثر وأكثر حاجتهما المتزايدة للعمل المشترك. وهذه مسيرة بدأت بإعلان القاهرة في آذار 2005 وتواصلت بخوض الانتخابات التشريعية في كانون الثاني 2006 وتبلغ الذروة الآن بالاتفاق المبدئي على تشكيل حكومة الوحدة. وآمل أن تتوّج بإقلاع حكومة الوحدة. فالاتفاق دليل كبير على الاقتناع (المعترف به أو المنكر) على أن الشعارات والزيت والزعتر، لا ينفعان سياسة للحكومة، وان "حماس"، ورغم الأغلبية التي حصلت عليها في الانتخابات لا تستطيع أن تقود وحدها سفينة السلطة وسط العواصف العاتية. والاتفاق دليل على اقتناع "فتح"، بأن الرهان على الحصار والعدوان والعزلة الدولية والاعتقالات والانقلاب لا يجدي، ولا يعيد "فتح" للحكم منفردة. وهذا كله يعني أن الاتفاق اضطراري وليس اختيارياً، وهذا يجعله معرضاً للفشل إذا لم تتوفر الإرادة والمصلحة لإنجاحه. فالإضراب، لعب دوراً حاسماً، في تحقيق الاتفاق على الوحدة، والإضراب وسيلة شعبية سلمية ديمقراطية قدم رسالة لـ "حماس" بأن المزاج الشعبي قد تغير أو في طريقه للتغير. وهذا الأمر لا يمكن أن تسمح أو تغامر بحدوثه لأنها وصلت إلى الحكم عبر التأييد الشعبي، ولا يمكن أن تحتفظ بالحكم وأن توسع نفوذها به إذا خسرت الشعب، وعدم نجاح الإضراب بشكل ساحق قدم رسالة لـ "فتح" بأن "حماس" تحظى بتأييد كبير رغم العدوان والحصار والاعتقال وما تحقق ضرب في العمق، نظريات المؤامرة والانقلاب، التي نظر أصحابها إلى الإضراب كأداة لتحقيق الانقلاب أو مرحلة تمهيدية لتحقيق الانقلاب وليس كأداة ضغط ديمقراطية لتحقيق التغيير والوحدة وبما يخدم مصالح الشعب والقضية.
وعلينا هنا أن نصرخ عالياً، بضرورة نبذ العنف الذي حدث سواء لفرض الإضراب أو كسره، والإقلاع عن التفكير بالانقلاب حتى، - لو لا سمح اللّه - ، فشل الاتفاق على برنامج الحكومة بتحقيق حكومة وحدة وطنية، وعادت الأمور الى ما كانت عليه. فالخيار الوحيد المسموح به في هذه الحالة، أن تقود "حماس" طوال الفترة المحددة بالقانون، مع حق المعارضة بالمعارضة بكل الأساليب السلمية والديمقراطية، بما فيها استخدام سلاح الإضراب والتظاهرات، أما تشكيل حكومة طوارئ، فلن يحلّ شيئاً، لأن فترة هذه الحكومة محدودة، وهي شهر، بعدها يجب الحصول على الثقة من المجلس التشريعي.. ومثل هذه الحكومة لن تحصل على الثقة.
كما ان الدعوة لحجب الثقة عن الحكومة مستحيلة، لأن حجب الثقة، كما ينص القانون الأساسي، بحاجة الى 15% من عدد النواب، وليس من الحضور في الجلسة، أي 67 صوتاً، وهو عدد لا تستطيع المعارضة بكل كتلها، الحصول عليه، إلاّ إذا انضم أكثر من 10 أعضاء من كتلة التغيير والإصلاح، والمستقلين الذين تحالفوا معها، الى اقتراح حجب الثقة، وهذا أمر لا يمكن المراهنة عليه.
الوحدة على برنامج قادر على إحداث نوع من التعاون يبعد خطر النزاع والتقاتل الداخلي، ويمكن أن يحقق تقدماً في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ويمكن أن يحدث اختراقاً مهماً في الحصار المالي والعزلة الدولية، أفضل بكثير من بقاء الوضع الحالي الذي ينذر بقاؤه بالشرور وعظائم الأمور.
الاتفاق انتصار لفلسطين
وهنا، من المفيد القول، إن الاتفاق لم يعكس انتصاراً لفريق على آخر، وإنما الانتصار للجميع.. كما أن الاتفاق ليس استمراراً لبرامج "فتح" و"حماس"، كما هي حتى ينبري بعض الناطقين باسمهما بإعلان الانتصار على الآخر، أو التمترس وراء صيغ جامدة، مثل أن "حماس" لم تغيّر شيئاً، ولم تعترف بإسرائيل.
الحقيقة ان تنازلات متبادلة قد حدثت، وهذا ما سمح بالاتفاق.. فالرئيس و"فتح"، كانا يريدان برنامجاً لحكومة الوحدة الوطنية، يتضمن موافقة صريحة على الشروط الدولية الثلاثة: الاعتراف بإسرائيل، والالتزام بالاتفاقات السابقة، ونبذ العنف.. و"حماس" كانت تريد الاكتفاء بالصِّيغ التي تضمنها برنامج الحكومة الحالية ووثيقة الأسرى، وهي صيغ حمالة أوجه، وقابلة لتفسيرات متناقضة. البرنامج المتفق عليه، يمثل خطوة كبيرة نحو الالتزام بالشروط الدولية، دون الالتزام الصريح بها.
فالبرنامج ينص على أن الحكومة ستساعد المنظمة على القيام بتحرك سياسي فاعل، على أساس مبادرة السلام العربية، وقرارات الشرعية الدولية، وعلى احترام الاتفاقات التي وقعتها المنظمة بوصفها المرجعية الوطنية العليا للفلسطينيين.
وهذا وذاك، يمثّل اعترافاً ضمنياً بإسرائيل، واستعداداً للتعامل الإيجابي مع الاتفاقات، التي تتضمن، ضمن ما تتضمنه، وقف المقاومة واعتماد المفاوضات لحل الصراع.
أنا شخصياً، كنت باستمرار، من دعاة الاتفاق على التعامل مع الشروط الدولية بصيغة فلسطينية تسمح بكسر الحصار والعزلة الدولية، والحفاظ على الحقوق والكرامة الوطنية. وهذا يمكن أن يكون بالنص على الالتزام بالاتفاقات التي عقدتها المنظمة مع الاحتفاظ بحق مراجعتها رداً على تجاوزها من إسرائيل كلياً. وهذا يفتح الطريق للتملص من هذه الاتفاقات، التي كانت بمحصلتها، مكبّلة وضارّة، وتجاوزتها الأحداث، ويجب الدعوة والعمل، للشروع، بأسرع وقت، لإطلاق عملية سلام جديدة، مختلفة جوهرياً عن عملية السلام الميتة، تكون مرجعيتها واضحة، ومنذ البداية، وهي إنهاء الاحتلال.
ويجب ألاّ أختم هذه الفكرة دون أن أقول، إن البرنامج الذي اتُّفِق عليه قادر على اختراق الحصار والعزلة الدولية، وليس فكّه كلياً، رغم عدم وفائه بالشروط الدولية، بسبب حاجة الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل لعدم رفض برنامج الحكومة كلياً، للإيحاء بأنهما معنيتان بإحياء عملية السلام والمفاوضات، وذلك لمحاصرة تداعيات الحرب اللبنانية، ومنعها من تقوية دول وأطراف الممانعة، ولقطع الطريق على الأفكار العربية والأوروبية والروسية، التي بدأت تتحدث عن الحاجة لعملية سلام على أسس جديدة، وأفكار، مثل مبادرة السلام العربية، وعقد مؤتمر دولي فاعل وصاحب صلاحيات، كما أخذت تطرح موسكو مؤخراً.
الاختلاف على الحصص خطر كبير
وعلى أهمية الاتفاق على البرنامج السياسي، ورغم أنه العائق الأكبر أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية، إلاّ ان هناك عقبات أخرى لا يجب التقليل من أهميتها وقدرتها على إفشال الاتفاق.
فالكيفية التي سيتم بها توزيع الحقائب الوزارية، خصوصاً بين "فتح" و"حماس"، ستكتب للاتفاق حول الوحدة، النجاح أو الفشل.
فـ"حماس" في مشكلة، لأن لديها الآن 24 وزيراً، معظمهم أعضاء، وبعضهم قيادات فيها، وعليها أن تقنع معظمهم بالتخلي عن حقائبهم الوزارية، وبعضهم الآخر بتغييرها.. فلا يُعقل أن تحتفظ "حماس" برئاسة الحكومة والوزارات السيادية المالية والخارجية والداخلية، ولا أضيف الإعلام، لأن حقيبة الإعلام وُلِدت ميّتة في فلسطين، لأن أدوات الإعلام الرسمية خارج سيطرتها.
فما هو عدد الحقائب الوزارية لكل فصيل، ومَن سيشغلها؟ وهذا سيسبب مشاكل بين الفصائل وفي داخل كل فصيل.
لا بد من توزيع الحقائب الوزارية على أساس الكفاءة والنزاهة، بحيث تتم مراعاة حجم كل كتلة نيابية، والحاجة لإشراك عدد واسع من القطاع الخاص والمجتمع المدني والكفاءات الوطنية.
المطلوب مشاركة أساسية من الكفاءات الوطنية
وبكل صراحة، إذا أخذت الفصائل، خصوصاً "فتح" و"حماس"، حصة الأسد، كمّاً ونوعاً من الحقائب الوزارية، فهذا سيجعل طائر الحكومة عاجزاً عن الطيران بسهولة وسرعة.. فهذا الطائر بحاجة الى الفصائل، لأن حكومة خبراء دون فصائل ستكون لا سياسية، وضعيفة، وستكون عاجزة أمام ملفات الوضع الداخلي، خصوصاً الفلتان الأمني.. ولكن حكومة فصائل، أو تطغى عليها الفصائل، ستغلب أو يمكن أن تغلب المصالح الفئوية الفصائلية على المصالح الوطنية والقواسم المشتركة، وستشهد نزاعات على الحصص والوظائف والمناصب والأجهزة، وأشكال النفوذ المختلفة أكثر مما تحقق انجازات. وحتى يمكن تحقيق انجازات، مطلوب التعاون والمشاركة.. لا نريد وزارات، واحدة لـ"فتح"، والأخرى لـ"حماس"، وما تبقى للفصائل الأخرى.. بحيث كل وزارة تصبح مزرعة للفصيل الذي يكون الوزير منه.. وإنما نريد، حتى من الفصائل، أن تقدم وزراء من أكفاء لديها، ليس على صعيد الموقع الحزبي داخلها، وإنما على صعيد القدرة على انجاز وخدمة الوطن أولاً، والفصيل ثانياً.. أما إذا استمر وضع مصلحة الفصيل والفرد، محل مصلحة فلسطين، فعلى الوطن السلام.
بدون مشاركة أساسية للقطاع الخاص والمجتمع المدني، والكفاءات الوطنية، لن تكون حكومة الوحدة الوطنية، حكومة وحدة بمعنى الكلمة.. وهنا يجب ألاّ يكون البحث عن مستقلين اختيارهم الأساسي مبني على قربهم من هذا الفصيل أو ذاك، فهناك الكثير من المستقلين ليسوا مستقلين فعلاً، وإنما يجب السعي لمشاركة أصحاب الكفاءة والخبرة والنزاهة والقدرة على العمل والانتاج والإبداع والانجاز.. مع التذكير بأن التكنوقراط ليسوا أصحاب الشهادات فقط، وإنما أساساً، الخبراء الذين لديهم خبرة تمكنهم من القدرة على القيادة والعمل.. والوزير، أولاً وأخيراً، منصب سياسي، وإذا لم يكن الوزير مهما كانت كفاءته ومهنيته، على قدر من الوعي السياسي، فهو لن يستطيع أن يضع الخطط المناسبة، ولا تحقيق الانجازات المطلوبة.